الرد على شبهة شرب معاوية للخمر :
حدثنا زيد بن الحباب حدثني حسين بن واقد حدثنا عبد الله بن بريدة قال دخلت أنا وأبي على معاوية فأجلسنا على الفرش ثم أتينا بالطعام فأكلنا ثم أتينا بالشراب فشرب معاوية ثم ناول أبي ثم قال: ما شربته منذ حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال معاوية: كنت أجمل سباب قريش وأجوده ثغرا وما شيء كنت أجد له لذة كما كنت أجده وأنا شاب غير اللبن أو إنسان حسن الحديث يحدثني.
رواه أحمد في (المسند5/347) ومن طريقه ابن عساكر (تاريخ دمشق27/127).
وهي رواية منكرة متنا كما حكم عليها بذلك الإمام أحمد نفسه « وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه قال وكيع يقولون سليمان أصحهما حديثا قال عبد الله قال أبي عبد الله بن بريدة الذي روى عنه حسين بن واقد ما أنكرها وأبو المنيب أيضا يقول كأنها من قبل هؤلاء» (تهذيب الكمال14/331).
وهذه الزيادة المشكلة في المتن والتي نجدها في مسند أحمد لا نجدها في مصنف ابن أبي شيبة وهي مروية عنده بنفس الطريق.
ولهذا نجد الهيثمي استغرابه من هذه النكارة في المتن (مجمع الزوائد 5/42).
وأما من حيث إسنادها فإنه بالرغم من تحسين البعض لها كالشيخ مقبل الوادعي (الصحيح المسند ص185).
ولكن في كلا السند المتن خطأ.
فإن في السند زيد بن الحباب وهو كما قال الشيخ الألباني « ضعيف. لم يوثقه غير ابن حبان» (معجم أسامي الرواة2/75 نقلا عن ضعيف الأدب المفرد77).
الحديث يرويه الحسين بن واقد ورواه عنه اثنان ابنه علي وزيد بن الحباب فرواه ابو زرعة الدمشقي في تاريخه 2/677 ومن طريقه ابن عساكر 27/127 من طريق علي بن الحسين عن أبيه حدثني عبد الله بن بريدة قال: دخلت مع أبي على معاوية.. انتهى.
الحديث فيه خطأ ظاهر ويمكن عزو الخطأ فيه إلى زيد بن الحباب فإنه صدوق كثير الخطأ.
أما من حيث السند فسند رجاله ثقات في الظاهر إلا أنه بهذا السياق معلول بل هو منكر إذ ليس بالإمكان أن يتفرد راو بحديث مرفوع من طبقة زيد بن الحباب ولو كان أوثق الناس فضلا عمن بعد ذلك. ولا سيما أن ابن الحسين بن واقد لم يرو الحديث المرفوع ولا رواه عن زيد بن أبي شيبة وأغلب الظن أن زيدا قد وهم فيه. وقد ذكرت له أوهام وكذلك شيخه.
وزيد بن الحباب من طبقة تابي التابعين. ولا يقبل تفرده عن معاوية لأنه مرفوع. ومن يقبل تفرده يشترط أن يكون تابعي التابعي من كبار الحفاظ إذا تفردوا مثل مالك وشعبة الثوري من واسعي الرواية وجبال الحفاظ.
أما بعد هذه الطبقة فلا يقبل تفرده أبدا بأي حديث مرفوع.
وقد اختل في زيد شرطان:
الأول: هو من الطبقة التي تلي تابعي التابعين.
الثاني: أنه ليس من جبال الحفاظ فضلا عن أنه من طبقة بعد أتباع التابعين. ناهيك عن أنه ثبت أنه مع ثقته كثير الأخطاء.
ومن الواضح أن سياق القصة هكذا ناقص. وهو محذوف الله أعلم به.
أما الرواية عند ابن أبي شيبة في المصنف فلا إشكال ولا خطأ فيها.
« حدثنا زيد بن الحباب عن الحسين بن واقد قال: حدثنا عبد الله بن بريدة قال دخلت أنا وأبي على معاوية فأجلس أبي على السرير وأتى بالطعام فأطعمنا وأتى بشراب فشرب فقال معاوية ما شيء كنت استلذه وأنا شاب فآخذه اللبن إلا اللبن فإني آخذه كما كنت آخذه قبل اليوم والحديث الحسن» (11/94-9).
دراية الأثر:
قوله (ما شربته منذ..) هذا من كلام معاوية وليس من كلام عبد الله بن بريدة وهكذا جعله جميع الحفاظ في مسند معاوية مثل ابن كثير في جامع المسانيد والإمام أحمد في المسند في مسند معاوية.
وقوله (ما شربته) يعني المسكر. قلت: وهذا استطراد من معاوية لا علاقة له بما قبله وما بعده. مما يدل على سقوط كلام متعلق بالشراب المحرم.
ويستفاد من الخبر بيان إكرام معاوية لإخوانه الصحابة ووفادتهم عليه رضي الله عنهم أجمعين كما قصدت دفع الإيهام الذي قد يثيره بعض أهل الهوى ممن تنقلب الفضائل في مخيلتهم إلى مثالب وأطلت قليلا في هذا لأني وجدت بعض محدثي الرافضة النوكى يحرف معنى الخبر ويحمله ما لا يحتمل مما هو ومشايخه أولى به.
قال المعلق على المسند (38/26 طبعة الرسالة) « ولعله قال ذلك لما رأى من الكراهة والإنكار في وجه بريدة. لظنه أنه شراب محرم. والله أعلم.
قلت: هذا تجويز من قائله ولم يرد في شيء من مصادر الخبر نقل كراهية بريدة أو إنكاره فضلا عن رده وامتناعه عما ناوله معاوية. ولو كان بريدة رضي الله عنه يظن ذلك لما جلس هذا المجلس ولنقل ابنه استفهامه على أقل تقدير. وقد قال رسول الله « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر».
ثم إن مما يتبادر للذهن أن الشراب هو اللبن بدليل أن معاوية في سنه هذه لا يفضل عليه غيره كما في آخر الخبر. والله أعلم
ولا يعقل أن لا تتضمن الرواية عدم كرهية بريدة أو إنكاره ذلك لو خمرا كما يزعمون. وإن آخر ما يمكن أن يفهم هو أن معاوية شرب الخمر. كيف وهو ينص في الخبر ذاته على أنه لم يشربها قط منذ أن حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومعاوية هو راو حديث جلد الشارب ثلاثا ثم قتله في الرابعة.
ومن شدته في مسألة المسكر أنه أمر بقتل السكران إذا قتل مع أن بعضهم لا يوقعه.
والإشكال هو أن معاوية لما ناول بريدة الشراب، قال: ما شربته منذ حرمه النبي.
فظن بعضهم أن الضمير هنا يعود على الشراب الذي ناوله لبريدة وهذا غلط شديد جدا لأن الضمير هنا لا يعود على ذلك الشراب بل هو ضمير في مكان شيء ظاهر يقول فيه النحويون: أضمر في مقام الإظهار أي أنه جاء بالضمير عوض أن يأتي بالاسم الظاهر، والعرب تستعمل هذا كثيرا، إذا أرادت أن تتكلم عن شيء تستشنعه وتستقذره وتستحيي من التلفظ به، تأتي بالضمير ولا تأتي بالظاهر وهذا من جمال لغة العرب.
وضع معاوية الشراب في يد بريدة ثم قال: ما شربته، أي الخمر منذ حرمه النبي وكان حقه أن يقول: ما شربت الخمر منذ حرمه النبي ولكنه جاء بالضمير عوض الظاهر استشناعا للنطق باسم الخمر.
وهذا دليل على فضله ومبالغته في التحرز من الخمر فالذي يستشنع مجرد النطق باسم الخمر، كيف يشربه؟
وقد ابلغ في الغلط من تصور أن الضمير في قوله (ما شربته) يرجع إلى الشراب الذي بين أيديهم.
ويقال هنا: كيف ذكر الخمر؟ وما وجه الحديث عنه؟
فالجواب: أن هذا من باب الاستطراد وهذا جار على عادة العرب
فالاستطراد: هو ذكر الشيء في غير محله لمناسبة داعية إلى ذلك.
مثاله : أن النبي سئل عن طهارة ماء البحر فأجاب عن ذلك، واستطرد لذكر حكم الميتة التي لم يسأل عنها. وهذا من الاستطراد المحمود. ولذلك يقولون: الشيء بالشيء يذكر.
فمعاوية لما رأى شرابا على مائدته، ذكره ذلك بالشراب الذي كانوا عليه في الجاهلية لا يفارق موائدهم ألا وهو الخمر وكيف أنهم استبدلوه باللبن فالمناسبة قوية للغاية
وهذا هو الدليل من (مصنف ابن أبي شيبة6/188):
30560حدثنا زيد بن الحباب عن حسين بن واقد قال حدثنا عبد الله بن بريدة قال قال دخلت أنا وأبي على معاوية فأجلس أبي على السرير وأتى بالطعام فأطعمنا وأتى بشراب فشرب فقال معاوية ما شيء وأنا شاب فآخذه اليوم إلا اللبن فأني آخذه كما كنت آخذه قبل اليوم والحديث الحسن
هذه الرواية لا تترك شكا لأحد. فإن معاوية يقول إنه لا يشرب في يومه ذاك إلا اللبن. فالشراب كان لبنا لا غير. فلو نظر الناظر في الروايتين، تبين له صدق ما قلت.