نستعرض اليوم قولاً آخر من أقوال علماء المدرسة السلفية، بل هو الملهم لهذه المدرسة، وهو شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني، قال في كتابه منهاج السنة ج 4 ص211:
« وأما الحديث الذي رواه عن ابن عمر، عن النبي : «يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي؛ اسمه كاسمي، وكنيته كنيتي، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، فذلك هو المهدي»؛ فالجواب:
إن الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة، رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم من حديث ابن مسعود وغيره، كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن مسعود: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم، لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه رجل مني أو من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً وظلماً»، ورواه الترمذي وأبو داود من رواية أم سلمة، وأيضاً فيه: «المهدي من عترتي من ولد فاطمة»، ورواه أبو داود من طريق أبي سعيد وفيه: «يملك الأرض سبع سنين»، ورواه عن علي رضي الله عنه، أنه نظر إلى الحسن وقال: «إن أبني هذا سيد كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم، يشبهه في الخلُق، ولا يشبهه في الخلْق، يملأ الأرض قسطاً» ».
ونلاحظ هنا:
ـ أن ابن تيمية صحح الحديث الوارد عن النبي «ص» بشأن المهدي، ولكن لم يصرح بتواتره، وقد نقل عنه الشيخ محمد المنتصر الكتاني في بيان المجمع الفقهي الإسلامي الذي عرضناه سابقاً، أن ابن تيمية يقول بتواتر أحاديث المهدي في فتاواه، وقد بحثت فيها بقدر الوسع فلم أجد نصاً بهذا المضمون، وبكل الأحوال هو أعلم بابن تيمية والعهدة عليه.
ـ أن ما هو مطروح للبحث الآن أصل مسألة المهدي، أي الاعتقاد بخروج رجل من نسل النبي «ص» من ولد فاطمة «ع» يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ويطهر الأرض كلها من الظلم والفساد، وأما التفاصيل فسوف نبحثها واحداً واحداً فيما بعد، ولذلك لا يضرنا ما ذكره في الأحاديث التي نقلها والتي تخالف المعتقد الشيعي في المهدي؛ من قبيل أن اسم أبيه كاسم أبي النبي، وأنه من ولد الحسن ع فهذه الآن ليست محل البحث.
وبهذا نكون قد انتهينا من نقل أقوال أعلام المدرسة السلفية، وننقل الآن جملة من أقوال علماء السنة من غير المدرسة السلفية المتعارفة في هذا العصر:
• ممن حكى تواتر أحاديث المهدي الحافظ أبو الحسن محمد بن الحسين السجستاني الآبري، صاحب كتاب "مناقب الشافعي" المتوفى «363هـ»، قال: « وقد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر المهدي، وأنه من أهل بيته، وأنه يملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلاً، وأن عيسى عليه السلام يخرج فيساعده على قتل الدجال، وأنه يؤم هذه الأمة، ويصلي عيسى خلفه » نقل ذلك عنه ابن القيم في كتابه المنار المنيف.
• وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: « تواترت الأخبار بأنّ المهدي من هذه الأمة. وأن عيسي عليه السلام سينزل ويصلي خلفه ».
• ومنهم العلامة الشيخ محمد البرزنجي المتوفى«1103 هـ» في كتابه " الإشاعة لأشراط الساعة "، قال: « فمنها المهدي، وهو أولها، واعلم أن الأحاديث الواردة فيه على اختلاف رواياتها لا تكاد تنحصر، إلى أن قال: ثم الذي في الروايات الكثيرة الصحيحة الشهيرة، أنه من ولد فاطمة إلى أن قال:
تنبيه: قد علمت أن أحاديث وجود المهدي، وخروجه آخر الزمان، وأنه من عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ولد فاطمة؛ بلغت حد التواتر المعنوي، فلا معنى لإنكارها ».
• الشيخ محمد السفاريني الحنبلي المتوفى سنة «1188 هـ»، في كتابه " لوامع الأنوار البهية "، قال: « وقد كثرت بخروجه يعني المهدي الروايات حتى بلغت حد التواتر المعنوي، وشاع ذلك بين علماء السنة حتى عد من معتقداتهم ثم ذكر بعض الآثار والأحاديث في خروج المهدي، وأسماء بعض الصحابة الذين رووها ثم قال: وقد روي عمن ذكر من الصحابة وغير من ذكر منهم رضي الله عنهم بروايات متعددة، وعن التابعين من بعدهم، ما يفيد مجموعه العلم القطعي، فالإيمان بخروج المهدي واجب كما هو مقرر عند أهل العلم، ومدون في عقائد أهل السنة والجماعة ».
• القاضي محمد بن علي الشوكاني الزيدي المتوفى سنة «1250هـ»، قال في كتابه "التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي المنتظر والدجال والمسيح": « والأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها، منها خمسون حديثاً، فيها الصحيح والحسن، والضعيف المنجبر، وهي متواترة بلا شك ولا شبهة، بل يصدق وصف المتواتر على ما هو دونها في جميع الاصطلاحات المحررة في الأصول، وأما الآثار عن الصحابة المصرحة بالمهدي، فهي كثيرة جداً لها حكم الرفع، إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك».
• الشيخ صديق حسن القنوجي المتوفى سنة «1307هـ» قال في كتابه " الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة ": « والأحاديث الواردة في المهدي على اختلاف رواياتها كثيرة جداً، تبلغ حد التواتر المعنوي، وهي في السنن وغيرها من دواوين الإسلام من المعاجم و المسانيد إلى إن قال لاشك أن المهدي يخرج آخر الزمان من غير تعيين لشهر وعام، لما تواتر من الأخبار في الباب، واتفق عليه جمهور الأمة خلفا عن سلف، إلا من لا يعتد بخلافه إلى أن قال فلا معنى للريب في أمر ذلك الفاطمي الموعود المنتظر، المدلول عليه بالأدلة، بل إنكار ذلك جرأة عظيمة في مقابلة النصوص المستفيضة المشهورة البالغة إلى حد التواتر ».
• الشيخ محمد بن جعفر الكتاني المتوفى سنة «1345هـ» قال في كتابه " نظم المتناثر من الحديث المتواتر": « والحاصل أن الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر متواترة، وكذا الواردة في الدجال، وفي نزول سيدنا عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام».
وحكى التواتر غير هؤلاء من الأعلام؛ كالسيوطي في كتابه الحاوي للفتاوي، والسخاوي في فتح المغيث، والمغربي في إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون، والألباني وغيرهم.
بعد هذا كله؛ لا يبقى مجال للشك في أصل الاعتقاد بالمهدي الموعود من نسل فاطمة عليها السلام، ولو اعترى الشك بعض التفاصيل لأسباب مختلفة؛ فإن ذلك لا يغير من التسالم الواقع على أصل الموضوع، وها هي الصلاة فريضة مسلمة، وهي من الضروريات ولا يختلف عليها اثنان من المسلمين، ومع ذلك وجد الخلاف بين الفقهاء في الكثير من تفاصيلها.
ثم نضيف إلى ذلك كله رأي الشيعة الإمامية، الذين أطبقت كلمتهم على هذه العقيدة، بل إن الشيعي لا يكون إمامياً إثني عشرياً ما لم يؤمن بالمهدي، لأن المهدي ختام الأئمة الإثني عشر، وقد التصقت بهم هذه العقيدة حتى ظن البعض أنها من مختصاتهم.
هذا؛ وقد أحصى العلماء 400 رواية عن النبي «ص» في المهدي من طرق أهل السنة فقط، كما ينقل ذلك السيد صدر الدين الصدر في كتابه المهدي، مما يوفر تواتراً قطعياً. وأحصى العالم الجليل الشيخ لطف الله الصافي حفظه الله تعالى في كتابه القيم منتخب الأثر أكثر من 6350 رواية في المهدي من طرق الشيعة والسنة، وهذا يعني أن الشك في هذا الكم الضخم من الروايات غير جائز، إذ لو جاز ذلك لطال الكثير من المسلمات الدينية التي لا تحظى بمثل هذا المستند.
ولكن مع ذلك فقد تجرأ البعض وشكك في هذه الحقيقة، ولعل أول من فتح هذا الباب هو ابن خلدون، ثم تبعه مثل أحمد أمين، ومحمد رشيد رضا، ومحي الدين عبد الحميد، والشيخ عبد الله بن محمود، ولا يعبأ بخلافهم بعد ما ذكرناه، وقد تصدى للرد عليهم علماء السنة أنفسهم، وسفهوا رأيهم واعتبروه مجازفة وتقحماً، وقولاً بغير علم، وبرأيي أن الباعث لذلك أمور نذكر منها الآن أمرين هما:
1- الجهل بفن الحديث وعلومه.
2- توهم البعض أن هذه العقيدة عقيدة شيعية خاصة.
وللأسف؛ كثيراً ما يتجرأ بعض الجهال على أحكام الإسلام، لمجرد العداء للشيعة، فيتهجم من حيث لا يشعر على أحكام الله تعالى، وأبرز مثال على ذلك تشريع المتعة المنصوص عليه في كتاب الله سبحانه، وهو من الأحكام الشرعية المسلمة، غاية ما هنالك أنهم يقولون أن هذا الحكم نسخ.