الأسباب التي أدت الى انتشار الوضع في الحديث، هي السياسة الاُموية ذاتها، إذ أن تزييف التراث الإسلامي في جانب واحد لا يمكن أن يحقق الغرض المنشود، فلابد من أن يطال التزييف جميع نواحي هذا التراث حتى يتكامل العمل ويتحقق الهدف، وأنقل لكم ما نقله ابن الحديد عن محمد بن أبي سيف المدائني في كتابه الأحداث عن النسخة الموحدة التي بعثها معاوية لعنه الله الى عمّاله بعد عام الجماعة، والتي تضمنت مراحل عديدة من خطة العمل المطلوب اتباعها، وكما يلي: منع رواية شيء من فضائل علي بن أبي طالب وعدم إجازة أحد من شيعته، وعلى العكس من ذلك، تقريب شيعة عثمان وإجازة كل من يروي شيئاً في فضله،
ثم كتب -أي معاوية- لعنه الله الى عمّاله: أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلّ مصر وفي كل وجه وناحية; فاذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس الى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب ، إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فان هذا أحبّ إليّ وأقرُّ لعيني، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان وفضله.فقرئت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى، حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، واُلقي إلى معلّمي الكتاتيب، فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه، وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن، وحتى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء الله!
ثم كتب إلى عمّاله نسخة واحدة الى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البيّنة أنه يحب علياً وأهل بيته، فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه، وشفع ذلك بنسخة اُخرى: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم; فنكّلوا به، واهدموا داره، فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق، ولا سيما الكوفة، حتى إن الرجل من شيعة علي (عليه السلام) ليأتيه من يثق به، فيدخل بيته، فيلقي إليه سرّه، ويخاف من خادمه ومملوكه، ولا يحدّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليتمكّن عليه; فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر; ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة، وكان أعظم الناس في ذلك بليّة القرّاء المراؤون، والمستضعفون الذين يُظهرون الخشوع والنُّسُك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقرّبوا مجالسهم، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل; حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديّانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان، فقبلوها ورووها وهم يظنون أنها حق، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تديّنوا بها...
قال ابن أبي الحديد: وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه -وهو من أكابر المحدّثين وأعلامهم في تاريخه ما يناسب هذا الخبر وقال: إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة اُفتعلت في أيام بني اُمية، تقرّباً إليهم بما يظنون أنهم يُرغمون به اُنوف بني هاشم
هذه الوثيقة التاريخية المهمة التي تكشف عن الكثير من غوامض الاُمور، والتي لولا أن ابن أبي الحديد قد أوردها في شرحه لنهج البلاغة لما وصلتنا بسبب فقدان معظم الاُصول التاريخية المهمة للمدائني وابن عرفة، ومنها نستطيع أن نفهم لماذا أخرج المحدّثون روايات سدّ الأبواب غير باب أبي بكر، وحديث الخلّة والمنّة وروايات صلاة أبي بكر وغيرها في كتبهم مسلّمين بصحتها، حتى تلقتها الاُمة على أنها واقع غير مشكوك فيه، وكيف وقع الفقهاء أيضاً ضحية لها كالمحدّثين.
وقد أوردبعض الشواهد على صحة ما جاء في كتاب الأحداث للمدائني من انتقاص علي ومدح بعض الصحابة وعثمان في كتب التاريخ المعروفة، وكيف أن الزنادقة قد وجدوا أمامهم أرضاً ممهّدة للحط من مكانة علي وشيعته، ثم جاء دور الوضّاعين في اختلاق الروايات المنسوبة الى النبي (صلى الله عليه وآله) في ذلك، وللأسف فان بعض الصحابة قد اشتركوا في ذلك -دعماً لمعاوية وبني اُمية- لعنهم الله وهو الأمر الذي أوقع المحدّثين في هذا الفخ اعتقاداً منهم بعدالة الصحابة جميعاً وتنزههم عن الكذب، كما أن المحدّثين قد وثّقوا بعض التابعين واعتقدوا عدالتهم، ولم يلتفتوا الى علاقة اولئك التابعين بمعاوية وبني اُمية لعنهم الله، وأن بعضهم كانوا يقتاتون على موائدهم، أو بدافع الحقد على علي بن أبي طالب لأنه قاتل آباءهم وإخوانهم وربما قتلهم.
من هنا نفهم لماذا يعتز النواصب وأعداء أهل البيت بمعاوية ويزيد الخمور لعنهم الله وبقية أعداء الله ورسوله .