الحلقة التاسعة والعشرون
(مجزرة كركوك 1959: الحقيقة والحدث)
الجزء الأول
بقلم المؤرخ والكاتب: أرشد الهرمزي
لا زال الجرح النازف الذي أصاب المواطنين التركمان في العراق عميقا وغائرا بسبب فقدهم الكثير من أحبتهم وزعمائهم في هذه الهجمة الغادرة التي تعرضت لها مدينة كركوك عام 1959.
وقد كتب الكثير حول أحداث هذه المجزرة الدموية، ولسنا راغبين في نكأ الجراح، ولكن التاريخ يجب أن يسطر ما حدث في تلك الحقبة من تاريخ العراق، حيث أنكر الكثيرون من المسؤولين عن هذه المأساة الإنسانية مسؤوليتهم عنها وأراد البعض تحريف الحقائق وإلقاء التبعة على الآخرين دون وازع من ضمير ينشد النقد الذاتي.
لذلك فإن هذه الدراسة ستضع النقاط على الحروف وتسرد أمام العراقيين ما خفي عن الكثيرين من أبناء الشعب العراقي حول طبيعة هذه الأحداث الدموية مستعينة بوثائق تنشر لأول مرة بعد رفع الحظر السري عليها.
فبعد انتفاضة العقيد الشواف في الموصل تم نقل واعتقال المرحوم ناظم الطبقجلي الذي كان قائدا للفرقة الثانية في كركوك وتم تعيين الزعيم الركن داود الجنابي الذي أطلق يد الزمرة الشيوعية في أمور المدينة وقد كان أول ما عمد إليه الجنابي منع صدور جميع الصحف التركمانية وهي البشير والآفاق وجريدة كركوك الصادرة عن رئاسة البلدية واعتقال ونفي الناشطين في هذه الصحف إضافة إلى العشرات من المحامين والأطباء ورجال الأعمال والموظفين حيث تم ترحيل بعضهم إلى الألوية الجنوبية وفرض الإقامة الجبرية عليهم واعتقال البعض الآخر في سجون بغداد.
وعندما تم للجنابي ذلك عمد إلى إصدار الأوامر لاقتحام وتفتيش المنازل ومقرات الأعمال الخاصة بالمواطنين التركمان فقط وإلقاء القبض على أفراد أي منزل تعثر فيه السلطات العسكرية على أي نوع من السلاح، وقد كان ذلك تمهيدا لنزع السلاح أيا كان نوعه من المواطنين التركمان وتركهم في وضع أعزل إزاء عدو غير مرئي.
وفي حزيران(يونيو) 1959 بدأ المد الشيوعي بالتراجع أو هذا ما خيل للمواطنين التركمان وقد تم إلغاء الأحكام القسرية على المبعدين التركمان فرجعوا إلى كركوك غير عالمين بمغزى التوقيت المبيت لأعادتهم إلى مدينتهم وقبل شهر واحد فقط من أفظع مجزرة دبرت ضد المواطنين التركمان.
وقد وجدت بعض المناشير الحزبية والتي تأمر الأتباع باستفزاز التركمان والعرب طريقها إلى مديريات الأمن، وقد سلمت هذه المناشير إلى عبد الكريم قاسم والحاكم العسكري العام إلا أنهما لم يأبها بالنتائج ولم يحركا ساكنا.
أستبشر المواطنون التركمان من قرار عبد الكريم قاسم عدم إعادة الزعيم الركن داود الجنابي إلى كركوك بعد استدعائه لحضور مؤتمر للنظر في القضايا المطروحة، وقد غضب الشيوعيون والبارتيون ( الديمقراطي الكردستاني) من ذلك وذهبت وفود مدنية من هذين الحزبين لمواجهة قاسم وطلب إعادة الجنابي إلى كركوك إلا انه رفض وسلمت الفرقة إلى العميد محمود عبد الرزاق.
بدأت الاستعدادات للاحتفال بالذكرى الأولى للانقلاب الذي أطاح بالحكم الملكي وحل يوم الرابع عشر من تموز(يوليو)1959 حيث انتظم الرسميون التركمان وأعضاء اتحادات العمال ونقابات المحامين والأطباء والموظفون الرسميون في مسيرة رسمية تم ترتيبها من قبل لجنة منظمة حكومية وكان المشاركون في المسيرة بطبيعة الحال من التركمان كأغلبية واضحة وكنتيجة طبيعية للواقع القومي للمدينة، إلا أن المواطنين التركمان غير المنتظمين في هذه المسيرة وجلهم من الطلاب والشباب وذوي الأعمال الحرة نظموا مسيرة ومظاهرة شعبية كبيرة كان من المفترض أن تلتحق بالمسيرة الرسمية لأغنائها وإبداء التضامن والتأييد للحكومة القائمة.
وصلت المسيرة الرسمية إلى الجسر القديم في نهاية السوق الكبير وبدأت في العبور إلى صوب القورية متجهة إلى شارع أطلس في نفس الدقائق التي كانت المسيرة الشعبية قد وصلت إلى نهاية شارع المجيدية للالتفاف من أمام مبنى مديرية الشرطة إلى شارع أطلس أيضا والالتحاق بالمسيرة الرسمية، وفي هذا التوقيت بالذات واثر وصول طلائع المسيرة الرسمية إلى مدخل شارع أطلس في المنطقة الواقعة بين مدرسة المتوسطة الغربية ومقهى 14 تموز فقد أطلقت رصاصة من مصدر مجهول تلاها إطلاق عيارات نارية من بنادق اوتوماتيكية فساد الاضطراب تلك الجماهير غير العالمة بما قد جرى التخطيط لها، وفور ذلك رمى بعض الذين كانوا يتظاهرون بحمل الشعارات المؤيدة للثورة هذه الشعارات وظهرت الأسلحة النارية وقامت ثلة من المخططين إلى اقتحام مقهى 14 تموز فأردوا الشهيد عثمان خضر صاحب المقهى الذي كان مشغولا بتقديم الماء والمرطبات للمشاركين في المسيرة دون أن يعلم ما تبيت له الأقدار.
تم إعلان منع التجول فورا واستبيحت المدينة لمدة ثلاثة أيام جرى فيها انتقاء العديد من زعماء التركمان وناشطيهم ومثقفيهم فسحلوا في الشوارع على غرار ما حدث في يوم الانقلاب العسكري في بغداد وتم نهب جميع المحلات التجارية الخاصة بالتركمان وقصف دور السينما وخاصة سينما أطلس وسينما العلمين بمدافع الهاون كما تم إحكام الطوق حول المدينة لكي لا تصل إليها أية نجدة من التركمان أو من السلطات الرسمية، إلا أن الشهيد العميد عبد الله عبد الرحمن استطاع أن ينفذ من الطوق المضروب ووصل إلى بغداد مبينا لرئيس الوزراء عبد الكريم قاسم ما يجري في هذه المدينة المقهورة ، وتروي بعض المصادر أن العميد محمود عبد الرزاق أصبح نفسه تحت حراسة مشددة من قبل الشيوعيين والبارتـيين وقد أتصل بعبد الكريم قاسم مستـنجدا فوعده بإرسال لواء مشاة إلا أن هذا اللواء لم يصل إلا في نهاية اليوم الثالث من المجزرة وبعد أن كان مخططو المؤامرة قد نفذوا ما رموا إليه.
وعندما عمت الفوضى مدينة كركوك اشتعلت الحرائق في جميع انحاء المدينة، واتصلت قيادة الفرقة بشركة النفط للمساعدة في إرسال سيارات إطفاء الحريق المتيسرة لديها بكثرة، ولكن المتظاهرون أحرقوها قبل وصولها ومنعوها من تأدية أعمالها.
كما حاولت قيادة الفرقة محاولة أخرى بأن اتصلت بالمستشفى وطلبت إنزال الجثث التي سحلها الفوضويون المجرمون وعلقوها بالقرب من مقر الفرقة إلا أن سيارات الإسعاف التي أوفدتها إدارة المستشفى منعت من ذلك وحاول الغوغاء إحراقها وظلت الجثث معلقة في حر شهر تموز(يوليو) لمدة ثلاثة أيام.
وعندما وصلت القوات العسكرية من بغداد إلى كركوك وتم نزع سلاح جنود اللواء الرابع الأكراد كان منفذو ومخططو المجزرة قد قاموا بإكمال الواجب المعهود إليهم مخلفين 25 شهيدا كلهم من التركمان إضافة إلى العشرات من الجرحى بلغ عددهم 130 جريحا حسب التقارير الرسمية وتخريبا كاملا للحركة التجارية في المدينة.
وبعد أن أجرت لجنة تحقيق أوفدت خصيصا من بغداد لدراسة الأمر وتقديمها لتقرير عاجل مدعوم بالصور والوثائق إلى عبد الكريم قاسم ألقى الأخير خطابا في19 تموز(يوليو)1959 بمناسبة افتتاح كنيسة مار يوسف شرح فيها الفظائع التي ارتكبت في كركوك وتوعد باستعمال القسوة مع مدبري الحادث وقال ما مفاده أن التركمان والأكراد والعرب إخوة في هذا الوطن والأجدر بنا أن نتخلص من ظلم بعضنا للبعض.
كما أفاد في مؤتمر صحفي عقده في 29 تموز(يوليو)1959 بعد أن عرض على الصحفيين صور المقابر الجماعية والبلدوزرات التي تواري الجثث في التراب وتلك الجثث المعلقة على أعمدة النور ومداخل قيادة الفرقة الثانية في كركوك بأنها فضائع لا تقل عن فضائع البربر وهولاكو وقال:"إن هولاكو لم يرتكب في أيامه مثل هذه الأعمال الوحشية، ولا الصهاينة فعلوا"! وتساءل: "هل يمكن لهذه أن تكون أفعال منظمات تدعي الديموقراطية؟" وقدم تعازيه الحارة إلى المواطنين التركمان الذين وصفهم بالمواطنين الآمنين المصدومين ووعد بمحاسبة المسئولين عن هذه الجرائم كما قام في خطاب آخر ألقاه بعد أيام من هذا الخطاب بمناسبة افتتاحه الاستديو الجديد للإذاعة العراقية في بغداد بطلب تسمية الاستديو باسم استديو التركمان عزاء لهم عن هذه المحنة التي تعرضوا لهم.
شكل عبد الكريم قاسم مجلسا تحقيقيا برئاسة العقيد الركن عبد الرحمن عبد الستار مدير الحركات العسكرية للتحقيق في الجرائم التي ارتكبت وقد شهد جميع من استدعي للشهادة ومنهم العقيد الركن إسماعيل حمودي الجنابي ضابط الركن الأول للفرقة الثانية أثناء الأحداث فبين بجلاء ووضوح أن الجرائم كانت مبيتة ضد التركمان دون استفزاز من قبلهم وأورد تغاضي أجهزة الحكم والمسئولين عن الإصغاء إلى التحذيرات الواردة عن امكان حدوث هذه المجزرة، والمعروف أن شهادة هذا الضابط الشهم قد أدت إلى عدم ترفيعه لدى استحقاقه لاحقا إلى رتبة عميد فكان أن قدم استقالته التي قبلت فورا فأنصرف إلى مهنة المحاماة.
رفع المواطنون التركمان مذكرة تحريرية إلى رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم بتاريخ 18 تموز(يوليو)1959 وهي كما يلي:
"إن الذنب الذي اقترفناه في العهد الجمهوري والذي لسببه أو لأسباب أخرى قامت مأساة كركوك الأخيرة المؤسفة والتي ذهبت ضحيتها نفوس بريئة هو أننا امتنعنا عن مسايرة بعض الفئات أو الانضمام إليها أو تأييد فكرتها. إننا الآن على علم اليقين من أن بعض الفئات يرومون القيام بحرب الابادة للعنصر التركماني في العراق بسبب كون هذا العنصر حجر عثرة أمامهم يحول دون تحقيق مآربهم الانفصالية فالحوادث الماضية التي وقعت في كركوك في عهد خائن الوطن ومطية الانتهازية قائد الفرقة الثانية السابق داود الجنابي لخير دليل على نيات المخربين والفوضويين والسائرين في ركابهم. لقد ظهرت في سماء كركوك الكئيبة موجة من الإرهاب والاضطهاد لم يشهد مثلها بلد آخر حتى في أحلك أيام العهد البائد، وكانت هذه الموجة موجهة إلينا نحن التركمان وحدنا إذ اعتقل القائد المذكور ما يزيد على ألف شخص من المواطنين التركمان وزجوا بالمواقف والمعتقلات ولاقوا أنواع العذاب والاضطهاد على أيدي الضباط والمراتب في دهاليز الفرقة الثانية وعلى مرأى ومسمع من القائد نفسه وبأشراف حاكم التحقيق بطرس مروكي ورئيس المحكمة عوني يوسف ووكيل مدير الأمن السابق الشيخ رضا الكولاني.
ولم يكتف المسؤولون بذلك بل قاموا بتحريات واسعة النطاق آملين العثور على أسلحة وعتاد كي يدينوا هذا العنصر بالخيانة، لكن عدالة الله فوق كل شيء والنيات الحسنة تظهر دائما ناصعة أمام الملأ فلم يعثروا على أي نوع من الأسلحة عدا بعض المسدسات وبنادق الصيد المجازة فجن جنونهم وشوهوا الحقائق وطالبوا الجهات العليا في بغداد بضرورة اعتقال هؤلاء الأشخاص وإبعادهم إلى خارج اللواء وفصل العشرات من الموظفين والمستخدمين من المدنيين والعسكريين كما نقل آخرون جلهم معلمون بناء على طلب المنظمات الشعبية والجمعيات والاتحادات التي يسيرها الانتهازيون والفوضويون وعندما كان هذا الإرهاب على أشده كان التنظيم والاستعداد لتعبئة العناصر المناوئة للجمهورية من الأكراد والشيوعيين في نشاط مستمر فوزعت أسلحة كثيرة ومن ضمنها الأسلحة المجازة التي اغتصبوها من المواطنين بين المقاومة الشعبية والمنظمات المخربة.
أما النشاط في ابتزاز الأموال والنقود من أغنياء البلد عن طريق الإرهاب والتهديد فقد كان مستمرا وكل هذه كانت تمهيدا للقيام بابادة العنصر التركماني في العراق."