دخلت عكرشة بنت الأطرش بن رواحة على معاوية متوكئة على عكّاز لها، فسلمت عليه بالخلافة، ثم جلست؛ فقال لها معاوية: الآن يا عكرشة صرتُ عندكِ أميرَ المؤمنين؟ قالت: نعم، إذ لا عليٌّ حيٌّ؛ قال: ألست المتقلدة حمائل السيوف بصفين، وأنت واقفة بين الصفين تقولين: أيها الناس، عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، إن الجنة لا يرحل عنها من أوطنَها، ولا يَهْرَم من سكنها، ولا يموت من دخلها، فابتاعوها بدار لا يدوم نعيمها، ولا تنصرم همومها، وكونوا قوماً مستبصرين في دينهم، مستظهرين بالصبر على طلب حقهم؛ إن معاوية دلف إليكم بعُجم العرب غُلف القلوب، لا يفقهون الإيمان ولا يدرون ما الحكمة، دعاهم بالدنيا فأجابوه، واستدعاهم إلى الباطل فلبوه، فالله الله عبادَ الله في دين الله، وإياكم والتواكل، فإن ذلك ينقض عرى الإسلام، ويطفئ نور الحق، هذه بدر الصغرى، والعقبة الأخرى؛ يا معشر المهاجرين والأنصار، امضوا على بصيرتكم، واصبروا على عزيمتكم، فكأني بكم غداً، ولقد لقيتم أهل الشام كالحمر الناهقة تصقع صقع البقر وتروث روث العتاق.
فكأني أراك على عصاك هذه وقد انكفأ عليك العسكران، يقولون: هذه عكرشة بنت الأطرش بن رواحة، فإن كدتِ لتقتلين أهل الشام لولا قدر الله، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين، قال الله تعالى: ((يا أيها الذي آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تُبدَ لكم تسؤكم)) وإن اللبيب إذا كره أمراً لا يحب إعادته؛ قال: صدقت، فاذكري حاجتك؛ قالت: إنه كانت صدقاتنا تؤخذ من أغنيائنا، فترد على فقرائنا، وإنا قد فقدنا ذلك فما يُجبر لنا كسير، ولا ينعش لنا فقير، فإن كان ذلك عن رأيك، فمثلك تنبَّه من الغفلة، وراجع التوبة، وإن كان عن غير رأيك، فما مثلُك استعان الخونة، ولا استعمل الظلمة.
قال معاوية: يا هذه، إنه ينوبنا من أمور رعيتنا أمور تنبثق، وبحور تنفهق، قالت: يا سبحان الله، والله ما فرض الله لنا حقاً فجعل فيه ضرراً على غيرنا وهو علام الغيوب.
قال معاوية: يا أهل العراق، نبهكم علي بن أبي طالب فلن تطاقوا.
ثم أمر برد صدقاتهم فيهم وإنصافهم. العقد الفريد: ج1، ص 320-321 .