|
عضو متواجد
|
رقم العضوية : 80990
|
الإنتساب : Jun 2014
|
المشاركات : 82
|
بمعدل : 0.02 يوميا
|
|
|
|
المنتدى :
منتدى القرآن الكريم
(يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً) عنصر المباغتة في القصص القرآني . . .
بتاريخ : 11-06-2014 الساعة : 06:15 AM
(يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً) عنصر المباغتة في القصص القرآني . . .
القصة بنحوٍ عام تخضع ـ كما نعرف ـ لأبنية مختلفة . فهناك الشكل المألوف الذي يُعَرض عبر (بداية) هادئة تتطوّر الحوادث بعدها حتى تصل إلى (الذروة) ، ثم تنحدر إلى (نهايتها) . هناك القصة النفسية التي ظهرت ، بأوضح صورها ، في العقد الثالث من هذا القرن ، مُفيدةً (من مكتشفات علوم النفس) في صياغة الأبنية غير الخاضعة لمنطق الظواهر الخارجية ، بقدر خضوعها لما يُسمّى بـ (المجال النفسي) ، ثم تطورت بعد الحرب الثانية إلى أبنية أكثر تحرّراً من سابقتها ، حتى وصلت إلى أعقد الصيغ في سنواتنا المعاصرة . بَيْد أن (البُعد النفسي) في الحالات جميعاً ، يظلّ هو المتحكّم ـ.وفيالقصة القرآنيةفأن الطابع النفسي يظل هو الطابع الجمالي المميز لها حيث يكتشف القاريء ذلك الأحكام الهندسي الرائع في عمارة المواقف والأحداث حيث ساهمت عناصر فنية في استثارة القاريء وارشاده الى هدف النص القرآني بشكل جميل أخاذ ملفت للنظر . . .
من تلك العناصر المهمة عنصر
المألوف (في لغة الأدب القصصي) أن
تعني مواجهة القارئ بموقف أو حدث مفاجئ
واكبر نموذج في هذا الصدد
التي وردت في سورة (الأنبياء) ، عبر واقعة تهشيمه للأصنام وإبقاء كبيرها ، نموذجاً واضحاً لعنصر (المباغتة) . إن هذا العنصر يُرسم حيناً بنحو يصاحبه شيء من الدهشة والاستغراب مع (توقّعنا) لحدوثه ، وحيناً آخر ، يرسم بنحو (مفاجئ) لا يكاد (يُتوقع) . طبيعياً ، أن كلّ شيء (مُتوقع) : مادمنا مقتنعين بالإعجاز ، إلاَّ أننا ننطلق في هذا الاتجاه من خلال منطق الأحداث ذاتها ، سواء أكانت مصحوبة بما هو عادي أو بما هو معجز . كما ينبغي أن نفرّق بين (مُباغتة) قد هيّأ النصُّ أذهاننا سلفاً إلى حدوثها ، وبين (مباغتة) لم تكن في الحسبان . كل هذه المستويات يمكننا أن نلحظها في قصة إبراهيم المذكورة . لقد مهّدت هذه القصةُ أذهاننا إلى أن الطغاة سوف يلحقون الأذى بإبراهيم (عليه السلام) نتيجة تهشيمه لأصنامهم :
(قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) لقد وسموه بـ (الظلم) ، وهذا أول مؤشر على أنهم يفكرون بإلحاق الأذى به . ثم اقتراحهم بإحضاره أمام الجمهور لإدانته ، يفصح عن (توقعنا) بأن (عقاباً) كبير الحجم قد يطاله : كأن يكون قتلاً أو سجناً أو ضرباً مثلاً .. لكن مع هذا التوقع ، تبدأ القصة برسم منحىً فنيّ في بناء الأحداث والمواقف ، بحيث تنقل القارئ إلى(توقع) مضاد للتوقع السابق ، وهو : إمكانية غض النظر عن معاقبة إبراهيم ، وهذا ما يوحى به الحوار الدائر بينه وبين القوم .
(قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ) .
إن هذا الحوار الحيّ المُمتع يفصح عن أن القوم أحسوا ببعض الخجل ، بل أحسوا بخجل كبير أمام أنفسهم حينما خاطبوها بأنها هي الظالمة ، وحينما خفضوا رؤوسهم من الخجل قائلين : (لَقَدْ عَلِمْتَ ـ يا إبراهيم ـ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ) ، أي أنهم اقرّوا بمهزلة آلهتهم ، وإلى أنها لا تملك فاعلية النطق، وحينئذٍ (يتوقّع) القارئ أنهم سوف يتراجعون عن قرار الإدانة والمعاقبة .
هنا ينبغي أن ينتبه القارئ إلى جمالية الأداء القصصي من حيث إِثارته للقارئ وعدم رسوّه على قرار ثابت :
فبينا (يتوقّع) إِدانة إبراهيم ، إِذا به (يتوقّع) الإفراج عنه . لكن ما أن يتوقّع (الإفراج) عن ذلك ، حتى يُصدم بـ (مباغتة) تضاد موقعه الأخير ، وترتد به إلى توقّعه السابق ، وهو : العقاب ، لكن ليس على نحو ما (توقّعه) من ضربٍ أو سجنٍ أو قتل اعتيادي ، بل ـ وهذا هو عنصر المباغتة ـ على نحو لم يدُر في خلده :( قَالُوا : حَرِّقُوهُ ...) .
إذن : يُفاجَأ القارئ بـ (عقاب) غير متوقّع ، وهو : (الإحراق) . جديداً ينبغي ـ من الزاوية الفنية ـ أن ننتبه إلى أهمية هذا التماوج بين توقّعات تتصاعد وتتهاوى من حين لآخر : توقّع بإنزال العقاب في (بداية) القصة ، توقع بإزالة العقاب في (وسط) القصة ، ثم (مباغتة) بإنزاله في لحظة (الإنارة) التي تنحدر القصة بعدها إلى نهايتها ؛ لأننا لحد الآن لم ننته من القصة ، فلا تزال تنتظرنا (مباغتة) من النمط غير المتوقع في نهاية القصة .
قلنا : إن (المباغتة) قد تجيء مصحوبة بشيءٍ من الدهشة ، مثل العقاب بعد توقعنا بإزالته عبر مناقشة القوم لإبراهيم ، ثم قد تجيء بلا أن (نتوقع) حدوثها ، مثل مباغتتنا بإحراق إبراهيم بعد أن كنا نتوقع عقاباً مثل : السجن أو الإعدام : ولكن ليس (الإحراق) .!!!!!!
والآن نواجه (مباغتةً) من قسم ثالث ، لا (يُتوقع) البتة ، ولم يدر في الحسبان أبداً ، ألا وهي : النهاية التي خُتمت بها القصة ، وهي تقول : (يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) .
هذه الواقعة ، تجسّد أعلى ما يمكن تصوره من معنى (المباغتة)... فها هو إبراهيم مُلقىً في الناروالنار ـ في حالاتها غير المصحوبة بالإعجاز ـ تبقى ناراً لا شيئاً آخر ، قد تنطفئ مثلاً ...لكنها لا تتحول إلى (برد وسلام) .!!!
وهنا ندرك جمالية الصياغة القرآنية الكريمة لعنصر (المباغتة) بمستوياتها الثلاثة في قصة واحدة ، هي قصة إبراهيم (عليه السلام) .
|
|
|
|
|