اعتبار عدم العداوة في الشاهد
المسألة:
لو شهد رجل على آخر في جناية أو مال وكان بينهما عدواة هل تقبل شهادته عليه؟
الجواب:
الظاهر انه لا تُقبل شهادة مَن كانت بينه وبين المشهود عليه عداوة في شأنٍ من شئون الدنيا. وذلك لما ورد في معتبرة السكوني عن أبي عبد الله الصادق (ع) عن أبيه عن آبائه (ع) قال: "لا تُقبل شهادة ذي شحناء أو ذي مخزية في الدين".
والمراد من الشحناء هو العداوة، والرواية الشريفة محتملة لمعنيين:
الاحتمال الأول: هو أنها بصدد بيان انَّ من شرائط قبول شهادة الشاهد هو ان لا يكون عدواً لأحد من المؤمنين، فلو كان كذلك فإنه لا تُقبل شهادته على أحدٍ مطلقاً.
الاحتمال الثاني: هو أنها بصدد بيان عدم قبول شهادة الشاهد على من كانت بينه وبين المشهود عليه عداوة لا مطلقاً.
وعلى كلا الاحتمالين تكون الرواية مقتضية لعدم صحة قبول شهادة مَن كانت بينه وبين المشهود عليه عداوة.
وأما ما هو المستظهر من الاحتماليين فقد يُقال انَّ المستظهر من الاحتمالين هو الأول وذلك لانَّ العداوة لأحد المؤمنين منافية للعدالة وموجبة للفسق، وهذا يقتضي عدم صحة قبول شهادة ذي الشحناء مطلقاً، فمساق الرواية هو مساق قولنا لا تُقبل شهادة من اغتاب مؤمناً فإن معنى ذلك هو عدم قبول شهادته مطلقاً.
فقوله (ع): "لا تقبل شهادة ذي شحناء" سيق لغرض بيان واحدٍ من مصاديق ما يوجب سقوط العدالة والذي هو شرط في صحة قبول الشهادة إلا ان الظاهر عدم تمامية هذا الاستظهار وذلك لعدم الملازمة بين العداوة لأحدٍ من المؤمنين وبين الفسق وسقوط العدالة، فلم يثبت انّ العداوة من الذنوب إذا لم يترتب عليها أثر في العمل، فالعداوة والشحناء تعني البغضاء والبغضاء، من شئون النفس نعم قد يظهر أثرها على الجوارح كما هو الغالب، فإذا كان ما ظهر على الجوارح من قبيل الغيبة أو الشتم والانتقاص والإساءة فحينئذٍ تكون العداوة محرمة وموجبة لسقوط العدالة، وأما إذا لم يظهر لها أثر على الجوارح أو كان ما ظهر من آثارها غير محرم كالتظلُّم المباح أو الإعراض غير البالغ حدَّ الانتفاض فحينئذٍ لا تكون العداوة من موجبات سقوط العدالة.
وبناء على ذلك لا تكون الرواية بصدد بيان واحدٍ من مصاديق سقوط العدالة الموجب لعدم صحة قبول الشهادة بل هي بصدد بيان شرط آخر من شرائط قبول الشهادة.
وعليه فالظاهر هو تعيُّن الاحتمال الثاني، وذلك لاستبعاد اعتبار خلو نفس الشاهد من عداوة كل أحدٍ من المؤمنين، لان ذلك لا يكاد يتفق لأحدٍ حتى وإن كان من العدول.
فلأنه لما كان المقصود من المؤمنين هو مطلق المعتقدين للحق، وهؤلاء فيهم الفاسق والمؤذي بغير وجه حق، فهل يقال ان من آذاه أحد من هؤلاء فوجد في نفسه عليه انَّ شهادته لا تقبل مطلقاً وإنْ كان عدلاً، ان ذلك لو كان هو المتعيَّن لكان مقتضياً لعدم قبول شهادة أحد من الناس إلا من شذَّ وندر كما انَّه لو كان هو المتعين لكان أوضح من ان يخفى نظراً لعدم خلو أحدٍ من هذا الابتلاء وذلك يقتضي التنبيه بما يتناسب وحجم الأثر المترتب على الغفلة عن هذا الشرط لان الغفلة عن هذا الشرط ينتج عدم شرعية أكثر الشهادات، فإذا كان ذلك منافياً لغرض الشريعة فلابد للاحتراز من الوقوع فيه ان يكون التنبيه على ذلك واضحاً جداً في حين ان ما نجده من سيرة المتشرعة وفتاوي الفقهاء هو عدم الاعتبار لهذا الشرط، وذلك ما يمثل قرينة على عدم اعتبار هذا الشرط في الشاهد.
نعم انْ لا تكون بين الشاهد والمشهود عليه عداوة أمر لا يقتضي اعتباره سقوطُ أكثر الشهادات، فكثيراً ما يتفق ان لا تكون بين الشاهد والمشهود عليه عداوة ولذلك لا يستفاد -بمقتضى القرينة المذكورة- من الرواية أكثر من اعتبار ذلك في صحة الشهادة.
على انه يمكن التعزيز لاستظهار الاحتمال الثاني مضافاً إلى ما ذكرناه بأن المناسب للاعتبار العقلائي هو إن الشاهد إنما يكون متهماً في شهادته لو كان عدواً للمشهود عليه، وأما لو لم تكن بينه وبين المشهود عليه عداوة.
وان كانت بينه وبين غير المشهود عليه عداوة فإنه لا مبرر عقلائياً لاتهامه وعدم قبول شهادته خصوصاً بعد افتراض عدالته ونزاهته.
وبتعبير آخر انَّ هذا الارتكاز العقلائي يُساهم في تعزيز استظهار الاحتمال الثاني لاستبعاد نشوء اعتبار الشرائط في الشهود عن التعبُّد المحض، وحيث انَّ ما يقتضيه الارتكاز العقلائي هو عدم مانعية العداوة من الصدق إذا لم يكن المشهود عليه هو العدو لذلك كان الاحتمال الأول مستبعداً لانه لو كان هو المراد لكان هذا الشرط تعبدياً محضاً.
وبذلك يتعين استظهار انَّ المراد من قوله (ع): "لا تُقبل شهادة ذي شحناء" في الاحتمال الثاني وهو اعتبار ان لا تكون بين الشاهد والمشهود عليه عداوة.
قد يقال ان ثمة احتمالاً ثالثاً وهو ان المراد من الرواية هو عدم اعتبار شهادة من كانت بينه وبين المشهود عليه عداوة موجبة لسقوط العدالة، وأما مجرَّد الشحناء التي لم يظهر أثرها على الجوارح فهي ليست مانعة من صحة قبول الشهادة.
إلا ان هذا الاحتمال يقتضي ان لا يكون عدم الشحناء شرطاً مستقلاً وهو خلاف الظاهر على انه منافٍ لمقتضى إطلاق الرواية.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور