|
عضو برونزي
|
رقم العضوية : 82198
|
الإنتساب : Aug 2015
|
المشاركات : 840
|
بمعدل : 0.25 يوميا
|
|
|
|
المنتدى :
منتدى القرآن الكريم
محكمة القيامة تفسير الآية.. مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ
بتاريخ : 25-10-2024 الساعة : 03:38 PM
محكمة القيامة هي أهمُّ المحاكم؛ إذ قد يطوّع المُجرم ضميره بطول الإجرام، أو يفلت من محاكم الدنيا، أو لا ينال جزاءه الكامل، أو يقوم بتزوير التاريخ، أمّا في الآخرة فـ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ، ومن هنا اُطلقت كلمة (يوم الدين) على يوم القيامة؛ لأنّ الجزاء بشكله...
المفردات
(مَالِكَ): ذو الملكية والهيمنة والسيطرة.
(الدِّينِ): الجزاء، و(يَوْمِ الدِّينِ) هو يوم القيامة حيث يجازى كلُّ إنسان بما عمل، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشرّ.
التفسير
بعد أن تعرض القرآن الكريم في مفتتح هذه السورة إلى مسألة (المبدأ) أشار في هذه الآية إلى مسألة (المنتهى)، ومسألة (المبدأ) و(المنتهى) أهمّ قضية (عقائدية) في الوجود كلِّه، كما أنها أهم قضية (عملية) في حياة الإنسان.
من أين جئنا؟ وإلى أين نسير؟ وما هو المصير؟ ألغاز محيِّرة واجهت الإنسان منذ اليوم الأوّل، وسوف تظلُّ تلحُّ على ذهنه حتى اليوم الأخير. ومهما بحثت فلن تجد الإجابة الصحيحة التي يطمئن إليها العقل ويرتاح إليها الضمير إلاّ في رسالات السماء.
كما أنّ لهاتين القضيتين ارتباطاً عميقاً بالسلوك الإنساني، فمن لا يعتقد بالله ولا باليوم الآخر لن يجد رادعاً حاسماً يمنعه من ارتكاب الجرائم، والتعدّي على حقوق الآخرين. إّن هذه الحياة هي الفرصة الأخيرة، وبعد ذلك سيتحوّل الإنسان إلى أشلاء مبعثرة تأكلها الأرض، وسوف ينتهي كلّ شيء. أجل، سوف ينتهي كلُّ شيء. فلماذا لا ينتهز هذه الفرصة في سبيل إشباع نزواته ولو كان ذلك على حساب الآخرين؟
يقول الشاعر:
سأطلب الموت --- حثيث الورود
وينمحي اسمي --- من سجلِّ الوجودْ
هات اسقنيها(1) --- يا مُنى خاطري
فغاية الأيّام طول --- الهجود!
أما من يعتقد بالله واليوم الآخر فإن إيمانه هذا سوف يخلق وازعاً في نفسه يمنعه من ارتكاب الموبقات، والتعدّي على الآخرين.
ومن هنا كان التأكيد الكبير ـ في هذه السورة وفي سائر السور القرآنية على مسألة (المبدأ) و(المعاد).
محاكُم ستٌّ
هنالك ستُّ محاكم يمرُّ عبرها الإنسان ليتلقّى (الجزاء) على عمله، وهذه المحاكم هي كالتالي:
1 ـ محكمة الضمير
حيث إنّ للإنسان وجداناً باطنياً، يؤنّبه على ارتكاب الجريمة، ويبارك له عمل الخير.
فإذا أسدى الإنسان معروفاً لمحتاج، أو أغاث ملهوفاً أو نَفَّسَ عن مكروب فإنّه سوف يشعر بالارتياح بغمره، وبالسعادة تملأ نفسه.
أمّا إذا كذّب في الحديث، أو خان الأمانة، أو أهمل القيام بوظائفه الدينية، فإنّ ضميره سيظلُّ يؤنّبه ويوبِّخه على ما ارتكبه.
قال سبحانه: (وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)(2).
ويكفي نموذجاً لذلك قصَّة الشاب الضابط الذي دمّر «هيروشيما/ ناغازاكي» بالقنبلة الذِّرية في الحرب العالمية الثانية.
فقد فاز «كلودايترلي» بعد تدميره لمدينتي هيروشيما وناغازاكي بنيل أعظم وسام حربي في أمريكا، لكنّ كلودايترلي الذي انتخب من بين آلاف الطيّارين يوماً مّا لمهارته في قيادة الطائرة، ولأعصابه الفولاذية، والذي عهد إليه بإلقاء أوّل قنبلة ذرِّية، قد أُصيب الآن بالجنون.
إنَّ الطيار الذي دمَّر عام 1945م مدينتين، كان يرِّدد هذه الجملة منذ مدَّة: أنا قاتل الـ(150) ألفاً من الناس، ولا أغفر لنفسي خطيئتي الكبيرة هذه. إنّه كان يجد نفسه المسؤول الأوّل عن قتل أهالي مدينة (هيروشيما). إنَّ معالجة الأطبّاء كانت عقيمة، وأخيراً اضطُرَّ إلى أن يعيش في مستشفى الأمراض العقلية(3).
2 ـ محكمة الجسد
حيث إنَّ الطهارة والنظافة والإيمان تمنح الإنسان السلامة في جسده، أمّا الفسوق والفجور والإنحراف فإنها تسبب تحطيم جسد الإنسان وانهياره.
ويكفينا نموذجاً لذلك: الأمراض التي خلقتها الانحرافات الجنسية في بلاد الغرب، ومنها مرض فقدان المناعة المكتسبة (الإيدز) الذي قضى على حياة الملايين، ولا يزال الطبُّ عاجزاً عن علاجه حتى الآن.
3 ـ محكمة القضاء
حيث يُمثلُ المجرم أمام المحكمة لينال جزاءه ولو بعد حين.
4 ـ محكمة المجتمع
حيث يُقدِّر المجتمع الفرد الطيِّب، ويصبُّ جام نقمته على الفرد الشرّير.
قال الله سبحانه: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)(4).
وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَانُ وُدًّا)(5).
5 ـ محكمة التاريخ
حيث يخلِّد التاريخ حياة الطيّبين بأحرُف من نور، بينما يلقي بالشرّيرين في زوايا الإهمال، أو يصبُّ عليهم اللّعنة وسوء العذاب.
يقول الشاعر (محمد مجذوب) حين وقف على قبر معاوية في الشام:
أين القصور أبا يزيد ولهوها --- والصافنات وزهوها والسؤددُ
أين الدهاء نحرت عزَّته على --- أعتاب دنياً سحرُها لا ينفدُ
هذا ضريحك لو بصرت بِبؤُسهِ --- لأسال مدمَعَك المصيرُ الأسودُ
كتل من التُرب المهين بخربةٍ --- سكر الذبابُ بها فراحَ يعربدُ
خفيت معالمها على سكَّانِها --- فكأنَّها في مَجهل لا يُقصدُ
ومشى بها رَكْبُ البلى فجدارُها --- عانٍ يكادُ من الضراعة يسجُدُ
أأبا يزيد وتلك حكمة خالق --- ماذا أقول وبابُ سمعِكَ موصَدُ
قم وأرمق النجفَ الأغرَّ بنظرةٍ --- يرتدُّ طرفك وهو باكٍ أرمد
تلك العظام أعزَّ ربُّك شأنها --- فتكادُ لولا خوفُ ربِّك تعبدُ
أبداً تُبارِكُها الوفود يحثُّها --- من كلِّ صوبٍ شوقُها المتوقِّدُ
نازعتها الدنيا ففزتَ بوردِها --- ثُمَّ انطوى كالحُلْمِ ذاكَ المورِدُ
ومن الغريب: أنَّ طغاة الأُمويين والعباسيين حكموا البلاد الإسلامية مئات السنين، ولكن لم يبق لأيٍّ منهم قبر يزار، بل لم يعرف للكثير منهم قبر. بينما نجد أنّ آل البيت (عليه السلام) تحوّلت مقابرهم إلى مزارات يتوافد عليها الملايين من كلّ حدب وصوب، حتى تلك الطفلة الصغيرة (رقية) التي قضت نحبها وهي غريبة في خربة من خربات الشام بُني عَلَى مدفنها ضريح كبير، ويزورها عشرات الألوف في كلّ عام، بينما (يزيد) ـ ذلك الطاغية المتجبِّر ـ لا يُعرف له قبر في عاصمة ملكه العريض!
أجل.. (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ)(6).
6 ـ محكمة القيامة
وهذه المحكمة هي أهمُّ المحاكم؛ إذ قد يطوّع المُجرم ضميره بطول الإجرام، أو يفلت من محاكم الدنيا، أو لا ينال جزاءه الكامل، أو يقوم بتزوير التاريخ، أمّا في الآخرة: فـ (تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ)(7).
ومن هنا يقول الله سبحانه: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى *وأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى *ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى)(8).
ومن هنا اُطلقت كلمة (يوم الدين) على يوم القيامة؛ لأنّ الجزاء بشكله الكامل سوف يكون في ذلك اليوم.
القانون وحده لا يكفي
وهنا ينبغي أن نؤكّد أنَّ القانون وما يستتبعه من ملاحقة قضائية وسجن وعقوبة و.. ـ بدون الإيمان بالله واليوم الآخر ـ لا يكفي، وسيظل حبراً على ورق، ولن ينزل إلى ميدان التنفيذ إلاّ بمقدار ما يرافقه من قوّة وبمجرد أن تنفصل عنه القوّة فإنه سوف ينهار فوراً ويسحق تحت الأقدام.
وكثيراً ما لا تستطيع القوّة ذاتها أن تضمن تنفيذ القانون.
والتقرير التالي يكشف لنا جوانب من هذه الحقيقة: (أرادت الولايات المتحدة الأمريكية في عام (1930م) أن تخلّص شعبها من مضارّ الخمر، فرتّبت عقوبات صارمة على كلّ من يشتريها أو يصنعها أو يستوردها، وقد مهّدت لهذا القانون بحملة دعائيّة واسعة عن طريق دور السينما والمسارح والراديوات والتلفزيونات والكتب والجرائد والمجلاّت وغيرها من النشرات اليومية، وكانت هذه الدعايات مزوّدة بالتقارير العلمية والطبية التي تشير إلى مدى ما للخمور من تأثير على صحَّة الإنسان وعقله وضميره، وقد صرفت على هذه الدعايات 65 مليون دولار.
وبسبب بعض المعاكسات التي واجهها قانون تحريم الخمور؛ ولأنّ البعض لم يمتنع عن تعاطي أو المتاجرة بالخمور بعد صدور هذا القرار، فقد قتل مئتا شخص، وحبس نصف مليون إنسان، كما صودرت أربعمائة مليون جنيه استرليني، وكان مجموع ما غرم به البعض الآخر يربو على مليون ونصف مليون جنيه. غير أنّ ذلك لم يظهر له نفع)(9)!
هذه هي النتيجة الطبيعية لافتقاد عنصر الإيمان بالله واليوم الآخر.
فاستعمال العنف وتحكيم السيف وزرع البوليس على مفاصل الطرق لا تجدي نفعاً ما لم يوجد (رقيب داخلي) يقبع في ضمير الإنسان، ويوجّهه نحو الخير والفضيلة.
وهذا الرقيب هو عبارة عن (الإيمان) ذلك أنّ الفرد المؤمن الذي يدرك أنّ الله سبحانه وتعالى يراقبه في كلّ وقت وكلّ زمان، ويعتقد أنه هو المهيمن على كل شيء، وأنّه (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)(10) ويعتقد بأنه سيأتي هناك يوم يجازى فيه على كل شيء.. (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(11)، هنا الفرد لا يتعدَّى حدود الله، ولا يتجاوز على حقوق الآخرين.
وأيضاً، الإيمان بالمبدأ والمعاد يربط القلب بالقدرة التي تحكم هذا الكون ـ بدنياه وآخرته ـ وبهذا الارتباط وبمعرفة مدى عظمة الله سبحانه، تصغر أمام المؤمن كلُّ مغريات الحياة، ويحسُّ بالقدرة على الارتفاع فوقها؛ ولذلك فهو لا يجعل إيمانه ثمناً لأيّ شيء ـ مهما كان مغرياً وفاتناً ـ ولا يقبل أيَّ مساومة تهدف إلى أن يتنازل عن مبادئه.
وهذا ما يؤكّده الإمام علي (عليه السلام) حين يقول وهو يصف المؤمنين: «عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم».
ويعكس المؤمنون هذا الإحساس العظيم في شعارهم الخالد الذي يرددونه دائماً: (الله أكبر). فكل شيء ينهار أمام عظمة الله ويغدو شيئاً صغيراً أمامه.
ويمكن أن نلمس هذه الحقيقة في الأُمّة الإسلامية التي بناها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) .. فلم تكن الآيات القرآنية تهبط حتى تفتح طريقها للتنفيذ، فآية تحريم الخمر ـ مثلاً ـ لم تنزل إلاّ وقد جرت سكك المدينة خموراً مهراقة.
ولكنّ الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر قد لا يتردّد في ارتكاب أكبر جريمة من أجل مغنم ماديّ بسيط؛ لأنه لا يعتقد أنّ وراءه حياة أُخرى يحاسب فيها على كل ما عمل، وهو يتصوّر أنّ اللّذات إنّما تتحقّق في هذه الدنيا، أمّا بعد ذلك فلن يوجد إلاّ الموت والفناء.. ومن أجل ذلك فهو يحاول أن يستمتع بأكبر قدر من اللّذة في هذه الحياة حتى لو جاء ذلك على حساب الآخرين.
نماذج عمليّة
وإذا أردنا أن نستقصي النماذج العملية لتأثير الإيمان بـ(يوم الدين) فسوف يطول الحديث.. لكنّنا نكتفي بالإشارة إلى بعض النماذج..
1 ـ روي أن النبي (صلى الله عليه وآله) أتى إلى المسجد في شدَّة مرضه وقال فيما قال: «إنَ ربي عزَّ وجلَّ حكم وأقسم أن لا يجوزه ظلم ظالم، فناشدتكم الله، أيُّ رجل منكم كانت له قبل محمّد مظلمة إلاّ قام فليقتص، والقصاص في دار الدنيا أحبُّ إليَّ من القصاص في دار الآخرة على رؤوس الملائكة والأنبياء.
فقام إليه رجل من أقصى القوم يقال له سوادة بن قيس فقال له: فداك أبي وأُمّي يا رسول الله، إنّك لما أقبلت من الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضبا، وبيدك القضيب الممشوق فرفعت القضيب وأنت تريد الراحلة فأصاب بطني، فلا أدري عمداً أو خطأ.
فقال (صلى الله عليه وآله) : معاذَ الله أن أكونَ تعمَّدتُ.
ثم قال: يا بلال قم إلى منزل فاطمة فأتِني بالقضيب الممشوق.
فخرج بلال وهو ينادي في سكك المدينة: معاشر الناس من ذا الذي يعطي القصاص من نفسه قبل يوم القيامة؟
إلى أن قال: ثم ناولت فاطمة (عليها السلام) بلالاً القضيب فخرج حتّى ناوله رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أين الشيخ؟
فقال الشيخ: ها أنا ذا يا رسول الله بأبي أنت وأُمّي. قال الرسول (صلى الله عليه وآله) : تعالَ فاقتصّ حتّى ترضى.
قال الشيخ: فاكشف لي عن بطنك.
فكشف (صلى الله عليه وآله) عن بطنه.
فقال الشيخ: بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله، أتأذن لي أن أضع فمي على بطنك؟ فأذن (صلى الله عليه وآله) .
فقال: أعوذ بموضع القصاص من بطن رسول الله من النار يوم القيامة.
فقال رسول الله: يا سوادة بن قيس أتعفو أم تقتصّ؟
قال: بل أعفو يا رسول الله.
فقال رسول الله: اللهمَّ اعفُ عن سوادة بن قيس كما عفى عن نبيّك محمّد(12).
2 ـ وفي رواية يرويها الشيخ المفيد عن إبراهيم بن علي عن أبيه، قال: حججت مع علي بن الحسين (عليه السلام) فالتاثت الناقة عليه في مسيرها (أي أبطأت) فأشار إليها بالقضيب ثم قال: «آهِ لولا القصاص» وردّ يده عنها(13).
3 ـ نقل أنَّ يوسف (عليه السلام) لبث في منزل الملك وزليخا سبع سنين وهو مطرٌق إلى الأرض لا يرفع طرفه إليها مخافةً من ربِّه.
فقالت له يوماً: ما أحسن عينيك؟
قال: هما أوّل ساقط على خدّي في قبري.
قالت: ما أطيبَ ريحكَ؟
قال: لو شممت رائحتي بعد ثلاث من موتي لهربت منّي.
قالت: لم لا تقترب؟
قال: أرجو بذلك القرب من ربِّي.
قالت: فرشي الحرير فقم واقضِ حاجتي.
قال: أخشى أن يذهب من الجنّة نصيبي.
قالت: أُسلِّمُكَ إلى المعذّبين.
قال: يكفيني ربِّي(14).
4 ـ نقل الفاضل النراقي في معراج السعادة أنه كان في البصرة امرأة يقال لها (شعوانة) لا يخلو منها مجلس من مجالس الفسق والفجور.
وفي يوم من الأيام مرَّت مع جمع من إمائها في زقاق من أزّقة البصرة فوصلت إلى بيت يعلو منه الصراخ والضجيج. فقالت: سبحان الله، ما أعجب هذا الصراخ والغوغاء. وأرسلت واحدة من إمائها لتعرف حقيقة الحال، فذهبت تلك الأمة ولم ترجع. فأرسلت الثانية بعدها فذهبت ولم ترجع أيضاً. فأرسلت الثالثة وأوصتها أن تعود بسرعة فلمّا ذهبت وعادت، قالت: سيِّدتي ليس هذا مجلساً للبكاء على ميّت، بل هو مأتم للعاصين ذوي الصحائف السود.
فلما ذهبت رأت واعظاً يعظ مجموعة من الناس التفُّوا حوله يخوِّفهم من عذاب الله وهم مشغولون بالبكاء والأنين، وحين دخلت شعوانة كان الواعظ مشغولاً بتفسير قوله تعالى [في صفة جهنم]: (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا *وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا *لاَ تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا).
فلما سمعت شعوانة هذه الآيات أثّرت فيها، وقالت: يا شيخ، أنا واحدة من ذوي الوجوه السود ـ أي المذنبين ـ إذا تبت هل يتوبُ الله عليَّ؟.
فقال الواعظ: نعم، إذا تبتِ يتوبُ الله عليكِ، حتى إذا كانت ذنوبك مثل ذنوب شعوانة.
فقالت: يا شيخ أنا شعوانة، لا أعود إلى ذنب بعد اليوم.
فقال الواعظ: الله أرحم الراحمين، إذا تبت تابَ الله عليكِ فتابت شعوانة وأعتقت عبيدها وإماءها، واشتغلت بالعبادة وقضاء ما فات منها(15).
5 ـ نقل السيد الوالد ـ حفظه الله ـ إنّه جاء إلى والدي ـ رحمه الله ـ رجل وأراد أن يسلِّمه مبلغاً من الحقوق ـ وأظنُّ المبلغ سبعة عشر ألف دينار، وكان هذا المبلغ يعادل ما يقارب من أربعين شهراً من الرواتب التي كانت يدفعها للطلبة والفقراء آنذاك ـ فلم يقبل الوالد ذلك؛ لإشكال رآه في أخذ المبلغ، وكلَّما أصرّ صاحب المال على أن يقبله الوالد أبى وامتنع.
ولما ذهب الرجل قلت للوالد: إنّ هذه حقوق شرعية وإنَّك إذا تسلَّمتها تعطيها للطلاب والفقراء والمؤسسات والمشاريع الخيرية، فما هو المانع من أخذها؟
فنظر إليَّ وقال: يجب علينا نحن أن نفكّر في آخرتنا لا أن يغرّنا المال الذي نراه كثيراً(16).
6 ـ حكي: أن رجلاً اختلى بامرأة لا تحلُّ له، فلّما قعد منها مقعد الرجل من زوجته وهمَّ بالفاحشة تذكر الآخرة، فقام وهو يقول: إنَّ من باع جنّة عرضها السماوات والأرض لفترٍ في فترٍ لَقليلُ علمٍ بالمساحة. ثم انصرف.
أنواع من الملكية
بقي أن نشير إلى أنّ الملكية تنقسم إلى نوعين:
1 ـ الملكية الاعتبارية.. مثل: ملكيتك لدارك التي تسكن فيها، وأموالك المودعة في البنك باسمك، وعقاراتك المتناثرة هنا وهناك.
فلا توجد هنالك أية علقة حقيقية بينك وبين ما تملكه إذ ليس ما تملكه قائماً بك، وليس وجوده تبعاً لوجودك، بل هو مستقلٌ في وجوده عنك، قائم بغيرك، وإنّما (الإعتبار) هو الذي منحك هذا العنوان ـ عنوان (الملكية)، وهو بذاته يستطيع أن يسلبك هذا العنوان.
فحدوث العنوان الاعتباري منوط بالاعتبار، وبقاؤه منوط ببقاء ذلك الاعتبار، ومتى ما سبَّب المعتبر اعتباره زال العنوان الاعتباري.
وقد يختلف الاعتبار بحسب اختلاف المعتبرين، فقد يجعل قانون ما عنوان (الملكية) لتركة الميّت مرتبطاً بأقربائه، بينما يجعل قانون آخر ذلك مرتبطاً بالدولة الحاكمة.
2 ـ الملكية الحقيقية: وتتحقَّق هذه الملكية حينما تكون هناك عُلقة تكوينية خاصّة بين الشيء وصاحبه، بعيداً عن اعتبار المعتبر وجعل الجاعل، بحيث يكون وجوده قائماً بوجود صاحبه وبقاؤه منوطاً ببقاء صاحبه، فهذه الملكية حاصلة سواء أكان هنالك معتبر أولا.
والملكية الحقيقية على قسمين:
أ ـ الملكية الحقيقية الغيرية: ويتحقق ذلك حينما تكون الملكية حاصلة بسبب إعطاء الغير.
ويمكن أن نمثّل لذلك بملكيتنا لقوانا ولصورنا الذهنية، فأنت تملك سمعك وبصرك والصور التي ترتسم على لوحة ذهنك، ولا تزول هذه الملكية بقرار اعتباري يصدره شخص مّا، ولكن مَنْ أعطاك هذه الملكية؟
إنّ هذه الملكية ليست (واجبة الوجود) فهي إذن (ممكنة الوجود) وكلُّ (ممكن) بحاجة إلى (علّة)، ولا بدّ أن تنتهي العلل إلى (واجب الوجود) وهو الله سبحانه وتعالى.
يقول الله تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ)(17).
ب ـ الملكية الحقيقية الذاتية: ويتحقّق ذلك حينما تكون الملكية مستمدة من الذات، كملكية الله سبحانه لنا ولهذا الكون فإنها ملكية حقيقية ذاتية.. نابعة من إفاضته الوجود على الكون، وقيومّيته المستمرة على كلّ شؤونه.
وهذه الملكية وإن كانت ثابتة لله سبحانه في هذه الدنيا، إلاّ أنّ ظهورها التام سيكون في (يوم الدين)؛ إذ:
أوّلاً: تلغى في ذلك اليوم جميع الملكيات الاعتبارية، فلا حاكم ولا محكوم، ولا سيد ولا مَسود، ولا مالك ولا مملوك.
ثانياً: وتلغى ـ أيضاً ـ مجموعة من الملكيّات الحقيقية الممنوحة للإنسان في هذه الدنيا؛ فيفقد الإنسان سيطرته على يديه ورجله ولسانه، ولا يستطيع أن يتحكّم فيها كما كان يتحكّم فيها في هذه الدنيا.
يقول القرآن الكريم: (يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ)(18). ويقول: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(19). ويقول: (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ)(20).
ثالثاً: في هذه الدنيا قد يملك أصحاب النفوذ التدخُّل في سير المحاكم القضائية، لتخليص المجرم وإنقاذه من قبضة العدالة.
أمّا في ذلك اليوم فلا يملك أحد الشفاعة لأحد إلاّ من بعد أن يأخذ الإذن من الله سبحانه ويرضى.
يقول القرآن الكريم: (وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى)(21). ويقول: (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ)(22). ويقول: (يَوْمَئِذٍ لاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ)(23). ويقول: (لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ)(24).
وعلى أساس ذلك كلّه يأتي النداء في هذا اليوم الرهيب: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ فيكون الجواب: (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)(25).
وهكذا تتجلّى المالكية الإلهية بشكلها التام في ذلك اليوم، فهو سبحانه (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ولا مالك سواه في ذلك اليوم.
* مقتطف من كتاب: (التدبر في القرآن) لمؤلفه آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي
.....................................
(1) يقصد الشراب.
(2) القيامة: 2.
(3) الطفل بين الوراثة والتربية 1: 397 (نقلاً عن الصحف).
(2) التوبة: 105.
(5) مريم: 96.
(6) الرعد: 17.
(7) آل عمران: 161.
(8) النجم: 39-41.
(9) التشريع الرباني والقانون الوضعي (بتصرف).
(10) غافر: 19.
(11) الزلزلة: 7-8.
(12) روضة الواعظين: 84.
(13) الصياغة الجديدة: 240.
(14) النور المبين: 203 (بتصرف).
(15) الذنوب الكبيرة 2: 427.
(16) الصياغة الجديدة: 245.
(17) النحل: 78.
(18) هود: 105.
(19) يس: 65.
(20) فصلت: 21.
(21) الأنبياء: 28.
(22) يونس: 3.
(23) طه: 109.
(24) النجم: 26.
(25) غافر: 16.
|
|
|
|
|