بدأ كقائد شيعي وانتهي بأن جعلنا جميعا من شيعته: مفارقة حسننصر الله
عبد الحليم قنديل
14/07/2008
معني الكاريزما أوسع من حسن الهيئة الشخصية، ومن بلاغة زائدة فيإلقاء خطب السياسة، ومن جاذبية سحرية يتمتع بها قيادي، فالثقة المتحصلة من ممارسةمرئية هي الأساس الخرساني الصلب لتكون أسطورة الزعيم السياسي .
والسيد حسن نصرالله مثال رفيع علي كاريزما الزعامة السياسية، فقد تحول من زعيم حزب إلي زعيم أمة،ومن منتسب لطائفة الشيعة إلي رمز لطائفة المقاومة في الأمة كلها، ولا يكاد المواطنالعربي يصدق أحدا من المشايخ أو من قادة السلاح أو من زعماء السياسة بأكثر مما يفعلمع حسن نصر الله، ولا يحتشد الناس لسماع خطبة زعيم ـ منذ عصر جمال عبد الناصر ـ كمايحدث مع السيد حسن .
وتبدو زعامة السيد حسن ظاهرة مفارقات حقيقية، فلم يولد وفييده طبق زعامة فضي موروث، ولم تتزاحم علي موائد عصره ملاعق ذهب تعطي الزعامةللراغبين والطامعين .
فقد ظهرت وتطورت ظاهرة السيد في سياق تراجع عربي عام،انكسرت موجة المد القومي العربي من أواسط السبعينيات، وسقط دور مصر القيادي فيبلاعة كامب ديفيد، وانفسح المجال لعربدة إسرائيلية متصلة في الشرق العربي، ضربتإسرائيل مفاعل أوزيراك العراقي بينما كان بيغين مجتمعا مع السادات، وزحفت إسرائيلبالغزو الشاروني إلي بيروت، وبدا أن إسرائيل نجحت في احتلال عاصمة عربية خارجفلسطين لأول مرة، وفي وسط الحطام تكونت ظاهرة المقاومة اللبنانية، وكانت تياراتهاالأولي قومية ويسارية متأثرة بتراث المقاومة الفلسطينية، وسرعان ما تحول المشهد معبروز حركة أمل بميولها الطائفية الظاهرة، ثم مع الانشقاق عن أمل ، وتكون النواةالأولي لحزب الله، ودور المؤسس الأول الشهيد عباس الموسوي، ثم خلافة حسن نصر الله،ومع تطور حزب الله ـ تحت زعامة السيد حسن ـ من منظمة مقاومة استشهادية إلي رقم صعبفي معادلات المنطقة كلها .
وكان لافتا أن يحدث ذلك في لبنان بالذات، بتركيبالموزاييك فيه، وبكونه أضعف الدول العربية في قوة السلاح النظامي، وبكون الدولةاللبنانية أقرب إلي الشركة المساهمة منها إلي الكيان القابض، وربما تكون هذه السماتالفريدة للبنان هي التي أسهمت في نجاح مسعي حسن نصر الله، فقد بدا لبنان كأرضأحلام، حريات حركة للناس، وانفتاح لحدود لبنان علي ما عداه، بيئة حرية وتحد فيالوقت ذاته، وموطئا لميلاد مفارقة العصر العربي التي حملت اسم نصر الله، وفي بيئةثقافة إيمانية عميقة، وتطلع لمصائر الشهادة باعتبارها أغلي المني، كل ذلك لعب دورهفي بناء ظاهرة الحزب المقاوم والزعيم المتفرد بطاقة الإلهام .
ونظن أن سنواتالتسعينيات كانت هي الزمن المثالي لبلورة مفارقة حسن نصر الله، فقد خرج العرب منحرب الخليج الثانية في حالة يرثي لها، ذهبت جيوش عربية للحرب تحت القيادةالأمريكية، وكان الطرف الآخر في الحرب هو جيش العراق، وسيق العرب إلي مدريد، وذهبالفلسطينيون إلي مفاوضات أوسلو السرية، وكان الاتحاد السوفيتي قد ذهب بددا، وذهبتأثيره الموازن نسبيا لنفوذ أمريكا في المنطقة، وبدت لغة المقاومة غريبة تماماكغربة الإسلام في آخر الزمان، وراجت أوهام وخيالات عن حقائق العصر الجديد، وبينهاأن المقاومة مودة قديمة، وأن التسويات هي لغة العصر، وأن ملاينة أمريكا ومسايرتهاهي طوق النجاة، وذهب زعيم المقاومة الفلسطينية التاريخي ياسر عرفات إلي خيمة غزة ـأريحا، وإلي سلطة حكم ذاتي هي قبضة هواء.
وبالمقابل بدا صعود حزب الله مفارقا،وعدوا عرفات ـ رحمه الله ـ بإقامة دولة فلسطينية قبل قدوم سنة 2000، ولم تقم الدولةالفلسطينية إلي الآن، بينما كانت المقاومة ـ المفارقة ـ عند وعدها بالضبط، ونجحت فيطرد الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان سنة 2000، ودون أن توقع صكا أو تتعهدبتطبيع، وكانت العظة باهرة، فقد ثبت أن تصميم القوة الذاتية قادر علي قلب المعادلاتالمفروضة، فقد نجحت خطة حسن نصر الله وخابت خطة عرفات، بل وزحف تاريخ نصر الله إليجغرافيا عرفات نفسها، وبدت الانتفاضة الفلسطينية الثانية ترجيعا لصدي انتصارالمقاومة في لبنان، فقد نشبت الانتفاضة الثانية بعد النصر اللبناني بشهور، وبداتحول الانتفاضة الثانية من الحجارة إلي السلاح ملفتا، وبدت إسرائيل منهكة أكثر معالانتفاضة الثانية، واضطرت لفك الارتباط والجلاء الأرضي عن غزة وتفكيك المستوطناتاليهودية لأول مرة في التاريخ الفلسطيني الحديث والمعاصر، وكانت تلك هي الثمرةالثانية المؤكدة لنجاح خط حسن نصر الله، صحيح أن نزعة الاستشهاد في المقاومةالفلسطينية لها تاريخها الطويل، لكن الثقة المستعادة بسلاح المقاومة مع نجاحها فيتحرير الجنوب اللبناني، الثقة بجدوي السلاح المقاوم، الثقة في نصر الله الموعودللصابرين والاستشهاديين، هذه الثقة ردت اعتبار المقاومة، وبدت فصائل المقاومةوقادتها موضع استقطاب لمشاعر الناس بعد خيبة الأمل راكبة الجمل في الحكام وجيوشهمالنظامية .
ومن مقام البطل إلي مقام الأسطورة تحول حسن نصر الله، فقد ثبت ـ معتطور حزب الله ـ أن الأمة قادرة علي اجتراح البطولة، وأنها قادرة علي النصر فيلبنان وفلسطين، وأن قوة سلاح الجماعات الشعبية قادرة علي قهر الجيش الإسرائيلي الذيقيل طويلا أنه لايقهر، لكن تلك لم تكن نهاية المطاف في دراما المقاومة المفارقةلاستسلام العصر العربي، فقد بدأ حزب الله ـ مع العشرية الأولي من الألفية الثالثة ـفي التحول من جماعة مقاومة إلي قوة من طراز فريد، صحيح أنه ولد وتطور ببركة دمالشهداء، ولم يتخلف حسن نصر الله يوما عن قطار الشهادة، وقدم ابنه هادي شهيدامحتسبا عند الله، لكن حزب الله ـ بقيادة نصر الله ـ تحول من جماعة استشهادية إليجيش حرب عصابات فائق الخبرة والتكنولوجيا، وأسهم الاستعداد الذاتي الفائق فيالاستفادة القصوي من عون إيران وغيرها، ودعمت تكنولوجيا الصواريخ استشهادية رجالالله، مع التدريب العسكري الشاق، وشبكة الأنفاق السرية، وجهاز المخابرات طويلالذراع إلي قلب إسرائيل ذاتها، وتحول حزب الله إلي أكبر وأكفأ قوة عربية إلي الشرقمن فلسطين. وبدت مواعظ حرب تموز (يوليو) 2006 ظاهرة بأماراتها، فقد كانت هي الحربالعربية الإسرائيلية الأطول بأيامها، ودخلت النظم العربية ـ من وراء أمريكا ـ طرفاداعما بالسياسة لحرب إسرائيل، لكن حزب الله انتصر، ووضع مدن الداخل الإسرائيلي تحترحمة صواريخه، وزحف بالهلع إلي قلب قادة إسرائيل المرتبكة، بينما بدا حسن نصر اللهبقامته القصيرة ـ نسبيا ـ كأنه المارد العملاق، وبدا وعده الصادق كأنه كلمة الله،وبدت لثغته الرائية المحببة كأنها البلسم الشافي، وبدت تعهداته كأنها الأقدار، تعهدبهزيمة إسرائيل وقد فعلها مرتين، وتعهد بإطلاق سمير القنطار عميد الأسري العرب فيسجون إسرائيل، وهاهو الوعد الآن يتحقق .
إنها دراما حسن نصر الله الذي بدأ كقائدشيعي، وانتهي بأن جعلنا جميعا من شيعته.