|
عضو برونزي
|
رقم العضوية : 77639
|
الإنتساب : Mar 2013
|
المشاركات : 741
|
بمعدل : 0.17 يوميا
|
|
|
|
كاتب الموضوع :
alyatem
المنتدى :
المنتدى الفقهي
بتاريخ : 31-03-2013 الساعة : 10:57 AM
شفافيّة العرض
ونعقد الكلام حول هذه المسألة ضمن أمور:
الأمر الأوّل
أنّني لم أكتب هذا الكتاب في التأريخ للمرحلة المنصرمة من أجل أن أجامل أحداً أو أكسب ودّه، ولا من أجل أن أستفزَّ أحداً أو أثير غضبه، بل لقناعتي التامّة بأنّ الماضي عنصرٌ فاعل من عناصر توليد المستقبل، واطلاع القارئ عليه- خاصّةً طالب الحوزة- يساهم بشكل رئيس في ترشيد وعيه في ظلّ جوٍّ لا تتوفّر فيه مقوّمات التوعية بالشكل الكافي. وأملي كبيرٌ في أن يكون القارئ الكريم متّزناً في تعاطيه مع هذه المسألة، خاصّةً إذا تمّ عرض التاريخ بهدوء بغية توظيفه إيجابيّاً، فلا أحبّب له التسرّع في اتّهام الكاتب.
الأمر الثاني
هناك الكثير من المفاصل في حياة الشهيد الصدر (ره) تعتبر غايةً في الحساسيّة، وعليها دارت
السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج1، ق1، ص: 40
رحى الخلافات بين مجموعات متعدّدة، فحاولتُ قدر المستطاع عرضها بهدوء تام ومع المحافظة على تماسك القلم. وقد سعيتُ إلى إعطاء الأطراف كافّة حقَّهم في بيان وجهة نظرهم، وذلك ضمن الأشخاص الذين تيسّر لي الوصول إليهم، لكن دون أن يسلبني ذلك الحقّ في النقاش والتمحيص بهدف بلورة المتبنّى التاريخي، دون التعدّي إلى الجانب المعياري غير المرتبط بالبعد التاريخي.
وثمّة عاملٌ ساهم- ربّما- في تكريس هدوء البحث إلى حدٍّ ما، وهو بُعد الكاتب الانتمائي عن التجاذبات التي ألمّت بتيّارات الساحة العراقيّة؛ فإنّه لا يميل عاطفيّاً إلى تيّار دون آخر لكي يتحرّك في باطنه نحو ما يصبّ في صالح ذلك التيّار.
الأمر الثالث
ليس الكاتب ممّن يعمل على تهميش دور المؤسّسة المرجعيّة ويدعو إلى عزلها وإهمالها، فإنّي لا أعتقد بالمقولة التي أطلقها الدكتور علي شريعتي تحت شعار (اسلام منهاى روحانيت)، أي الإسلام بدون مؤسّسة رجال الدين، وأنا أتطلّع دائماً إلى اليوم الذي تستطيع فيه هذه المؤسّسة أن تمارس دورها بالنحو الذي أريد لها، وتتّسع نشاطاتها لتكون السبّاقة إلى علاج مشكلات الناس بدل الانكفاء عنهم. ومن هنا، فإنّي منذ البدء لا أحبّ لأحدٍ أن يُمارس نوعاً من المزايدة حول هذه النقطة.
وممّا يعبّر عن هذا الموقف ما ذكره الشيخ محمّد جواد مغنيّة (ره) حيث قال:
«إنّي أرجّح الفوضى على تنظيم الساسة والسياسة، وأفضّل أنا- وكلّ عاقل- التقاليد النجفيّة بعلّاتها على أيّ تدخّل خارج عن الدين وأهله. وليس معنى هذا أنّي سأسكت وأصمت عمّا نحن فيه من عيوب وأخطاء حرصاً على الهيئة الدينيّة والحوزة العلميّة كما يقولون .. كلّا، ثمّ كلّا، كيف! وأنا أؤمن بأنّ السبيل إلى القضاء على الرذيلة والأخطاء هو أن نعرفها ونعترف بها، ونشعر بوجوب الخلاص منها. أمّا السكوت والصمت، أمّا التجاهل وغض الطرف عن العيوب، فمعناه الإمضاء لها والإبقاء عليها، ومعناه أيضاً تشجيع الأغيلمة ومن إليهم على تعدّي الحدود والفضول والتطفّل.
ثمّ ما معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ هل معناه أنّنا مسؤولون عن غيرنا ولسنا مسؤولين عن أنفسنا؟ ثمّ لماذا نحرص كلّ الحرص على أن يستر بعضنا على بعض، ونخاف هذا الخوف من النقد والصراحة؟ وهل من سرٍّ سوى الجبن والهلع من الفضائح والقبائح؟
لو كنّا على قليلٍ من الوعي والشجاعة، أو على شيءٍ من حب الخير لأنفسنا، لرحّبنا بالنقد والناقد، بل وبحثنا عنه في كلّ مكان، فإن لم نجده أوجدناه وخلقناه، على شريطة أن يكون مخلصاً في أهدافه، خبيراً بالأسواء والأدواء، يجب أن نطلب هذا الناقد وندعوه للنقد، تماماً كما يجب أن نبحث عن الطبيب الناصح الماهر وندعوه للعلاج.
وبالتالي فإنّي سأنتقد كلّ عيبٍ ونقصٍ أراه في قومي الذين أشهد الله وأنبياءه وأولياءه على المرارة التي أعانيها من أجلهم .. إنّي أدين لهم بالإخلاص وأتمنّى لهم كلّ الخير، وأن يكونوا فوق الناس أجمعين، ولذلك
أنتقد كلّ عيبٍ فيهم ونقص، وأعلنه على الملأ، ولا أخشى لومة لائمٍ من كبيرٍ أو حقير ما دمتُ مخلصاً لله ولهم، واعياً ما أقول، آملًا أن يتحسّسوا ويشعروا بالمسؤوليّة تجاه خالقهم ونفسهم وأمّتهم.
وأهلًا ومرحباً بمن يهدي إليّ عيوبي بقلبٍ طاهر وعقلٍ ساهر» «1».
السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج1، ق1، ص: 41
ومن ناحية أخرى، أجد من الضروري أيضاً التأكيد على أنّ ما بات يُعرف بالحركة الإصلاحيّة ليس عبارة عن جسم واحد موحّد الأهداف والرؤى في ما يتعلّق بالموقف تجاه دور المؤسّسة المرجعيّة أو مؤسّسة رجال الدين؛ لأنّ هذه الحركة تشمل- بالمعنى الواسع للكلمة- المصلح الذي ينطلق في تحرّكاته من حرصه وغيرته على الإسلام، اقتداءً بالإمام الحسين (ع) الذي رفع (الإصلاح) شعاراً، كما تشمل من يهدف إلى التغيير، لكن لا انطلاقاً من دافع ديني. وليعلم القارئ أنّ هذا الكتاب قد جاء تلبيةً لنداء أطلقه كبار الدينيّين من أمثال الإمام روح الله الموسوي الخميني (ره) وغيره، الذين يدعون إلى إصلاح الوضع القائم من أجل تكريس الإسلام في نفوس الناس، لا عزله والعياذ بالله تعالى.
وأنا على الصعيد الشخصي أعتقد تماماً بصحّة ما يذكره السيّد الصدر (ره) في إحدى محاضراته حيث يقول:
«الحوزة هي واجهة الإسلام في نظر الأمّة وهي المعبّر الشرعي عن هذا الإسلام وأحكامه ومفاهيمه وحلوله لمشاكل الحياة، وهذه النظرة من الأمّة إلى الحوزة ليست أمراً تلقائيّاً أو مدسوساً أو مصطنعاً، وإنّما هي جزء من التخطيط الواعي الذي وضعه سيّدنا صاحب العصر (ع) حينما أنهى عهد النيابة الخاصّة واستبدل ذلك بالنيابة العامّة، وكان معنى الاستبدال بالنيابة العامّة جعل الطليعة الواعية المتفاعلة مع الإسلام فكريّاً وروحيّاً وعاطفيّاً، جعل هذه الطليعة الواعية العاملة العادلة هي المسؤولة عن حماية الرسالة، وهي المؤتمنة على هذه الأمانة الغالية التي اضطرّ سيّدنا القائم (ع) أن يغادرها إلى غيبة قد تطول»«2».
إلّا أنّ هذا لا يمنعني من الاعتقاد بأنّ من الممكن لأهل الداخل والخارج على حدٍّ سواء المساهمة في تشخيص أمراض هذا الجسم؛ لأنّ بعض هذه الأمراض ممّا لا يُمكن اكتشافه إلّا لمن عاش في داخله وعاين بنفسه الكثير من مشكلاته، وبعضها الآخر ممّا تعمى عيون أهل الداخل عن رؤيته، لأنّ التسليم غير المبرهن الذي قد ينمو مع الطالب تجاه بعض المسائل يمنعه عن رؤية بعض الأمراض. ولكنّي مع ذلك أجد- لمبرّرات عديدة، بعضها تاريخي- أنّ الإصلاح العملي الذي يتجاوز مرحلة توصيف المرض لا يُكتب له النجاح إلّا إذا انطلق من الداخل نفسه، وتسلّمت المرجعيّة أمر ريادته.
كما أنّ كلامي هذا لا يعني المصادقة على المسارعة في اتهام الحركات الإصلاحيّة، خاصّةً تلك التي تسبح في فلك الدائرة الضيّقة التي ألمحنا إليها، ولم أجد- تاريخيّاً- ما يعزّز لي كون التيّار الذي يقابل التيّار الإصلاحي أكثر حرصاً على هذه الحوزة وهذا الكيان من التيّار الإصلاحي نفسه-
__________________________________________________
(1) عقليّات إسلاميّة 1: 490 - 491
(2) من محاضرة للسيّد الصدر (رحمه الله) ألقاها سنة 1385 هـ، تنشر قريباً بإذن الله تعالى ضمن كتاب (ومضات) عن (المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر (قدس سره)).
السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج1، ق1، ص: 42
بمعناه الضيّق- المُتّهم بعمله على تقويض المؤسّسة المرجعيّة. ولهذا تجد السيّد محسن الحكيم (ره) مثلًا يصدّ حسين الصافي الذي أتاه شاكياً السيّد محمّد باقر الصدر، بقوله: «وهل أنت أحرص من السيّد محمّد باقر الصدر على الحوزة العلميّة؟!» «1». كما يبدو لافتاً هنا نصُّ الإمام الخامنئي الذي يقول فيه:
«الجموا كلّ من يثير الوساوس في وجه أيّة دعوة إصلاحيّة، هؤلاء يسكتون أمام ممارسات العدو، لكنّهم ينبرون إلى إلصاق تهمةٍ ما بكلّ صرخة إصلاحيّة، وكلّ حديث نابعٍ من قلبٍ متألّم وحريصٍ على الإصلاح» «2».
ومهما يكن من أمر، فنحن نسجّل هذه الكلمات لسدّ الطريق على من يحلو له المسارعة إلى تصنيف الكاتب ضمن الأعداء والحاقدين والمناوئين وما إلى ذلك من ألفاظ مستهلكة، لمجرّد اختلافه معه في وجهة النظر حول ما يتعلّق بدور الحوزة، أو حول المصلحة من وراء عرض تاريخها بشفافية.
الأمر الرابع
إذا أردتُ اللجوء إلى المصطلحات العلميّة، فالحقيقة أنّني لم أكن لأقدم على تدوين تاريخ الحوزة العلميّة خلال نصف قرنٍ من حياتها بهذه الشفافية لولا تماميّة المقتضي لذلك وارتفاع المانع:
أمّا المقتضي، فهو المساهمة في ترشيد وعي الناس عموماً والطلّاب خصوصاً، وهذا الملاك يبدو واضحاً من نصوص الإمام الخميني (ره) التي شدّد فيها على ضرورة عرض التاريخ بدون إخفاءٍ وتحفّظ، حتّى لو أدّى ذلك إلى تضرّر فلان أو فلان. وقد اقتصرنا على أيّة حال على القدر المتيقّن ممّا يجوّزه هذا المقتضي. أمّا ما يمكن تصويره من موانع، فبحسب ما يخطر الآن بالبال أمور:
المانع الأوّل: وهو واردٌ بالعنوان الأوّلي، وهو عبارة عمّا يمكن أن يواجهه التأريخ بشفافيّة من إشكاليّة شرعيّة حول مسائل الغيبة والإهانة وما إلى ذلك.
المانع الثاني: وهو واردٌ بالعنوان الثانوي، حيث يلزم من التأريخ بشفافيّة انكفاء الناس عن المرجعيّة، وابتعادهم عنها، الأمر الذي يجعل تديّنهم في معرض الخطر.
المانع الثالث: وهو واردٌ بالعنوان الثانوي كذلك، إذ يلزم الهرج والمرج في ما يتعلّق بردّة الفعل.
* أمّا حول المقتضي الأوّل، فلو قدّر لتجربة من هذا القبيل أن تأتي على يد إنسان غير متشرّعي لأتت بصورة مختلفة تماماً. وإذا كان ذكر بعض القضايا يوجب الاستشكال من ناحية الحكم الشرعي، فلا بدّ من الإشارة إلى أمور:
1- أنّ النقّال بقّال كما يقولون. وعندما أذكرُ في الكتاب أنّ فلاناً فعل كذا ثمّ أذكر المصدر، فهذا لا يعني أنّني أقول إنّه فعل كذا، بل يعني أنّني أقول: ذكر المصدر الفلاني أنّ فلاناً فعل كذا. ومن الواضح أنّني أحاسب على صدقي في النقل عن المصدر لا على صدق المصدر في ما ذكره.
_________________________________
(1) انظر أحداث سنة 1382 هـ
(2) الحوزة العلميّة في فكر الإمام الخامنئي: 165.
السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج1، ق1، ص: 43
2- إذا كان ما تقدّم لا يُخرج من المأزق الشرعي، فإنّ المسألة على أيّة حال تتبع تقليد المرء إن كان من المقلّدين، ومقلَّدي يجوّز هذا السرد ما لم يقصد السارد الانتقاص، والله تعالى شاهدٌ على أنّ هذا القصد لم يكن دخيلًا، وعلى من يختلف معي في وجهة النظر أن يأخذ بعين الاعتبار براءة ذمّتي من جهة تقليدي، ولا يحمّلني قناعاته أو تقليده هو.
وقد جاء في الاستفتاء الموجّه إلى قائد الأمّة الإمام الخامنئي ما يلي: «الشخصيّات التأريخيّة التي لها آثار علميّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة، وأصبح أمرها متعلّقاً بعموم المجتمع، فلو تعرّضوا للنقد سلباً أو لتقييم آرائهم ومواقفهم وأخلاقهم وجزئيّات حياتهم، وقد يكون بعض ذلك عيباً، فما الحكم؟».
وجاء في الجواب: «لا مانع من ذلك ما لم يقصد الانتقاص» «1»، فكيف إذا اكتفينا بالعرض وأحجمنا عن التقييم والنقد المعياريّين؟!
ولن أطيل في المسألة بعد أن كنتُ مُبرَأ الذمّة بحسب تقليدي. ولكنّي أودُّ الإشارة إلى أنّنا إن لم نقل: إنّ البحث التاريخي برمّته خارج عن مورد البحث، وأنّ أدلّة التحريم منصرفة عنه، فإنّ مواد الكتاب خارجة عن موضوع الاستشكال الشرعي موضوعاً؛ باعتبار عدم كونها عيباً، أو باعتبار التجاهر .. وإلّا فحكماً؛ باعتبار تزاحم الملاكات وتقديم ما نحن فيه لغرض شرعي صحيح بحسب ما نطمئنُّ إليه في ظلّ توجيهات شخصيّات من قبيل الإمام الخميني (ره) والإمام الخامنئي. وربّما لهذا السبب ذكر بعض العلماء المعاصرين أنّ المحرّم من الأمر يقتصر على الأمور الشخصيّة الناجمة عن الحسد وما شابه، ولا يشمل الأمور الاجتماعيّة التي يجوز فيها الانتقاد العلني «2»، فكيف إذا لم يكن هناك انتقاد، كما هو الحال في كتابنا هذا؟!
والإمام الخميني (ره)- مثلًا- وإن كان من أكثر المتشدّدين في بحثه حول المسألة من الناحية الفقهيّة في كتاب (المكاسب)، يطلب من السيّد حميد روحاني-...- تدوين التاريخ كما وقع ودون ستر للأمور، حيث يقول (ره) ما ترجمته:
«.. وعليكم أن تكتبوا الحقائق وإن لزم من ذلك تضرّركم أو تضرّر من تربطكم بهم علاقة .. إذا أردتم أن يكون التاريخ الذي تكتبونه مفيداً للإسلام والمسلمين، فعليكم أن تكتبوه بعيداً عن أيّة أغراض. حاولوا أن تكونوا مؤرّخين بهذا النحو. وعليكم أن تبيّنوا المسائل والحوادث كما وقعت ولا يكوننّ في ما تكتبونه مبالغة أو سترٌ للأمور» «3».
إنّ هذه النصائح والإرشادات لا يُمكن فصلها عن الجانب الفتوائي بذريعة عدم تدوينها في رسالته العمليّة، بل يُمكن أن نستفيد منها أنّه يرى مجال البحث التاريخي خارجاً عمّا كان بصدد التنظير له في بحثه الفقهي إذا تجاوز الأمر المشاحنات والطعونات الشخصيّة المحضة، وكان الهدف
__________________________________________________
(1) الشهيد الصدر بين أزمة التاريخ وذمّة المؤرّخين: 203، نقلًا عن صحيفة (المبلّغ الرسالي)، العدد المؤرّخ بـ 21 / شعبان / 1415 هـ
(2) يادنامه شرق، ضميمه رايگان تاريخ وانديشه، شماره 12، ويژه آيت الله بروجردى، فروردين85 : 7
(3) نهضت امام خمينى، ط 15، 1: 11- 12.
السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج1، ق1، ص: 44
منه تدوين التاريخ بكبرياته، وذلك بغية تعريف الأجيال بمجرياته من أجل ترشيد وعيهم وتزويدهم بالدروس والعبر.
وإن كنتُ مخطئاً ولم يكن الأمر كذلك، فلا شكّ في أنّ سدّ باب تدوين التاريخ بغالبه هو الأولى والمحكّم في المقام بعد ملاحظة الأمور المتقدّمة.
إضافةً إلى ذلك، فقد وجدتُ من المصلحة إيراد بعض الحوادث التي وردت في مصادر منشورة ومتداولة، ولكنّنا أوردنا فيها بعض القرائن التي لم ترد في تلك المصادر، أو أضفنا تعليقاً يوجّه بعض الأمور، ممّا صبّ في نهاية المطاف في صالح من يُظنّ أنّنا نتهجّم عليهم.
وبعيداً عن ذلك، فقد تعرّض السيّد الصدر (ره) مؤخّراً إلى انتقادٍ طال تحرّكاته واعتقاداته، بل طال شهداء الحركة الإسلاميّة في العراق وشرعيّة إقدامهم على ما أقدموا عليه. وكان من الممكن مباركة هذه الخطوة في حال توفّرها على المبرّرات العلميّة والأخلاقيّة الكافية، إلّا أنّ ذلك لم يكن متيسّراً في ظلّ معاينتي شخصيّاً لموارد تقطيع النصوص وسلخها من سياقها بطريقة تبعد البحث عن أجوائه العلميّة بُعدَ ما بين الأرض والسماء.
وقد لاحظنا أنّ المرجعيّة لم تقدم على استنكار هذه الخطوة، مع أنّها تحمل في طيّاتها ما هو أعظم وأخطر بكثير ممّا يظنّه القارئ مودعاً في هذا الكتاب. ولو صحّت الرواية التي نقلت حول كيفيّة تسوية الأمور بهدف تراجع أحد المراجع عن قراره القاضي بتعطيل الحوزة دروسها استنكاراً، فهذا يكشف عن تشجيع المرجعيّة- أو بعض وجوهها على الأقل- على الخطوة المذكورة ومباركتها لها.
وأجمل الوجوه المفسّرة لما جرى هو أنّ هذا الموقف كان نابعاً إمّا من القناعة بضرورة نقد السيّد الصدر (ره) بالذات وبهذا الشكل، لمصلحة تراها هي، أو من حرصها الشديد على تكريس ظاهرة نقد المؤسّسة المرجعيّة بشكل عام وتشجيعها عليه، وذلك تأسّياً منها بأمير المؤمنين (ع) الذي لم تمنعه عصمته من الامتثال وغريمه أمام القاضي «1»، في حادثةٍ ربّما فهمتها المرجعيّة تأسيساً منه (ع) لمفهوم اجتماعيٍّ مطّرد يُلزم من بيده أزمّة أمور المجتمع بأن لا يترفّع بنفسه عن النقد.
فعلى الأوّل، قيل بالمصلحة في نقد غيره. أمّا على الثاني، فالأمر سهلٌ.
ومهما يكن من أمر، فإنّي لم أتعرّض في كتابي هذا إلى خصوصيّات الأشخاص خارج الدائرة المتعلّقة بمهمّة الكتاب ورسالته التي أراها له، فلم أتدخّل في حياتهم الشخصيّة، ولم أذكر ما يكون موضوعاً لحقّ الله تعالى خاصّة، فهو على الأقلّ لا يعنيني سواء في مهمّتي أم خارجها، وقد أهملت ذكر العديد من الأخبار المتعلّقة ببعض الشخصيّات، لأنّها ذات طابع شخصي محض ولا ارتباط لها بالشأن العام، كما لم أبدِ اعتناءً في تسجيل ما يتعلّق بالأشخاص الذين لا يعتبرون وجوهاً اجتماعيّة،
__________________________________________________
(1) هذه الرواية رواها أهل السنّة (انظر مثلًا: المغني لابن قدامة11: 444)؛ ونقلها علماؤنا في كتبهم الفقهيّة (انظر مثلًا: المبسوط8: 149؛ كفاية الأحكام2: 681؛ كشف اللثام 10: 47).
السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج1، ق1، ص: 45
لأنّ ما جوّز لي التأريخ قد لا يشمل حالات من هذا القبيل.
وعلى أيّة حال، وحتّى أدرّب نفسي على عدم تحويل المواقف الرساليّة إلى مواقف شخصيّة، فقد أخذت على نفسي عهداً بالاستغفار والدعاء لمن وقع في كتابي بنحوٍ قد يضعف موقفه، من الماضين والأحياء، حتّى من أكاد أطمئنُّ إلى عدم نظافة موقفه، عسى أن يساهم ذلك في تنزيه الموقف عن كونه موقفاً شخصيّاً.
* أمّا المانع الثاني فغير مستقر؛ لأنّنا لم نؤرّخ لاتجاه واحدٍ من اتجاهات المرجعيّات القائمة، وإنّما أرّخنا لخطّين نعتقد بأنّهما يكادان أن يكونا متباينين في ما يتعلّق برؤيتهما الكونيّة، وإذا قدّر للقارئ الانكفاء عن أحدهما، فإنّه سيتفاعل مع الآخر.
ويحلو لي هنا أن أورد نصّاً يسجّل فيه السيّد الصدر (ره) بعض ما ينفعنا في المقام، إذ يقول (ره) :
«وأتذكّر أنّ شخصاً من أجلّة علماء تبريز ومن المحبّين والمخلصين لنا «1» قد كتب لنا بعد صدور تعليقتنا على منهاج الصالحين يطلب السكوت عن فتوى طهارة أهل الكتاب وتبديل ذلك بالاحتياط، وذكر دامت بركاته أنّ جملةً من الأخيار في تبريز تعوّدوا على استخباث أهل الكتاب ونجاستهم، فهم ينقبضون عمّن يقول بالطهارة. وقد كتبتُ إليه دامت بركاته أنّي أعلم بذلك ولكنّي ألاحظ في نفس الوقت الآلاف ممّن يهاجر إلى بلاد أهل الكتاب ويقعون في محنة من ناحية القول بالنجاسة حتّى حدّثني [الثقات] أنّ جملةً من المتديّنين الذين هاجروا إلى هناك تركوا الصلاة وخرجوا تدريجاً من التديّن رأساً لأنّهم يرون النجاسة محدقة بهم، فيرفعون يدهم عن أصل الفريضة، فلو أوقفني المولى القدير سبحانه وتعالى للحساب بين يديه وقال لي كيف سبّبت بعدم إبرازك للفتوى التي تراها لانحراف هؤلاء وإحراج الكثير من الناس واستدراجهم إلى المعصية، فماذا سوف أقول. إنّني أيّها السيّد الجليل أعاني نفسيّاً وروحيّاً معاناةً شديدةً في مثل هذه المواقف، وأخشى كثيراً أن أتصرّف تصرّفاً أؤثر فيه مصلحتي الخاصّة على مصلحة الدين، فأنا أعلم أنّ هناك عدداً من الصالحين والمتشرّعة الأبرار قد أخسرهم شخصيّاً بسبب إبراز الفتوى المذكورة التي هي على خلاف المعهود في أذهانهم، وقد يقولون ما لنا ولهذا الفقيه؟! ولنتركه. ولكنّ هؤلاء إذا قدّر لهم أن تركوني فلن يتركوا الدين، وإنّما يتركوني إلى فقيهٍ آخر، لن يتركوا الصلاة، لن تتهدّد كرامتهم بشيء. إذن فلن يخسرهم الدين، وإنّما أخسرهم أنا شخصيّاً إذا لم يوجد من يشرح لهم واقع الحال ويرفع ما في نفوسهم. وأمّا أولئك الذين يقعون في ضائقة من القول بالنجاسة ويصيبهم الضعف الديني تجاه ذلك فيتحلّلون تدريجيّاً من واجباتهم، فإنّهم سيخسرهم الدين رأساً» «2».
ويقول (ره) في رسالة أخرى له:
«... وليست المرجعيّة الصالحة شخصاً، وإنّما هي هدف وطريق، وكلّ مرجعيّة حقّقت ذلك الهدف والطريق فهي المرجعيّة الصالحة التي يجب العمل لها بكلّ إخلاص» «3».
_________________________________________
(1) يبدو لي أنّه السيّد محمّد علي القاضي الطباطبائي (رحمه الله)
(2) انظر أحداث سنة 1397 هـ
(3) انظر أحداث سنة 1399 هـ.
السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج1، ق1، ص: 46
وهذا ينطبق على ما نحن فيه؛ فإنّ إقبال الناس على المرجع أو انكفاءهم عنه- في مسألتنا هذه- لا علاقة له بالتديّن، وإنّما هو مرتبط بوعي المرجع وجوداً وعدماً، فإذا قدّر للقارئ الانكفاء عن مرجعيّات معيّنة، فإنّه لن يترك الدين، وإنّما سيتركها إلى مرجعيّات أخرى قد تكون بنظره أكثر وعياً أو أكثر تحقيقاً لأهداف الإسلام التي يراها، ولن يخسره الدين بذلك، وإنّما تخسره تلك المرجعيّات على الصعيد الشخصي، وهذا لا ضير فيه طالما أنّ من المفترض أن تكون المرجعيّات- بحسب تعبيرنا- مأخوذة على نحو الطريقيّة لا الموضوعيّة.
* أمّا المانع الثالث، فيحتاج إلى إعادة نظر؛ وإن كان ثمّة مفاسد، فمن قال إنّها أعظم من مفسدة بقاء الوضع على ما هو عليه. ويبدو أنّ الإمام الخامنئي لا يعتقد بهذا المانع، حيث يقول في نصٍّ سبق أن سجّلناه:
«إنّ عدم الاعتراف بالنقص يعني عدم إمكانيّة معالجته. إنّ هذه المهمّة مناطة بكم لا سيّما الفضلاء الشباب: اطرحوا هذا الموضوع وكرّروا طرحه، اكتبوا واستدلّوا عليه، ناقشوا الذين يعارضون هذا المنحى، جادلوهم بالحق، وأثبتوا لهم أنّ هذا المريض مريضٌ حقّاً، وأنّ هذا الجسم الحي يعاني الألم، وما لم يفهموا ألمه، سيبقى مريضاً دائماً»«1»، وذلك بعد قوله:
«لكنّ وضع الحوزة يختلف اليوم عمّا كان في الماضي، فهي اليوم متخلّفة كثيراً عن زمانها، ومساحة هذا التخلّف ليست صغيرة»«2».
والخلفيّة التي قد تدفع الناس إلى إحداث حالة من الهرج والمرج بسبب نسمة من النقد تطال الجسم، بل حتّى بسبب توصيفٍ لمرضه دون نقده، إنّما هي من صنع يدي هذا الجسم نفسه ووليدة النهج الذي دأب على تكريسه، ولو عن غير قصد. فلو أنّه حاول على مدى السنين المتراكمة أن يُفهِم الناس أو يشعرهم- ولو بطريقة غير مباشرة تحافظ على مكانته المقبولة بل والمرموقة- بأنّه لا يعلو على النقد، وبأنّه فعلًا غير معصوم، وبأنّ وجود أخطاء يُمنى بها خلال مسيرته وضعٌ طبيعي في ظلّ غياب إمامة الحق ذات العصمة المطلقة، وبأنّ نيابته العامّة عن هذه الإمامة الحقّة لا تسحب عليه ما لها من قدسيّة وعصمة مطلقتين ... لو كان منه هذا، لما جرّ عليه إبداء حفنة من الملاحظات الهرج والمرج.
ثمّ إنّنا لم نمارس في هذا الكتاب نقداً ولم نبرز رأياً أو كلاماً معياريّاً ليستتبع ردّات فعل بدرجة معيّنة، وإنّما اقتصرنا على العرض والتوصيف ليشكّل ذلك خطوة مخفّفة.
__________________________________________________
(1) الحوزة العلميّة في فكر الإمام الخامنئي: 166
(2) الحوزة العلميّة في فكر الإمام الخامنئي: 150.
|
|
|
|
|