الأرجح أن كثيراً من العلامات المتّصلة الأنساق الأولى للحياة على كوكبنا، تعرّضت للزوال بسبب تاريخ جيولوجي مضطرب للأرض، خصوصاً التغيّرات في بنية القشرة الأرضية، إذ انزلقت القشرة التي تحمل المحيطات، مع ما تحمله من رواسب تحت القشرة الحاملة للقارات. وكذلك تأثّرت تلك العلامات بالتدفّق المستمر للمياه، والانهمار المتواصل لأشعة شمسية مؤذية لأنها لم تكن تتعرّض للأثر الواقي لغطاء الأوزون، الذي لم يكن موجوداً أصلاً في حقب غابرة، إضافة إلى تأثير الكميّات الضخمة من الأوكسيجين، وهو كان غائباً أيضاً في الماضي السحيق، ومن ثم تراكمت كميّاته في هواء الأرض وغلافها الجوي.
3.6 بليون سنة وأكثر
جرى اكتشاف أقدم الميكروبات في ثنايا صخور في أستراليا، على يد الأميركي وليام شوبف، وتعود إلى ما يزيد على 3.65 بليون عام.وتبلغ أقدم رواسب الصخور 3.8 بليون عام، وعُثِر عليها في جنوب غربي غرونلند، ما يدلّ إلى وجود دائم للمياه السائلة.
واحتوت تلك الصخور على جزئيات عضويّة معقّدة. وذهب بعض العلماء إلى القول إن هذه العضويات مملوءة بالكربون العضوي، ما يشير إلى وجود عمليات تمثّل كلوروفيلي للضوء، في تلك الآونة نفسها. ولا تملك هذه الدلائل من القوة ما يكفي لفهم كيفية ظهور الأشكال الأولى للحياة على الأرض. واستطراداً، أشار علماء إلى أن الحياة على الأرض «تتحدى» مبدأ الثنائية في الذرات، بمعنى وجود ذرة مُضادة مقابل كل ذرّة فعلية، تشبه صورتها المنعكسة في المرآة. لا يوجد صورة مرآة للحياة. في المقابل، أظهرت بعض البحوث إمكان ظهور الكربون العضوي، انطلاقاً من غاز الميثان، الذي يرتكز إلى شكل آخر من الكربون. ولا يكفي هذا لفهم طريقة ظهور اللبنات الأولى للحياة.
واستطاع بحث ذائع الصيت أنجزه العالِمان الألمانيان هاينز شوسترهوسر وهاينز غونتر ويتمان (كلاهما من «معهد ماكس بلانك») إثبات أن الجزئيات العضوية الأولية ربما تشكّلت من تفاعل ثاني أوكسيد الكربون، مع الهيدروجين والحديد والكبريت. واستطاع العالمان تركيب بعض المواد الأولية، لكن النتائج لم تكن حاسمة. ومثلاً، اقتضت هذه التجارب الحصول على حرارة فائقة الارتفاع تصل إلى قرابة 350 درجة مئوية، ما يصعب تصوّر حدوثه طبيعياً، إضافة إلى أن الجزيئات العضوية نفسها لا تعود مستقرّة عند هذه الحرارة.
في تجارب أخرى، حاول علماء تقليد تركيبة الحمض الوراثي، وهي تعتمد على سلاسل ضخمة من قواعد ثلاثية المُكوّنات. وانطلاقاً من جزئيات عضوية صغيرة، جرى تركيب نوعين من هذه الثلاثية، كما ظهر أن الماء يلعب دوراً مزدوجـاً، عبر كونه وسـطـاً تنـحلّ فـيه المُـكوّنات العضوية من جهة، وأدائه دور المُحفّز الكيماوي من جهة ثانية. ولم ينجح العلماء في تركيب الحمض الوراثي (دي أن إيه) المتوافر في نواة الخليّة الحيّة، ولا نظيره «آر أن إيه» المرتبط بإنتاج الطاقة فيها، إضافة إلى دوره في نقل المعلومات التي يحملها الـ «دي آن إيه». ولاحظ هؤلاء العلماء أن ظهور الـ «آر أن إيه»، لا يأتي من توليفة عفوية، خصوصاً في ظل الظروف المضطّربة للأرض في ماضيها الغابر. وخلصوا إلى القول إن هذا الحمض، لو كان موجوداً، لتوجّب عليه أن يكون بسيطاً تماماً من جهة، ولكنه يجب أن يتمتع بما يكفي من القوة كي يتحمّل الاضطرابات الجيولوجية والتقلّبات المناخية الصعبة، وأشعة الشمس القاتلة وغيرها.
درس كوني
توصل هذه المعطيات إلى القول إن إعادة بناء الحياة الأولية في أنبوب اختبار عملية صعبة، لكونها تواجه مسألة التطوّر وأثر الزمن وديمومته. ربما يبدو القول مُدهشاً لدعاة الداروينية الذين اعتبروا التطوّر سنداً لمفاهيمهم، «صدفة» وجود الحياة على الأرض! واستطراداً، فالأرجح أن الأشكال الأولى للحياة كانت مختلفة كثيراً بالضرورة عن الحياة كما نعرفها اليوم، وهو أمر ربما لا يُرضي معارضي الداروينية أيضاً!
وبسبب عامل الديمومة الزمنية، لا تستطيع الكيمياء في المختبر أن تعيد إنتاج الشروط التي يفترض أنها قريبة من الأشكال الكيماوية السابقة لظهور الحياة على الأرض، ويُشار إليها بمصطلح «بري بيوتيك» ، بمعنى أنها «قبل- بيولوجية». إذاً، تسمح الاختبارات بتعزيز بعض الفرضيات، لكنها لا تسمح أبداً بأن تضفي عليها صفة الحقيقة التاريخية القاطعة. ثمة درس في هذا الأمر ينفع عند التفكير في مسألة البحث عن حياة في كواكب أخرى في الكون. وبحسب المعطيات الحاضرة، تتمحوّر المسألة في البحث عن وجود دائم للماء السائل، لأن وجوده على سطح كوكب ما يشير إلى ظروف تسمح بحمل لطيف لجزئيات عضوية تصلح للتطوّر. واستطراداً، ربما ظهرت هذه الجزئيات في ينابيع حارة تغمرها مياه بحر واسع لا تسوده ملوحة قاتلة. وبوضوح، أظهرت الملاحظات المستقاة من الرحلات إلى المريخ أن سطح الكوكب احتوى ماء سائلاً بطريقة دائمة، في حقب زمنية غابرة.
في المنحى نفسه، ثمة من يذهب إلى طريق مغاير كليّاً، ويبحث عن أشكال متطوّرة للحياة، وليس مجرد مخلوقات أولية لا تزيد عن الميكروب والفيروس. ومثلاً، يركّز مشروع «البحث عن ذكاء خارج الأرض» ، على رصد إشارات لاسلكية في الفضاء الخارجي، ترسلها حضارة كونية متقدّمة. لم يعلن عن رصد أي إشارة من هذا النوع، لكن البحث متواصل.