الحديث عن أحوال أجداد النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» له نصيب هام في تاريخ العرب والمسلمين . ولما كان نسب النبيُ (صلى الله عليه وآله وسلم) ينتهي إلى النبي إسماعيل بن إبراهيم «عليهما السلام» فإنّه من المستحب أن نتناول أسلاف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعرض والدراسة بدءاً منه (عليه السلام) .
1. النبي إبراهيم (عليه السلام) هو بطل التوحيد، جاهد في سبيل إرساء قواعد التوحيد، واقتلاع جذور الوثنية. ولد في بابل ـ التي تعد إحدى عجائب الدنيا السبع ـ التي حكمها «نمرود بن كنعان» الذي أمر الناس بعبادته إضافة إلى عبادة الاَصنام، ولمّا ذكر له أنّ عرشه سينهار على يد رجل يولد في بيئته، أمر بعزل الرجال عن النساء، في نفس الليلة التي انعقدت فيها نطفة النبي إبراهيم «عليه السلام» ، وهي الليلة التي تكهَّن بها المنجمون والكهنة من أنصار نمرود، ممّا دفع جلاوزته إلى قتل كلّ وليد ذكر. وقد حملت به أُمّه ـ أُمّ إبراهيم ـ مثلما حملت أُمّ موسى (عليه السلام) به، فأمضت فترة حملها في خفاء وتستر، ثمّ وضعته في غار بجبل قريب من المدينة للحفاظ عليه، وقضى في هذا الغار فترة ثلاث عشرة سنة، ثمّ انخرط في المجتمع الذي استغرب وجوده فأنكروه. ورأى في مجتمعه ظواهر التعبد لغير اللّه، من نجوم وكواكب وأصنام وعبادة الاِنسان، ممّا دعاه إلى أن يحارب في هذه الجبهات، التي أوضحها القرآن الكريم في سوره وآياته الشريفة. وقد بدأ عمَلَه بمكافحة ما كان عليه أقرباوَه، وعلى رأسهم عمه آزر، وهو عبادة الاَصنام والاَوثان، ثمّ اتَّجه إلى جبهة أُخرى أكثر ثقافة وعلم، وهي التي عبدت الكواكب والنجوم والاَجرام السماوية.
وقد أعطى النبي إبراهيم (عليه السلام) سلسلة من الحقائق الفلسفية والعلمية، لم يصل إليها الفكر البشري يومذاك، في حواره العقائدي مع عبّاد الاَجرام السماوية، مدعمة بأدلّة لا تزال إلى اليوم،موضع إعجاب كبار العلماء وروّاد الفلسفةوالكلام. وقد نقل القرآن الكريم في هذا المجال أدلّة النبي إبراهيم (عليه السلام) باهتمام خاصّ وعناية بالغة.( ترتبط آية 74 من سورة الاَنعام بحواره مع الوثنيّين، بينما ترتبط الآيات اللاحقة لها بعبادة الاَجرام السماوية) فقد اتّخذ إبراهيم (عليه السلام) هيئة الباحث عن الحقيقة بدون أن يصدم تلك الفرق المشركة ويجرح مشاعرها. وركّز في عمله على التوحيد في الربوبية، والتدبير وإدارة الكون، وأنّه لا مدبّر ولا مربّي للموجودات الاَرضية إلاّ اللّه سبحانه و تعالى، فأبطل ربوبية الاَجرام السماوية بقوله: (وَجَّهْتُ وَجْهِي للّذي فَطَرَ السَّمواتِ وَالاََرض حَنيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكين) (الاَنعام:79)
أمّا بالنسبة إلى عمّه آزر الذي كان ذا مكانة اجتماعية عالية بين قومه، وصانعاً ماهراً ومنجماً، له رأيه وأفكاره في الاَُمور الفلكية في بلاط نمرود، فإنّه ليس أبوه بل عمّه، وذلك أنّ علماء الشيعة قد اتّفقوا على أنّ آباء الاَنبياء كانوا موَمنين باللّه موحّدين به، وأكّد الشيخ المفيد ذلك في كتابه: «أوائل المقالات»( اوائل المقالات:12، باب القول في آباء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)) بل إنّ كثيراً من علماء السنّة قد وافقهم في ذلك أيضاً،ولعلّ مناداته بالاَب، نظراً لكونه الكافل لاِبراهيم (عليه السلام) ردحاً من الزمن، فنظر إليه بمنزلة الاَب.
وأمّا بخصوص عقابه، وإلقائه في النار، وعدم تأثّره بها وخروجه سالماً منها، فإنّالسلطات الحاكمة قررت نفيه من البلاد فغادرها إلى الشام، ثمّ إلى الحجاز مع زوجته هاجر وابنه إسماعيل، حينما أسكنهما في مكّة، وظهرت بفضلهما عين زمزم، ووفدت جماعات من القبائل لتسكن في تلك البقعة، وأشهرها قبيلة «جرهم» التي تزوّج منها إسماعيل وصاهرهم، ومنذ ذلك الوقت أصبحت مكة من المدن العامرة، بعد أن كانت صحراء قاحلة وواد غير ذي زرع.
2. قصيّ بن كلاب: هو الجدّ الرابع للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأُمّه فاطمة التي تزوّجت برجل من بني كلاب ورزقت منه بولدين: زهرة وقصيّ. و قد توفّي أبوه فربّاه زوجُ أُمّه ربيعة، إلاّ أنّ خلافاً وقع بين قصيّ وقوم ربيعة، أدى إلى طرده من قبيلتهم،ولكن أُمّه تمكنت من إرجاعه إلى مكة، فعاش فيها متفوقاً في أعماله ومراكزه، فشغل المناصب الرفيعة، مثل حكومة مكة، وزعامة قريش، وسدانة الكعبة المعظمة، فأصبح رئيس تلك الديار دون منازع. ومن أهمّ أعماله:
أ: تشجيع الناس على البناء حول الكعبة.
ب: تأسيس مجلس شورى يجتمع فيه روَساء القبائل في حلّ مشكلاتهم، وهو دار الندوة.
وأمّا من الاَولاد فقد ترك: عبد الدار وعبد مناف.
3. عبد مناف: هوالجدّالثالث للنبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) واسمه: «المغيرة»، ولقبه قمر البطحاء. و مع أنّه كان أصغر من أخيه، إلاّ أنّه حظي بمكانة خاصة عند الناس، فقد اتخذ التقوى شعاراً، ودعا إلى حسن السيرة وصلة الرحم، ولكن الزعامة والقيادة كانت لاَخيه عبد الدار، حسب وصية أبيهما. إلاّ أنّ الوضع تبدّل بعد وفاتهما، فقد وقع الخصام والتنازع بين أبنائهما على المناصب، فانتهى الاَمر إلى اقتسامها بينهم، حيث تقرّر أن يتولّى أبناء عبد الدار سدانة الكعبة وزعامة دار الندوة، ويتولّى أبناء عبد مناف سقاية الحجيج وضيافتهم ووفادتهم.
4. هاشم: وهوالجدّ الثاني للرسول الاَعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) واسمه: عمرو و لقبه العُلاء، ولد مع عبد شمس توأماً له، وله أخوان آخران هما: المطلب ونوفل.
ومن الاَُمور المميزة لاَبناء عبد مناف، إنّهم تُوفُّوا في مناطق مختلفة، فهاشم تُوفّي في غزّة، وعبد شمس في مكّة، ونَوفَل في العراق،والمطلب في اليمن.
كان يدعو الناس إلى الترحيب بضيوف اللّه وزوّاره وتكريمهم بالمال والحلال في غرّة كلّ شهر ذي الحجة:«وأسألُكُم بحرمة هذا البيت ألاّيُخرج رجلٌ منكم من ماله لكرامة زوّار بيت اللّه وتقويتهم إلاّطيباً لم يوَخذ ظلماً، ولم يقطع فيه رحم، ولم يوَخذ غصباً».( السيرة الحلبية :1|6)
ومن أهمّ آثاره: أنّ زعامته لمكّة كانت لمنفعة أهلها وتحسين أوضاعهم، فقد ساهم كرمُه في عدم انتشار القحط والجدب، كما أنّه حسّن من الحالة الاقتصادية في البلاد عندما عقد معاهدة مع أمير الغساسنة، ممّا دفع أخاه عبد شمس إلى أن يعاهد أمير الحبشة، وأخويه نوفل والمطلب أيضاً أن يعقدا معاهدات مع أمير اليمن وملك فارس، وذلك لتجنب الاَخطار وتأمين الطرق و سير القوافل التجارية. وقد عُرِفَ عنه أنّه الموَسس لرِحلتي الشتاء والصيف إلى الشام واليمن.
إلاّ أنّ كلّتلك الاِسهامات من جانب هاشم، كانت دافعاً إلى أن يحسده أُميّة بن عبد شمس ابن أخيه، وذلك لما حظي به من مكانة وعظمة وتقرّب إلى قلوب الناس، الاَمر الذي أجبرهم على الحضور عند كاهن من كهنة العرب، فقضى لهاشم بالغلبة، فأخذ منه الاِبل وأخرج أُمية إلى الشام نافياً لمدّة عشرة سنين، حسب الشروط التي تمت بينهما.وتبيّن هذه القصة جذورَ العداء بين بني هاشم وبني أُميّة من ناحية، وعلاقات الاَمويين بالشام وارتباطهم بها حين اتخذوها عاصمة لدولتهم بعد ذلك من ناحية أُخرى.
ومن أشهر أولاده : شيبة، الذي عُرِفَ بـ«عبد المطلب» لاَنّه تربى وترعرَعَ في حجر عمّه المطلب، حيث كان العرب يسمّون من تَرعرَعَ في حجر أحد، وينشأ تحت رعايته، عبداً لذلك الشخص.
5. عبد المطلب: وهو الجدّ الاَوّل للنبي العظيمص ورئيس قريش وزعيمها. وأودعت يدُالمشيئة الربانية بين حنايا شخصيته نورَالنبي الاَكرم «صلى الله عليه وآله وسلم» ولذا كان إنساناً طاهر السلوك، نقيّ الجيب، منزّهاً عن أيّ نوع من أنواع الانحطاط والفساد، وأحد المعدودين الذين كانوا يوَمنون باللّه واليوم الآخر.
وقد اشتهر موقفه الاِيماني في عام الفيل، حينما أمر جماعته بالخروج من مكة إلى الجبال والشعاب، ونزل إلى الكعبة يدعو اللّه ويستنصره على أبرهة وجنوده مناجياً: «اللّهمّ أنت أنيسُ المستوحشين، ولا وحشة معك، فالبيت بيتُك والحرمُ حرمُك والدار دارُك، ونحن جيرانُك، تمنع عنه ما تشاء، وربّ الدار أولى بالدار».
وفي الصباح خرجت أسرابٌ من الطيور من جهة البحر يحمل كل واحد منها ثلاثة أحجار، حجر في منقاره،وحجر في كلّ من رجليه وحلّقت فوق روَوس الجند، ورجمتهم بالاَحجار بأمر من اللّه محطمة روَوسهم وممزقة لحومهم، وقد أصاب حجر منها رأس أبرهة القائد، فأمر جنوده بالتراجع والعودة إلى اليمن، إلاّ أنّهم أُهلكوا في الطريق، حتى أبرهة نفسه مات قبل وصوله صنعاء.( السيرة الحلبية: 1|43؛ الكامل في التاريخ:1|260؛ بحار الاَنوار:5|130).
وقد نتج من هذه العملية، أن تحطّم جيش أبرهة، وانهزم أعداء قريش، وعظم شأن المكيّين،وشأن الكعبة المشرفة في نظر العرب وغيرهم، فلم يجرأ أحد بعد ذلك على غزو مكة، أو الاِغارة على قريش، أو التطاول على الكعبة. كما أنّها من جانب آخر، أحدثت في نفوس القرشيين حالات جديدة خاصة، فقد زادت من غرورهم وعنجهيتهم واعتزازهم بعنصرهم، فقرروا تحديد شوَون الآخرين والتقليل من وزنهم، على أساس أنّهم فقط الطبقة الممتازة من العرب. كما دفعتهم إلى التصور بأنّهم موضع عناية الاَصنام (الـ 360 ) إذ أنّهم فقط الذين تحبهم تلك الاَصنام وتحميهم وتدافع عنهم!!
وقد دفعهم كلّ ذلك إلى التمادي في لهوهم ولعبهم، والتوسع في ممارسة الترف واللّذات، وإظهار الولع بشرب الخمر، حتى أنّهم مدّوا موائد الخمر في فناء الكعبة، وأقاموا مجالس أنسهم إلى جانب تلك الاَصنام، متصورين أنّ حياتهم الجميلة هذه هي من بركة تلك الاَصنام والاَوثان!!
كما أنّهذه الحالة جعلت قريش تقوم بإلغاء أيّ احترام وتقدير للغير فقالوا: إنّ جميع العرب محتاجون إلى معبدنا، فقد رأى العرب عامةً كيف اعتنى بنا آلهة الكعبة خاصةً، وكيف حَمَتنا من الاَعداء.
ومن ذلك بدأت قريش تضيّق على كلّ من يدخل مكة للعمرة أو الحجّ، وتعاملهم بخشونة وأسلوب ديكتاتوري، وفرضت عليهم ألا يصطحب أحد منهم طعاماً معه من خارج الحرم ولا يأكل منه، بل عليه أن يقتني من طعام أهل الحرم ويأكل منه، وأن يلبس عند الطواف بالبيت من ثياب أهل مكّة التقليدية القومية، أو يطوف عرياناً بالكعبة إذا لم يكن في مقدوره شراوَها. و من رفض الخضوع للاَمر من روَساء القبائل وزعمائها، كان عليه أن ينزع ثيابه بعد الانتهاء من الطواف ويلقيها جانباً، دون أن يكون لاَحد الحقّ في مسّها حتى صاحبها.( كانت تسمّى عندهم «اللقى»)
أمّا النساء فكان عليهن إذا أردن الطواف أن يطفُن عراة، ويضعن خرقة على روَوسهن. كما أنّه لم يكن يحق لاَي يهوديّ أو مسيحيّ أن يدخل مكة، إلاّ أن يكون أجيراً لمكيّ، وعليه ألاّ يتحدث في شيء من أمر دينه وكتابه.
بالاِضافة إلى ذلك، فإنّهم أنفوا منذ ذلك اليوم أن يأتوا بمناسك عرفة، كما يفعل بقية الناس، حيث تركوا الوقوف بها والاِفاضة منها، بالرغم من أنّآباءهم ـ من ولد إسماعيل ـ كانوا يقرّون أنّها من المشاعر والحج.( الكامل في التاريخ:1|266).
إنّ كلّذلك الانفلات الاَخلاقي والترف والانحراف، قد هيّأ الاَرضية وأعدها لظهور مصلح عالميّ.
أمّا بالنسبة لابن عبد المطلب، عبد اللّه، فقد سعى إلى أن يزوّجه، فاختار له: «آمنة بنت وهب بن عبد مناف» التي عُرِفت بالعفّة والطهر والنجابة والكمال. كما اختار لنفسه «دلالة» ابنة عم آمنة، فرزق منها حمزة، عمّ الرسول «صلى الله عليه وآله وسلم» الذي كان في نفس عمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (تاريخ الطبري:2|7 وهو يذكر أنّه «هاله») و قد تمّ حفل الزفاف في منزل السيدة آمنة طبقاً لما كان عليه المتعارف في قريش، ثمّ بقي «عبداللّه» مع زوجته ردحاً من الزمن حتى سافر في تجارة إلى الشام، وتوفّي في أثناء الطريق.
ويرتبط بموضوع أسلاف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، طهارته «صلى الله عليه وآله وسلم» من دَنَس الآباء وعهر الاَُمّهات، إذ لم يكن في أجداده وجدّاته، سفاح وزنا، وهو ما اتّفق عليه المسلمون، وصرّح به الرسول «صلى الله عليه وآله وسلم» في أحاديث رواها السنة والشيعة. فقد جاء عنه «صلى الله عليه وآله وسلم» إنّه قال: «نُقلتُمن الاَصلاب الطاهرة إلى الاَرحام الطاهرة نكاحاً لا سِفاحاً».( كنز الفوائد:1|164).
وقال الاِمام علي (عليه السلام) :«وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله وسيد عباده كلّما نسخ اللّه الخلق فِرقتين، جعله في خيرهما، لم يسهِم فيه عاهرٌ ولا ضربَ فيه فاجر».( نهج البلاغة، الخطبة 215، شرح محمد عبده).
كما ذكر الاِمام الصادق (عليه السلام) ذلك مفسراً الآية: (وتقلّبك في الساجدين) : «أي في أصلاب النبيّين، نبي بعد نبي، حتى أخرجه من صلبِ أبيه عن نكاحٍ غير سفاح من لدن آدم»( تفسير مجمع البيان).