النظرة الماضوية والفكر السلفي دراسة في فلسفة نهاية التاريخ
بتاريخ : 09-05-2013 الساعة : 09:15 PM
الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي
مقدمة:
شكلت الماضوية موقفاً سلبياً على مسار حركة التاريخ، أسس لظهور النزعة السلفية في الفكر الإسلامي كما ظهرت سابقاُ في الفكر اليهودي، حين صار التشبث الأعمى بفكرة الشعب المختار، ورفض كل الديانات والمناهج الفكرية التي جاءت بعد تاريخ الديانة الموسوية، فالتشبث بالنظرة السلفية والرؤية الماضوية بكل سلبياتها شكلت عائقاً واقعياً أمام تطور الفكر الإنساني، وسعت إلى حصر الموقف التاريخي بالماضي السلفي السلبي وليس بالماضي الرسالي الإيجابي.
فالسلفية لا تؤمن بالرسالة السماوية كموقف حضاري، وهي تقف على النقيض من التطور الموضوعي والعقلاني لحركة التاريخ، إذ أن التطور يعني ظهور مقومات ومعايير جديدة تناقض رجعية الفكر السلفي وماضويته.
كان القرآن الكريم قد بين هذا الموقف السلبي واللاعقلاني واللاديني للفكر السلفي، وحارب الإنتماء إليه كما رفض تبني الفكر السلفي كمثل عليا لانه يدعو إلى قيم منحطة تناقض الرسالة السماوية. فقد قال الله تعالى:
﴿ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُون * وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴾ . (1)
في هذه الدراسة الموجزة من سلسلة دراساتي المقتبسة من كتابي (فلسفة نهاية التاريخ)، أسلط الضوء على رجعية الفكر السلبي وسلبيات الرؤية الماضوية وإثرها في نشوء التنازع التاريخي كجزءؤ من عملية الصراع بين التطور الحضاري والماضوية المنحرفة عن حركة التاريخ.
ونحن هنا نسجل موقفاً تاريخياً ألزمنا أنفسنا في تقديمه لتوثيق الحقيقة التاريخية في ضوء إزدياد إنحراف الفكر السلفي وكشفه عن حقيقته في التشبث بالماضي الرجعي على حساب الحقائق العلمية التي عرضها التاريخ الإسلامي على مسار حركتة خلال خمسة عشر قرناً.
السلفية والنظرة السلبية للرسالة الإسلامية:
منذ البدء شكلت الرسالة الإسلامية عائقاً أمام النظرة القبلية والعشائرية السائدة في المجتمع الجاهلي، فالولاء للقبيلة وتعظيم رئيسها ومنحه رتباً والقاب زائفة، كانت الشكل الاساس للعلاقة بين الفرد والقبيلة، والنظام الطبقي كان قد إستلب خصوصية الأفراد وشكل مانعاً من التطور الطبيعي داخل المجموعة الإجتماعية.
لم تتمكن الرؤية السلفية من مغادرة النظرة القبلية والعشائرية لزعيم القبيلة باعتباره الحاكم، فالخضوع لزعيم القبيلة موقف سلفي يعود للعصور الجاهلية المغرقة في خضوعها للسلطة والرافضة للتخلي عنها بأغتبارها احدى مقومات العلاقة بين الحاكم والمحكوم في النظرة العشائرية، وعندما حدث الإنحراف عن المنهج الاسلامي وفق مقولات عمر بن الخطاب (الرسول يهجر) في واقعة رزية يوم الخميس، التي كرستها حادثة السقيفة المشؤومة، وظهر أمراء بعيدين عن المنهج الاسلامي الاصيل حتى وصل الطلقاء للسلطة باسم الخلافة المزعومة، فظهرت أحاديث نسبت إلى رسول الله صلوات الله عليه وآله زوراً وبهتاناً الغاية منها تكريس الفعل السلبي بتفضيل المفضول على الفاضل، فجاءت احاديث تمجد الحاكم وإن كان ظالماً وتأمر الناس والعلماء والاحرار بان يخضعوا له تحت حجة انها مقولات الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله، يتم نقلها عن رواة بعضهم من خيار الصحابة وآخرون منكرون لا يعرف لهم في تاريخ الرجال أسم ولا موضع، فكان الحديث المنقول عن حذيفة بن اليمان، سأل الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله قال: " يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيه رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان أنس. قلت: كيف أصنع يارسول الله؟: قال: تسمع وتطع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع ". (2)
وحديث ينقل عن ابن عباس (رض) عن النبي صلى الله عليه وآله: " من كره من أميره شيئاً فاليصبر فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتةً جاهلية ". (3)
وهذه أحاديث غريبة تناقض الغاية من النبوات والرسالات السماوية، الداعية إلى تحرير العقل من الخضوع للمثل المنحطة التي كانت سائدة في العصور الجاهلية، كما تناقض قوله صلوات الله عليه وآله: " مَن رَأىٰ منكم منكرًا فليغيّرْه بيدِه، فإن لم يستطع فبلسانِه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذٰلك أضعف الإيمان ". (4)
إن الحقيقة الكامنة في إتجاهات التفكير السلفي هو ذلك التناقض الشاسع بين التراث الاسلامي الاصيل الممثل بالتفسير الإلهي للعقيدة الإسلامية والنظم التشريعة التي قادها الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله وأهل البيت الأطهار عليهم السلام، وبين المنظور الرجعي ممثلاً بالاتجاه السلفي الماضوي الذي مثله أبو سفيان والخط الأموي من وراءه، فبينما يقدم الله عزوجل الرسالات كفكر إصلاحي تقدمي يخرج الناس من الظلمات إلى النور، يقول الله عزوجل في كتابه: ﴿اللَّـهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَات أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ . (5)
نرى الفكر الرجعي السلفي يتشبث بماضويته العشائرية في الخضوع للقبيلة على الخلاف من شمولية النور الاسلامي. فالطاغوت في اللغة ليس فقط الحاكم الظالم، ولكن كل ما يتشبث به الأنسان على حساب طاعة الله عزوجل، الا ترى كيف ان الله إستعمل لفظ الطاغوت (المفرد) لصيغة الجمع فقال: (أولياؤهم الطاغوت)، لان الطاغوت يأتي لصيغة الجمع والمفرد في اللغة، بينما الطواغيت تأتي للجمع فقط، وهذا الإستعمال إنما للأشارة لكثرة الطواغيت وتنوع أشكالها وصفاتها.
إن هذه النظرة السلبية للرسالات السماوية إنما تعبر عن إنصياع كلي للفكرة السلفية مما أدى إلى محاولة إلباس الفكر الإسلامي رداءً سلفياً ليتم من خلاله تبرير كل هذه التناقضات التي ظهرت خلال عملية الصراع المستديم بين الحق والباطل.
إن الطاغوتية نظرة دنيوية ذات رؤية تجعل من الأنسان آلهة تحت حجة دور الإنسان في حركة التاريخ، في حين ان الدور الحقيقي للإنسان في البناء التاريخي يتجلى عندما يكون الإنسان عاملاً أصيلاً في نشر الرسالة السماوية فمن هنا كأن الانبياء والرسل بشراً للتعبير عن الإنسان الكامل الذي يصير مثالا للقيم والمعايير الإلهية من خلال طاعته للخالق، وليس سعيه ليكون آلهة.
الصراع مع التطور الحضاري:
تكشف حركة التاريخ عن إشكاليت سلفية معقدة مع الحاضر والمستقبل، فأتباع الفكر السلفي يتشبثون بالرؤية الماضوية وعندما يتخذ الصراع منحاً طبيعياً يؤدي إلى الإقتراب من نهاية الفكر السلفي الرجعي، تصدر عندها فتاوى تناقض العقيدة والشريعة الرافضة للاستعانة بالاجنبي، أو الإستعانة بغير أولياء الله، فيتم تبرير هذه الفكرة لغايات آنية تناقض الكتاب والسنة، فالله يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّـهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا ﴾ . (6)
فالتناقض هنا يعبر عن تردي في حقيقة إلإتباع لأوامر الله عزوجل، فمنذ تأسيس الدولة الوهابية في الجزيرة العربية على يد المخابرات البريطانية وحتى حرب الخليج الاولى وإلى الوقت المعاصر، يكشف إتباع الفكر السلفي عن تماهي كامل مع المخابرات البريطانية والامريكية ومن بعدها الإسرائيلية لحماية العروش الخليجية المزعومة، فكل هذه الدول تعبر عن إنصياعها الكامل للموقف اليهودي الامريكي البريطاني تحت حجج المصالح المشتركة، وحين قررت الولايات المتحدة تقديم قطر كعامل جديد في حركة الصراع في المنطقة، لم تتراجع قطر عن موقفها ولم تقدم تبريراً للقواعد العسكرية الامريكية واليهودية على أراضيها، لانها لا مجرد عنصر بسيط في خدمة مصالح العدو، فالسعودية وقطر والبحرين هي وبقية الدول فيما يسمى جزافا دول مجلس التعاون، إنما تعبر عن التناقض بين الحقيقة الاسلامية الرسالية عند أتباع أهل البيت عليهم السلام وبين الموقف السلفي الرجعي.
ففي الوقت الذي يدعون فيه تبنيهم للسنة المحمدية يناقضونها بالإعتماد الكلي على الجيوش وحاملات الطائرات الامريكية والبريطانية والإسرائيلية، حتى صار القرضاوي يشكر الولايات المتحدة على إمدادها للإرهاب السلفي في سوريا بالسلاح لتدمير سوريا ولبنان من أجل الحفاظ على أمن إسرائيل، وحينها تصبح إيران العدو الأول في المفهوم السلفي الرجعي كما أمرت هم أمريكا وإسرائيل بذلك. بعد ان كانت إسرائيل ولا تزال العدو الحقيق للعرب والمسلمين.
لا شك أن الفكر الحضاري الإسلامي يدعو إلى رفض التناقض بين العقيدة والشريعة في المنهج والتطبيق، لان الإسلام دين يدعو للتكامل الحضاري من أجل بناء قاعدة جماهيرية واعية بحقيقة الإسلام وبغائية الحياة.
نهاية الفكر الوضعي السلفي الرجعي:
من هنا ندرك أن الفكر السلفي الرجعي لا ينتمي للأسلام لأنه فكر وضعي جاء ليناقض العقيدة الإسلامية ولينحرف بمسارات الوعي الجمعي نحو تبني قضايا رجعية ماضوية لاعلاقة لها بالأصالة الإسلامية الألهية وبالرسالة المحمدية،، وقد شهدت مسارات حركة التاريخ نهاية الأفكار الوضعية بشكل مستمر دون توقف لأن الأصل هو البقاء للحق وليس للقوة، أو السلطة الآنية، فاللحق معاييره الخاصة التي لا تتفق مع الفكر الوضعي السلفي.
ولما كان لكل شيء بداية وذروة ونهاية، فإن النهاية لا تتحق إلا بوصول الفكر إلى ذروته وتحقيق غاياته، أو على الاقل معظمها قبل بداية الإنحدار نحو الهاوية، ونحن نعاصر وصول الفكر السلفي لذروته في عملية صراعه مع الحق، فعلى مسار حركة التاريخ لم يكشف الفكر السلفي عن حقيقته، لأنه بقي متخفيا برداء الأسلام، ولكن مع ذلك فإن موقف أبو سفيان ومعاوية ويزيد كان واضحاً ومعلوماً لدى حواريي رسول الله صلوات الله عليه وآله: " أبو ذر الغافري والمقدادر بن الاسود الكندي وسلمان الفارسي المحمدي وعمار بن ياسر "، ولهذا نجد أن من بقي من هؤلاء وهو عمار بن ياسر الذي قال عنه الرسول الخاتم: " يا عمار تقتلك الفئة الباغية ". كان قد قاتل مع أمير المؤمنين في الجمل وصفين، وأما أعاظم الشخصيات المستمسكين بالرسالة المحمدية فهو الاخرين كانوا مع علي عليه السلام لانهم عرفوا ما قاله الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله عن علي عليه السلام: " علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار ".
ولما تسلط الطلقاء على الحكم منذ عصر معاوية، صاروا يموهون التاريخ، ببثهم للاحاديث الكاذبة في التحريض على المنهج السلفي الوضعي، كما هو عليه في العصر الجاهلي السابق للاسلام، فأحلوا معاوية محل الرسول الخاتم وصار الطعن في معاوية جريمة تاريخية، مع ان التاريخ نفسه كان يطعن في معاوية.
لعل الكثير من أتباع الفكر السلفي وممن يقدس البخاري واساتذته، يتناسون ان العلماء كانوا يتقذرون من مجرد ذكر معاوية وبني امية في مجالسهم، ويعيرون لهم إنتباها:فهذا عبد الرزاق (7) شيخ البخاري ومن ثقات رجال الحديث عند أهل السلف، يقول مخلد الشعيري كنت في مجلس عبد الرزاق فذكر رجل عنده معاوية في مجلسه (أي مجلس عبد الرزاق) فقال عبد الرزاق: " لا تقذر مجالسنا بذكر ولد أبي سفيان ". (8) والمعاصرين من السلفية كذبوا عبد الرزاق لانه فضحهم في مقولته هذه. بينما هم يوثقوه كشيخ للبخاري في اكثر من مصدر.
لا شك ان نهاية الفكر السلفي الوضعي صارت قريبة جداً، فهم يحاربون اليوم بآخر أسلحتهم، ويكشفون عن عجزهم في مواجهة الواقع ومحاربة التقدم الحقيقي لحركة التاريخ الإسلامي والإنساني على السواء.
فحين يلجأ أي نظام حاكم أو منظمة أو حزب، إلى تهديم التراث الذي يدعي انه ينتمي إليه فانه بالتأكيد ينسى الأسس التي يعتمد عليها في تكوينه، فالسعودية التي تدعي حمايتها للبيت الحرام قد دمرت التراث الاسلامي بشكل ممنهج ولم يبقى شيء من تاريخ الرسالة الأسلامية ومن تراث الرسول الخاتم وأهل بيته وأصحابه، ففي الجزيرة العربية لايوجد من تاريخ الإسلام إلا الكعبة المشرفة التي بناها إبراهيم الخليل عليه السلام بأمر ربه في مكة، وقبر الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله في المدينة وقد تم تهديم التراث الاسلامي كله، فلا دليل على الاسلام هناك. (9)
ولما إقتربت النهاية وإنكشفت للعالم حقيقة هذه الفئة الظالة، وتيقنوا أنهم سيواجهون مصيرهم المشؤوم، صرحوا عن تحالفهم مع الغرب واليهود خاصة، وطالبوا الولايات المتحدة وبريطانيا بالوفاء لتعهداتها لهم، لانهم خدموها طوال عقود بل قرون خاصة بريطانيا التي انشأت الحركة الوهابية السلفية في نجد. فهاهو القرضاوي يشكر الولايات المتحدة وإسرائيل علانية، ويهاجم حزب الله وإيران، وهاهم أحفاد معاوية وابن تيمية وأتباع القرضاوي يهاجمون مرقد الصحابي الجليل حجر بن عدي الكندي الذي اعدمه معاوية سنة (51هـ) كونه من أصحاب الامام علي عليه السلام، ليتم تهديم ضريحة المشرف ونبش قبره تأكيدا لفعل اسلافهم الذي قادته أمهم هند بنت عتبة صاحبة الرايات، فهذا الفعل لا يختلف عن ذاك. وأنهم لو تمكنوا من هدم قبر الرسول وتدمير البيت الحرام لفعلوا لولا امرين، الاول: خوفهم من الهجمة العالمية للمسلمين كافة، ثانيا: انهم خاصة ملوك آل سعود وأمراءهم مستفيدين شخصيا من أموال الحج التي يذهب قسم كبير منها لجيوبهم لصرفها على ملذاتهم وفسادهم.
قلت في دراسات سابقة ان نهاية السعودية والفكر السلفي لايتجاوز الثلاثين سنة بل انه اقرب من ذلك بكثير، وربما سنشهد هذه النهاية خلال اقل من عشرة أعوام وفقاً لتطورات حركة التاريخ.