جمعية الوفاق أصدرت بياناً أدانت فيه انتشار المجاميع المسلحة، «الأمن في البحرين لم يعد متوافراً للمواطنين بعد انتشار مجاميع من المليشيات المسلحة التي تتعرض للمواطنين في مناطقهم وفي مؤسساتهم التعليمية والتي تستهدفهم بالآلات الحادة والأسلحة البيضاء»، محمّلة «الدولة المسئولية الكاملة عن هذه المجاميع المرتبطة بالمؤسسة الرسمية والذي بات واضحاً ارتباطها بأجهزة الدولة الأمنية بعد أن تخلت الدولة عن مسئوليتها في منع هذه المظاهر المسلحة التي أغلقت عدداً من الشوارع والطرقات وأقامت نقاط تفتيش وحواجز أمنية في عدد من مناطق البحرين».
كرٌّ عند المرفأ..
على الجانب الآخر، كان شباب 14 فبراير الذين يتحركون خارج إطار الجمعيات السياسية، قد بدؤوا بتصعيد مقابل. كانوا قد هددوا بأنه في حال تعرضت مسيرة الديوان الملكي (11 مارس/ آذار 2011) للهجوم من قبل رجال الأمن، فإنهم سيعتصمون أمام مرفأ البحرين المالي. المسيرة ضُربت كما أوضحنا في الحلقة السابقة، وجاء وقت تنفيذ التهديد.
المرفأ المالي، القريب من منطقة الدوار، تحول خلال الأحداث إلى رمز جديد، بعد أن كشفت جمعية الوفاق في مؤتمر صحفي قبلها بأيام، وثيقة تثبت بيع أرض المرفأ بسعر دينار واحد فقط لرئيس الوزاء.
كان الموعد المحدد للاعتصام أمام المرفأ المالي هو صباح 13 مارس، لكن منذ ساعات الفجر الأولى، بدأت تتوارد أخبار عبر التويتر والفيس بوك، أن مسلحين (بلطجية) بدؤوا بالتوافد إلى هناك بهدف إحداث فوضى وإلصاقها بالشبابالمحتجين.
أعداد من الشباب غادروا الدوار نحو المرفأ مباشرة، نُقل أنهم تمكنوا من طرد المسلحين، وقاموا بإغلاق الشوارع أمام المرفأ ومنطقة السيف لمنع عودة المسلحين مرة أخرى ومنع الأمن من الوصول. إغلاق الشوارع تسبب في اختناق مروري عند الصباح الباكر. قوات الأمن تحركت لفتح الطريق العام(3)، تطورت الأحداث، ووقعت مصادمات بين الطرفين ،
سريعاً ما شلت حركة المرور في جميع المناطق وتوترت الأجواء في جميع مناطق البحرين. الأمن قام بإزالة الخيم التي وضعها الشباب ليلاً. مئات الإصابات وصلت مستشفى السلمانية الطبي بين اختناقات بالغازات المسيلة للدموع والطلقات المطاطية (4). المشاهد المصورة نقلت مناظر مأساوية، فيديو يظهر مواطن أعزل يتعرض لطلقات مباشرة ومتتالية وهو يقف في مسافة لا تتجاوز متر واحد، كان يحاول مخاطبة رجال الأمن بطريقة مؤثرة (5). التوتر شل حركة البحرين بالكامل. سيارات الإسعاف لا تستوعب أعداد المصابين، السيارات الخاصة تنقل جرحى الأحداث.
الأمن يدعو المتجمهرين للتوجه إلى الدوار مكان الاعتصام، نداءات شبابية أخرى عبر وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف النقالة تدعو للتواجد بكثافة فيالدوار لمنع الأمن من مهاجمته، مواجهات المرفأ تنتقل إلى الدوار، قوات الأمن انتشرت فوق الجسر المطل على الدوار، تستمر قوات الأمن في إلقاء الغازات المسيلة للدموع باتجاه الدوار، الشباب يصعدون نحو الجسر لسد الطريق على رجال الأمن ومنعهممن مهاجمة الدوار. المئات من حالات الاختناقات بالغازات المسيلة للدموع، تمت معالجتها داخل الدوار من قبل الكادر الطبي الذي كان متواجداً هناك. الخيمة الطبية لم تتسع للعدد الكبير من المصابين، الأطباء قاموا بفرش سجاد خارج الخيمة، لمعالجة المصابين على الأرض (6).الحالات الأصعب، تم نقلها إلى مستشفى السلمانية، "كنا داخل الدوار نواجه مسلات الدموع، ونعالج الإصابات ولا ندري ماذا يمكن أن يحدث لنا بعد دقائق"،تقول إحدى الممرضات.
فريق آخر من الكادر الطبي يقف خلف الشباب الذين صعدوا باتجاه الجسر. مشاهد الفيديو تنقل قمع المحتجين باستخدام الغازات المسيلة للدموع والطلقات المطاطية بالإضافة إلى هجوم أحد رجال الأمن باستخدام الرصاص الحي. حملات كر وفر بين المعتصمين ورجال الأمن امتدت حتى الساعة الحادية عشرة صباحاً قبل أن تنسحب قوات الأمن. المئات من المصابين، "كنا نقف خلف الشباب الذين يصعدون الجسر، ونراهم يتدحرجون بإصاباتهم من فوق الجسر إلى أسفله أمام أعيننا، سيارات الإسعاف تقف في الخلف قليلاً، من يسقط يتم نقله عبر سيارات بيك آب خاصة إلى الإسعاف الذي ينقله بدوره للسلمانية"، تخبر إحدى الطبيبات.
أحداث المرفأ وترت أجواء البحرين بكاملها، بدأ الإعلان عن العصيان المدني، الكثير من الموظفين تركوا أعمالهم واتجهوا نحو الدوار. جامعة البحرين لم تكن خارج سياق هذا الحدث، أعداد كبيرة من الطلاب خرجوا في مسيرات غاضبة ومنددة داخل مباني الجامعة عند الساعة 9:30 (7). مناوشات جزئية حدثت بين الطلاب المحتجين والطلاب الموالين، المناوشات طبيعية ومحدودة، لكن دخيلاً، حول الجامعة إلى مكان رعب حقيقي.
نداءات إغاثة عبر الهواتف المحمولة وصلت إلى المعتصمين في دوار اللولؤة الذين كانو للتو استعادوا وجودهم في الدوار. عدد من الشباب يغادرون فوراً متجهين إلى الجامعة، إسعاف مجهز بطاقم طبي يخرج معهم، "خرجنا إسعافا واحدا فقط لأننا لم نكن متأكدين من صحة الخبر، أردنا التأكد قبل استدعاء عدد آخر من الطواقم الطبية" تقول إحدى الطبيبات.
إحدى أفراد الكادر الطبي التي تواجدت بين الساعة 12-1:30 في الجامعة تروي لمرآة البحرين ما تعرضت له "كنا في الدوار نعالج مصابي المرفأ والدوار عندما وصل خبر الجامعة. إسعاف واحد ركب فيه أربعة من أفراد الطاقم الطبي. لم نمنع من الدخول، وهناك إسعاف من المستشفى الدولي سبقنا بالوصول، لكن عدداً من سيارات الإسعاف التي أتت بعدنا تمّ منعها".
في مشهد فيديو يروي أحد الأطباء "لم يسمح لنا بالدخول، قلت له أنا طبيب ألا ترى لباسي، كان يسألني هل أنت من مستشفى قوة الدفاع أم من السلمانية، قلت له ما الفرق جميعنا نعالج المرضى، لم يسمح لي بالدخول"، المشهد أيضاً يظهر بعض الحالات التي شهدتها مستشفى السلمانية في ذلك اليوم والغضب الذي أخذ الكوادر الطبية تجاه ما حدث في الجامعة ذلك اليوم (11).
تروي الطبيبة تجربتها لمرآة البحرين "رأينا عند دخولنا مجموعة من الرجال، بعضهم لا يمكن أن يكون في سن الجامعة، يحملون أسلحة بيضاء، أخشاب بها مسامير، وسيوف غريبة، كان ذهابنا في إسعاف واحد فقط للتأكد أن ما وصلنا من أخبار حقيقي وليس إشاعة. تفاجأنا بما رأينا من مشهد مخيف، الأمن والشرطة مع العشرات من المسلحين، معظمهم ملثمون، يرتدي عدد كبير منهم الثوب العربي ويقفون مع رجال مكافحة الشغب".
نزل الكادر الطبي وقام بالانتشار في الجامعة لتفقد الإصابات حاملاً عدة الإسعافات الأولية "معظم الحالات التي عالجتها كانت صدمات عصبية، البعض كان مضروباً بأدوات حادة" تكمل الطبيبة.
طبيب آخر عالج طالباً من المحتجين، كانت إصابته جرحا كبيرا في يده، أسعفه إسعافا أوليا، وحمله في حافلة صغيرة إلى مستشفى السلمانية حوالي الثانية والنصف ظهراً. الأطباء أسعفوا الطلاب من الطرفين وحملوهم في الإسعاف نحو السلمانية.
تكمل الطبيبة الحادثة التي عاينتها "عند مبنى اللغة الإنجليزية التقت أكثر من مجموعة من الطواقم الطبية، كانت قد دخلت لاحقاً. أحد الأطباء (الكبار) أكد علينا: "نحن هنا من أجل معالجة الجرحى من الطرفين، ليس يعنينا من المعُتدي ومن المُعتدى عليه" الاشتباكات ما تزال قائمة بين الطرفين المحتجين والمناوئين والمسلحين بالإضافة إلى شباب الدوار الذين أتوا لنصرة الطلاب، الجميع اشتبك في العنف هذه المرة. لم يوقف الأمن الاشتباكات "عالجنا بعض حالات الجرح القطعي" تقول.
الأمن لحماية المسلحين..
بعد نصف ساعة من الاشتباكات، أتت قوات مكافحة الشغب، ألقت الغازات المسيلة للدموع على الشباب، ووقف إلى جانبهم المسلحون "تعجبنا مما شهدناه، لكننا وقفنا جانباً كي نكون بعيدين عن الصدامات. اثنان من أمن الجامعة كانا يرافقاننا، أحدهما من المذهب الشيعي والآخر من المذهب السني. خرج علينا أحد المسلحين يرتدي سروالا قصيرا، أكبر سناً من أن يكون طالبا، هجم على الطبيب الذي كان معنا وقال له بنبرة تمتلئ بالتهديد: تعالجونهم ها؟ حاولنا أن نفهمهم بأننا هنا لمعالجة الطرفين. تقدم نحوه أحد رجال مكافحة الشغب وأمسكه، لكنه سرعان ماتركه مرة أ خرى. فهجم من فوره على إحدى الممرضات التي كانت تقوم بالتصوير، أمسك ثيابها من ظهرها والقاها على الأرض وقال لها الكلام نفسه. كنا نرتدي ثيابنا البيضاء ولا نحمل في أيدينا سوى سماعة الطبيب" تواصل الطبيبة" تقدم نحونا آخر من المسلحين أيضاً يرتدي ثوباً، قام بمهاجمة إحدى الطبيبات والأمن واقف لا يعمل شيئاً". تم نشر هذا المقطع على اليوتيوب، ولكن تم تحريفه بأن من هاجم الطاقم الطبي هو من المحتجين الشيعة يهاجم الطبيبات (12).
الإسعاف كا واقفاً، وبه عدد من الجرحى، قوات الأمن ألقت قنبلة صوتية على الإسعاف. شظايا زجاج الإسعاف أصابت عين إحدى الممرضات، وأحد الأطباء في رقبته. الإسعاف يفر بمن فيه، ويبقى 9 أفراد من الكادر الطبي واقفين دون سيارة إسعاف "صرنا في حالة شديدة من الخوف والرعب، المسلحون يحيطون بنا ونحن لا نعرف ماذا يمكن أن يفعل بنا هؤلاء، حياتنا مهددة ونحن عزل. فررنا من فورنا والمسحلون يلاحقوننا، أمامنا واحد من رجال أمن الجامعة وخلفنا الآخر، فتحا لنا باب أحد المباني. أقفلا الباب من الخلف، لم يلبث أن جاء المسلح الأول وحطم الزجاج الموجود في الباب. سألنا الأمن: هل هناك مخرج آخر؟ قال: لا. أخذنا إلى داخل أحد الصفوف. أقفل المصابيح والباب. كنا في رعب حقيقي، كان الموت قريب من أنفاسنا، بقينا قرابة الساعة هناك. قال رجل الأمن: سأخرج لأرى الأوضاع وأعود إليكم. بعد ربع ساعة أخرجنا، قال: الوضع صار آمناً.
تضيف الطبيبة: "أركبونا في إحدى حافلات الطلاب. بينما الحافلة تسير بعد استتباب الأمن، كنا نشاهد رجال الأمن يمشون جنباً إلى جنب مع المسلحين الذين هجموا علينا قبل قليل، نطالع بعضنا مستنكرين، أُخذنا لمبنى إدارة الجامعة، بقينا هناك قرابة ساعة ونصف، إلى أن أتى الوكيل المساعد أمين الساعاتي مع علي إبراهيم نائب رئيس الأطباء، وتسلمونا بسيارة إسعاف وأعادونا للسلمانية".
الشهيد أحمد فرحان بين يدي الطاقم الطبي في مركز سترة الصحي
مرآة البحرين (خاص): "بينما نحن نعالج الجرحى الذين يؤتى إلينا بهم بالمئات، سمعنا صراخاً مريعاً يأتي من خارج المركز الصحي، تأهبنا لشيء كبير. دخل شابٌ يحمل آخر مصاب. يمشي بخطوات ثقيلة كأنها دهر، وبوجه ممسوح من لون الدم، وصدمة لا تستوعبها الملامح. ما إن دخل حتى تعالى الصراخ داخل المركز. كنت أقف على بعد مسافة، لم ألحظ غير الدم الذي ينسكب على طول خط مشيه. كلما مر الشاب على أحد، صرخ هذا الأحد، ولطم ولعن وضرب بيده فوق رأسه، أو ضرب رأسه بالجدار، وارتفع بكاؤه. ما يزال بعيداً عني. لمحت قطعة تتحرك خلف رأس المصاب، لم أميزها، اقترب الشاب ناحيتي، تقدمت نحوه لأسعف المصاب. رمقني بعين يائسة. أكمل سيره باتجاه الباب الآخر نحو الإسعاف. حالة هستيرية ضج بها المكان، لا أحد قادر على تصديق ما يرى. لا أحد قادر أن يتمالك نفسه. صار رأس الضحية أمامي مباشرة، رأيت المنظر المريع، لم أتخيل أن أرى هذا المنظر طيلة عمري، رأس فجره الرصاص، أسال مخه، لم يبق غير الجلد. انهرت بالكامل" تروي إحدى الطبيبات.
نعم..نحن الآن في منطقة سترة، تحديداً في مركز سترة الصحي، اليوم هو 15 مارس، تحديداً اليوم الأول لإعلان قانون السلامة الوطنية.الحدث هو محاصرة قرية سترة والهجوم عليها، تحديداً أكثر الحدث هو دخول قوات درع الجزيرة للبحرين.
الشهيد هو أحمد فرحان (30 عاماً)، تحديداً من تناثر مخه بسبب الإصابة المباشرة في الرأس. الشاب الذي حمله هو منعم منصور، تحديداً من حكم عليه بالسجن ٣ سنوات لأنه حمل جثة فرحان.
وصل الإسعاف مستشفى السلمانية حاملاً (فرحان) حوالي الثالثة بعد الظهر (1). هناك، لم يختلف الأمر عما حدث في مركز سترة، الصدمة ذاتها والذهول ذاته واللطم، "صرنا فيما يشبه العزاء، حتى الأطباء الرجال انهاروا وصاروا يصيحون بصوت عال، حالات إغماء بين النساء، لم يستطع أحد احتمال المشهد المفجع والبشع. الطبيب علي العكري راح يصرخ بانهيار: أسعفوه. لماذا تنظرون اليه هكذا؟ أجابه آخر: كيف نسعفه وهو بلا مخ يا دكتور !" تنقل طبيبة شاهدة.
تقدير من نوع آخر
لم يعد الطاقم الطبي خارج الحدث، بل صار جزءاً منه، لا يعود ذلك فقط إلى أن القتلى والجرحى يمرون من خلاله، بل لأنه صار معرضاً للخطر مثله مثل باقي المحتجين السلميين، رأينا في الحلقة السابقة ما تعرض له الطاقم الطبي في جامعة البحرين من ضرب وتهديد على ممارسته دوره الإنساني والمهني في إسعاف الجرحى والمصابين، في هذه الحلقة المزيد من المعاقبة والملاحقة والتنكيل.
حنين البوسطة طبيبة شابة تعشق عملها. خلال سنواتها الجامعية، فازت في المسابقة التي تنظمها جامعة الطب في أوكرانيا. حصلت على المركز الثالث بين العلماء الشباب دولياً (2). هكذا كرّم المجتمع الدولي نبوغها وتفوقها، وهي لم تزل طالبة في مقاعد الطب، لكن في يوم 15مارس 2011، كانت جائزة تقديرية من نوع آخر تنتظر حنين بعد أن صارت طبيبة، هذه المرة جائزة خاصة من بلدها.
حنين نقلت ما تعرضت له إلى صحيفة الوسط ونشرت في اليوم التالي(9)، ووثقتها في مضابط الأمن أثناء التحقيق معها فيما بعد. هناك تفاصيل أكثر مما تمّ نشره، حصلت عليها مرآة البحرين من إحدى المقربات.
في البيت، آتية من نوبة ليلية في الخيمة الطبية في الدوار، لم تنم سوى ساعات قليلة، الساعة العاشرة والنصف صباحاً، يتصل بها أحد المسعفين: "تعالي الآن، لقد تم ضرب منطقة سترة"من فورها نهضت مرتدية ملابسها، حاولت أمها منعها، كذلك فعل أخوها. صرخا فيها ألا تذهب، لم تأبه، راحت تجهز عدتها للخروج. آخر ما سمعته كانت صرخة أمها تنادي اسمها وهي تغادر للخارج، علمت فيما بعد أن والدتها قد فقدت وعيها إثر خروجها. في السلمانية، وقفت تبحث عن اسعاف يقلها إلى سترة، حافلة صغيرة بها جريح تدخل السلمانية، تساعد حنين في إنزال الجريح، تركب، تغلق الباب خلفها، يتوجهون لجزيرة سترة.
عند مشارف سترة، سترى الحاويات التي استخدمت لإغلاق الشوارع منعا لدخول قوات الأمن، وسترى حجارة ملقاة على الأرض في كل مكان، وفي مركز سترة الصحي، حالات ممدة على الأرض. أعداد من الجرحى تعرضوا لاستنشاق الغازات المسيلة للدموع وإصابات الطلق الانشطاري (الشوزن) (3). عملت حنين على معالجة حالات الشوزن، الجروح الأكبر يتم نقلها لقسم التمريض. عند مدخل المركز تجمهر كبير(4). سلسلة بشرية تعمل على تنظيم الدخول وفتح الطريق للحالات التي تصل. عند الباب يقف أحد الأطباء يقوم بمعاينة سريعة للاصابات لتوجيهها للمكان الأنسب للمعالجة (5).
لن أنتظر جثثاً تأتي
مع اقتراب وقت الظهر، كان عدد الجرحى آخذاً في الإزدياد"بدأنا نشم رائحة الدم، ونراه أكثر، شعرنا أن الموضوع بدأ يحمى، صار ترقبنا يتوجس الأسوأ" يروي بعض الحاضرين من الطاقم الطبي. لم يلبث الظهر طويلاً حتى كان الدخول المفجع لفرحان، وارتجاج المركز بمن فيه. أكثر من 15 دقيقة مرت بعد أن غادر الإسعاف خارجاً بفرحان نحو مستشفى السلمانية من أجل استصدار شهادة الوفاة، بقى خلالها الطاقم الطبي في ذهوله الذي لم يغادره بعد، الصياح ما يزال يغلب على الكلام، والصدمة تخيم على المكان.
حنين، بعد صمت مفجوع بمنظر فرحان تصرخ: " لن أبقى في المركز هنا وأنتظر الجرحى يأتون موتى، سأذهب إليهم حيث هم، لن أنتظر جثثاً تأتي" توجهت لأحد المسعفين: "غير قادرة على التحمل، خذني الآن، خذني إلى هناك مباشرة"كان المسعف يدخن سيجارته بقهر، أخذ نفساً عميقاً، نظر الى عيني إصرارها:اركبي، قال لها.
اقتربا من المواجهات، صارت حنين تقف وراء الصف الأول الذي يواجه قوات الشغب مباشرة بأيدٍ عزلاء. بدأ الطلق المطاطي في الهواء، على حاويات القمامة، صوت مخيف يخرج، الشباب يصرخون "الله أكبر"، يزدادون ولا ينقصون، يقتربون أكثر، تبدأ الغازات المسيلة للدموع تصير أكثف، حالات الإغماء تتزايد، الشباب يسحبون الحالات المصابة باتجاه حنين، يصير الطلق أكثر عنفاً، الضربات تصير مباشرة، الرصاص الانشطاري والمطاط (8). مع كل هجوم كان الشباب يتطافرون إلى داخل البيوت، ثم لا يلبثون أن يعودوا "لم يكونوا ينكسرون، لم يكونوا يكلون، كر وفر لا ينقطع"، يقول أحد الشهود.
من يسقط من الشباب يحمل في سيارة (بيك أب) وينقل إلى سيارة الإسعاف التي تقف في منطقة أبعد عن الشباب. رسمياً لا يسمح للإسعاف بالتجاوز إلى المناطق الخطرة، في هذه الأثناء كانت سيارات الإسعاف لا تسكت ذهاباً وإياباً.
الشباب الآن أكثر قرباً من رجال الأمن، الضرب صار أشد، وكذلك التساقط. المسعف يقول لحنين: دعينا نذهب، الوضع صار خطيراً جداً. حنين تجيبه: لكن الشباب يتساقطون. يجيبها: سيأتون بهم إلينا. يتجهان نحو الإسعاف الذي يقف بعيداً، في المسافة، تقف سيارة تقودها إحدى السيدات من نساء سترة، تقول لهم: اركبا سريعاً. يصعدان السيارة. السيدة تسأل حنين: أنت طبيبة؟تجيبها بنعم. تخبرها عن جرحى في أحد البيوت، يحتاجون إلى معالجة ولا يستطيعون الخروج بسبب المحاصرة الأمنية، تسألها إن كان بإمكانها المساعدة. كانت حنين تحمل معها عدة الإسعافات الأولية، ينطلقون جميعاً إلى هناك.
لمس الموت..
الإصابة رصاص إنشطاري (شوزن) في الوجه. قامت حنين بتسكير الجروح. الشاب يريد أن ينهي علاجه بسرعة كي يخرج مرة أخرى. يريد أن يعود ويخرج مرة ثانية. سيارات الأمن تحاصر البيت من الخارج، الوقت عصراً. أهل البيت أغلقوا الباب والمصابيح، يجلس الجميع في صالة البيت في صمت مريع"كنا نسمع أنفاس بعضنا" تخبر حنين. أخرجت دفتراً صغيراً من حقيبتها وبدأت تكتب "شعرت أنها ربما تكون النهاية" كان شريط اليوم يمر على ذاكرتها، وصورة والدتها التي صرخت باسمها قبل أن تغادر، راحت تكتب عن البيت الذي تجلس فيه الآن مرتاعة، كتبت لأهلها، كأنها الوصية"الله إذا لم يكتب لي أن أعيش بعدها، على الأقل هناك ما يبقى ليخبر عن لحظاتي الأخيرة" تروي المقربة عن ما سمعته من حنين.
ساعة ونصف، كان الصمت والرعب هما سيدا المكان، في هذه الأثناء جاء اتصال هاتفي من مركز سترة الصحي، يُخبر أن قوات الأمن قد حاصرت المركز بالكامل وأن قوات مكافحة الشغب اقتحمت المركز، طلبت حنين أن يقوم أحد بإيصالها للمركز. السيدة تخبرها أنها ستأخذها بنفسها، لكن ترجوها الانتظار حتى يصير الوضع خارج المنزل أكثر أماناً. ينظر البعض عبر النافذة، لا سيارات أمن قريبة من البيت فيقررون الخروج.
في الطريق الآن، قليل من الضوء بقى قبل حلول الظلام، والشوارع فارغة من الناس والسيارات. ليست سوى السيارة التي تقودها السيدة التي وصفتها حنين بالحديدية "شعرت أن لها دقات قلب ثابتة، وأن أدرينالين الخوف لا يعرف طريقه إلى قلبها" سيدة ثلاثينية، تجوب الشوارع المهددة بالموت، فيما أبناؤها خرجوا قبلها يواجهونه.
طائرات الهوليكوبتر تحلق في أجواء المكان، السيارة تمر عبر (زرانيق ودواعيس) وممرات داخلية في المنطقة، المكان كله رائحة الغازات المسيلة للدموع. لم تكن المسافة بعيدة، لكنها كانت طويلة جداً ومتعثرة ومخيفة، في أحد الشوارع الفرعية، يتفاجؤون بسيارات أمن تسير متتابعة، كان عددها 12 سيارة، تأتي من الجهة المقابلة. الجميع جمد في مكانه فيما قامت السيدة التي تقود السيارة بلف السيارة على شكل الحرف U، وركنتها جانباً وأنزل الجميع من فورهم رؤوسهم تحاشياً للطلقات المباشرة. الغريب، أن سيارات الجيب مرت مسرعة دون توقف فيما يبدو أنها متجهة لمهمة مستعجلة. لم يصدق الجميع ما حدث، وأنهم نجوا، تنفسوا الصعداء، بهدوء قالت السيدة (الستراوية): الآن نستطيع مواصلة طريقنا.
من ينقذ الإسعاف؟
الشوارع كانت حالة من الفوضى العارمة، حاويات القمامة ملقاة في كل صوب، والأحجار متناثرة هنا وهناك. رن الهاتف، أجابت السيدة. التفتت نحو حنين تسألها: هناك جرحى في أحد البيوت؟ لم تتردد حنين.
قرعوا جرس الباب، فُتح لهم، الدماء كانت طريق حنين للداخل دون أن يقودها أحد. في الداخل كانت تنتظرها أربع حالات: كسر في الركبة، شوزن في الذراع، شوزن في الوجه بما فيها العين، شوزن في المؤخرة. الأول: أزالت حنين الشوزن من المناطق القريبة من العين والفم، وقامت بسد الجروح السطحية الباقية.
أما الأخير، فقد كان ينزف بكثرة، كان دمه هو المسال طوال البيت، تجنبت حنين نزع الشوزن من مؤخرته، لأن انتزاعه يعني المزيد من النزف، ورأت أن بقاء الشوزن مؤقتاً سيعمل بمثابة سد مؤقت للجرح حتى يتم نقله للمركز.
المسعف اتصل بآخر ليأتي لأخذ الحالات ونقلها، كان الظلام قد نزل. وصل الإسعاف، قال لنا: فلنخرج بسرعة، الهوليكوبتر تراقب، ركب 5 من الجرحى، و3 من الطاقم الطبي. الإسعاف اكتظ بالعدد لا مكان للوقوف أو الجلوس، وبينما حنين تقفل باب الإسعاف من الخلف، لمحت سيارة أمن قادمة، الإسعاف تحرك بسرعة مجنونة بحثاً عن مهرب. الهوليكوبتر تلاحقهم من السماء وسيارة الأمن من الخلف. الجميع في توتر ورعب، البعض كان يتشهد، البعض يقرأ آيات قرآن، حنين صارت تردد: وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً، الجميع قام يردد بصوت واحد. شعر الجميع أن ساعة الموت قد وصلت، وأن كل شيء قد شارف على الانتهاء.
دقائق مرت كأنها ساعات، أخذ السائق نفساً وقال: خلاص يبدو أننا ضيعناهم. تنفس الجميع، لكن قلوبهم لم تتوقف عن ضرب طبولها على صدورهم المرعوبة. ليست إلا دقائق، حتى يتفاجأ الجميع بسيارة أمن تأتي من الأمام، تلحقها أربع أخريات، تحاصر سيارة الإسعاف. أوقف السائق السيارة. أطفأ المصابيح، صمت مرعب، ثم قال: أنا آسف سامحوني.