الخلائق بإجزالها، وثنى بالندب إلى أمثالها، وأشهد أن لا إله إلاّاللّه وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمّن القلوب موصولها، وأنار في التفكّر معقولها، الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوهام كيفيته، ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة(1) امتثلها، كوّنها بقدرته، وذرأها بمشيّته، من غير حاجة منه إلى تكوينها، ولا فائدة له فـي تصويرهـا، إلاّ تثبيتاً لحكمته، وتنبيهاً على طاعته، وإظهاراً لقدرته، وتعبّداً لبريّته وإعزازاً لدعوته، ثمّ جعل الثـواب على طاعته، ووضـع العقاب على معصيته، ذيادة لعباده عن نقمته، وحياشته (2) لهـم إلـى جنته.
وأشهد أنّ أبي، محمّداً[النبيّ الأُمّي] (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عبده ورسوله اختاره وانتجبه قبل أن أرسله، وسمّـاه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة(3)،
____________
1. يقال احتذى مثاله: أي اقتدى به ـ الصحاح:6/2311.
2. قال المجلسي (قدَّس سرَّه): الذود والذياد، بالذال المعجمة: السوق والطرد والدفع والإبعاد.
وحشت الصيد أحوشه: إذا جئته من حواليه لتصرفه إلى الحبالة، ولعلّ التعبير بذلك لنفور الناس بطباعهم عمّا يوجب دخول الجنّة ـ بحار الأنوار.
3. وقال المجلسي (رحمه الله) أيضاً: لعلّ المراد بالستر ستر العدم، أو حجب الأصلاب والأرحام، ونسبته إلى الأهاويل لما يلحق الأشياء في تلك الأحوال من موانع الوجود وعوائقه.
ويحتمل أن يكون المراد أنّها كانت مصونة عن الأهاويل بستر العدم إذ هي إنّما تلحقها بعد الوجود.
وقيل: التعبير بالأهاويل من قبيل التعبير عن درجات العدم بالظّلمات ـ نفس المصدر.
وبنهاية العدم مقرونة، علماً من اللّه تعالى بم آيل الأُمور، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع المقدور.
ابتعثه اللّه إتماماً لأمره، وعزيمة على إمضاء حكمه، وإنفاذاً لمقادير حتمه، فرأى الأُمم فرقاً في أديانهم، عُكَّفاً على نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرة للّه مع عرفانها، فأنار اللّه بأبي، محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ظُلَمَها، وكشف عن القلوب بهمها(1)، وجلا عن الأبصار غممها(2)، وقام في الناس بالهداية، فأنقذهم من الغواية، وبصّرهم من العماية، وهداهم إلى الدّين القويم، ودعاهم إلى الصّراط المستقيم.
ثمّ قبضه اللّه إليه قبض رأفة واختيار، ورغبة وإيثار، فمحمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) من تعب هذه الدار في راحة، قد حُفّ بالملائكة الأبرار، ورضوان الربّ الغفّار، ومجاورة الملك الجبّار، صلّى اللّه على أبي، نبيّه وأمينه على الوحي، وصفيّه [في الذّكر ]وخيرته من الخلق ورضيّه،
____________
1. البُهَمْ جمع بهمة بالضمّ، وهي مشكلات الأُمور ـ النهاية:1/168.
2. الغُمَمُ: جمع الغمّة، يقال: هو في غمّة أي في حيرة ولبس ـ مجمع البحرين.
والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة، وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس، والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس، واجتناب القذف حجاباً عن اللّعنة، وترك السرقة إيجاباً للعفّة، وحرّم اللّه الشرك إخلاصاً له بالربوبية، فاتّقوا اللّه حقّ تقاته، ولا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون، وأطيعوا اللّه فيما أمركم به و[ما ]نهاكم عنه، فإنّه إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء.
ثمّ قالت: أيّها الناس اعلموا: إنّي فاطمة وأبي محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، أقول عَوداً وبدواً ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً(1)، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم. فإن تعزوه(2)وتعرفوه، تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمّي دون رجالكم، ولنعم المعزى إليه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فبلّغ الرسالة صادعاً بالنذارة، مائلاً عن مدرجة المشركين(3)، ضارباً ثَبَجهم(4)،
____________
1. يقال: شطّ فلان في حكمه شطوطاً وشططاً: جار وظلم ـ المصباح:1/377.
2. قال المجلسي (رحمه الله): يقال عزوته إلى أبيه أي: نسبته إليه. أي إن ذكرتم نسبه وعرفتموه تجدوه أبي ـ بحار الأنوار.
3. وقال أيضاً: الصّدع: الإظهار، تقول: صدعت الشيء: أي أظهرته وصدعت بالحق: إذا تكلمت به جهاراً. والنذارة بالكسر: الإنذار وهو الإعلام على وجه التخويف. والمدرجة: المذهب والمسلك ـ نفس المصدر.
4. الثَّبَجُ بالتحريك: وسط الشيء ومعظمه ـ النهاية: 1/206.
آخذاً بأكظامهم(1)، داعياً إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة، يكسر الأصنام، وينكث الهام، حتّى انهزم الجمع وولّوا الدبر، حتّى تفرّى(2) الليل عن صبحه، وأسفر الحقّ عن محضه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق(3) الشياطين، وطاح(4)وشيظ النفاق(5)، وانحلّت عقد الكفر والشقاق، وفهتم(6) بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماص(7) (الَّذينَ أَذْهَبَ اللّه عَنْهُمُ الرِّجس وَطَهَّرهُمْ تَطْهِيراً)
____________
1. الكَظَمُ بالتحريك: مخرج النَّفَس من الحلق ـ مجمع البحرين، لسان العرب:12/520.
2. تفرّى: أي انشق، يقال تفرّى الليل عن صبحه ـ الصحاح:6/2454.
3. الشقاشق: جمع شِقْشِقَة بالكسر ـ وهي شيء كالرئة يخرجها البعير من فيه إذا هاج ـ لسان العرب:10/185.
4. طاح: هلك وسقط ـ مجمع البحرين.
5. قال المجلسي (قدَّس سرَّه): الوشيظ بالمعجمتين: الرذل والسّفلة...وفي بعض النسخ: الوسيط بالمهملتين: أشرف القوم نسباً و أرفعهم محلاً وهـو أيضاً مناسـب ـ بحار الأنوار.
6. فاه الرجل بكذا، يفوه: تلفّظ به ـ المصباح:2/161.
7. قال المجلسي (رحمه الله): البيض: جمع أبيض وهو من الناس خلاف الأسود والخماص بالكسر جمع خميص والخماصة: تطلق على دقة البطن خلقة وعلى خلوه من الطعام يقال: فلان خميص البطن من أموال الناس: أي عفيفٌ عنها.
والمراد بالبيض الخماص: إمّا أهل البيت (عليهم السَّلام) ويؤيده ما في كشف الغمة:2/111: في نفر من البيض الخماص الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
ووصفهم بالبيض لبياض وجوههم... وبالخماص لكونهم ضامري البطون بالصوم وقلة الأكل أو لعفّتهم عن أكل أموال الناس بالباطل.
أو المراد بهم من آمن من العجم كسلمان (رضي اللّه عنه) و غيره ويقال لأهل فارس: «بيض» لغلبة البياض على ألوانهم وأموالهم، إذ الغالب في أموالهم الفضّة... والأوّل أظهر ـ بحار الأنوار.