بسم الله الرحمن الرحيم
آية الغار ليست فضيلة لابي بكر
وجه الدلالة على فضل أبي بكر من هذه الايه في ستة مواضع :
الأول : أن الله تعالى ذكر النبي صلى الله عليه وآله ، وذكر أبا بكر ، فجعله ثانيه ،
فقال : " ثاني اثنين " .
الثاني : أنه وصفهما بالاجتماع في مكان واحد لتأليفه بينهما ، فقال : " إذ هما في الغار " .
الثالث : أنه أضافه إليه بذكر الصحبة ، ليجمع بينهما فيما يقتضي الرتبة ، فقال : " إذ يقول لصاحبه " .
الرابع : أنه أخبر عن شفقة النبي صلى الله عليه وآله عليه ، ورفقه . به ، لموضعه عنده ، فقال : " لا تحزن " .
الخامس : أنه أخبره أن الله معهما على حد سواء ، ناصرا لهما ، ودافعا عنهما ، فقال : " إن الله معنا " .
السادس : أنه أخبر عن نزول السكينة على أبي بكر ، لأن الرسول لم تفارقه السكينة قط ، فقال : " فأنزل الله سكينته عليه " .
فهذه ستة مواضع تدل على فضل أبي بكر من آية الغار
لقد [ حررتم كلامكم ] [ هذا ، واستقصيتم البيان فيه ، وأتيتم بما لا يقدر أحد أن يزيد عليه ] في الاحتجاج، غير أني بعون الله وتوفيقه ، سأجعل ما أتيتم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف .
أما قولكم : أن الله تعالى ذكره وذكر النبي جعل أبا بكر ثانيه ، فهو إخبار عن العدد ، ولعمري لقد كانا اثنين ، [ فما في ذلك من الفضل ؟ ] ، ، ونحن نعلم ضرورة أن مؤمنا وكافرا اثنان ، [ كما نعلم أن مؤمنا ومؤمنا اثنان ] ، فما أرى لكم في ذكر العدد طائلا [ تعتد به ] .
وأما قولكم : أنه وصفهما بالاجتماع في المكان ، فإنه كالأول ، لأن المكان [ يجمع المؤمنين والكفار ] ، وأيضا فإن مسجد النبي صلى الله عليه وآله أشرف من الغار ، وقد جمع المؤمنين والمنافقين والكفار ، وفي ذلك قول الله تعالى : ( فما للذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين ) . وأيضا فإن سفينة نوح قد جمعت النبي ، والشيطان ، والبهيمة ، [ والإنسان. فالمكان ] لا يدل على ما ادعيتم من الفضيلة فبطل فضلان .
وأما قولكم : أنه أضافه إليه بذكر الصحبة ، فإنه أضعف من الفضلين الأولين ، لأن الصحبة تجمع المؤمن والكافر ، والدليل على ذلك قول الله عز وجل : ( إذ قال لصاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ، ثم من نطفة ، ثم سواك رجلا " . وأيضا فإن اسم الصحبة يقع بين العاقل ولين البهيمة ، والدليل على ذلك من كلام العرب الذي نزل القرآن بلسانهم ، فقال الله تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ) وقد سموا الحمار صاحبا فقالوا :
إن الحمار مع الحمار مطية * فإذا خلوت به فبئس الصاحب
وأيضا فقد سموا السيف صاحبا فقالوا :
جاورت هندا وذاك اجتنابي *ومعي صاحب كتوم اللسان
يعني السيف . فإذا كان اسم الصحبة يقع بين المؤمن والكافر ، وبين العاقل وبين البهيمة ، وبين الحيوان والجماد ، فأي حجة لصاحبك ؟ !
وأما قولكم : أنه قال " لا تحزن " فإنه وبال عليه ، ومنقصة ودليل على خطئه ، لأن قوله : " لا تحزن " نهي ، وصورة النهي قول القائل : ( لا تفعل ) . فلا يخلو [ أن يكون ] الحزن وقع من أبي بكر [ على أحد وجهين : إما ] طاعة أو معصية ، فإن كان طاعة فالنبي لا ينهى [ عنها ، فدل على أنه ] معصية . [ فإن انتهى وإلا فقد شهدت الآية بعصيانه بدليل أنه نهاه ] .
وأما قولكم أنه قال له : ( إن الله معنا ) فإن النبي صلى الله عليه وآله أخبر أن الله معه خاصة ، وعبر عن نفسه بلفظ الجمع [ فقال : " معنا " كما عبر الله تعالى عن نفسه بلفظ الجمع ] فقال : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " .
وقد قيل [ أيضا في هذا ] : أن أبا بكر قال : يا رسول الله حزني على أخيك علي بن أبي طالب ما كان منه . فقال له النبي : ( لا تحزن إن الله معنا ) . أي : معي ومع أخي علي ابن أبي طالب .
وأما قولكم أن السكينة نزلت على أبي بكر فإنه [ كفر بحت ] ، لأن الذي نزلت عليه السكينة هو الذي أيده بالجنود كذا يشهد ظاهر القرآن في قوله تعالى : ( فأنزل سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها ) فإن كان أبو بكر هو صاحب السكينة فهو صاحب الجنود ، وهذا إخراج النبي من النبوة ، على أن هذا الموضع لو كتمته على صاحبكم كان خيرا له ، لأن الله تعالى أنزل السكينة على النبي في موضعين ، وكان معه قوم مؤمنون ، فشركهم فيها ، فقال في موضع : ( ثم أنزل سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها ) . [ وفي موضع آخر ] : ( فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى " . ولما كان في [ هذا اليوم ] خصه وحده بالسكينة ، فقال : ( فأنزل سكينته عليه ) . فلو كان معه في الموضع مؤمن لشركه معه في السكينة ، كما شركه من قبله من المؤمنين ، فدل بإخراجه من السكينة على خروجه من الإيمان .
تم . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويقول المفيد، وغيره: إن حزن أبي بكر إن كان طاعة لله؛ فالنبي «صلى الله عليه وآله» لا ينهى عن الطاعة؛ فلم يبق إلا أنه معصية.
وأجاب الحلبي وغيره: بأن الله خاطب نبيه بقوله: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} فنهي الله لنبيه لم يكن إلا تأنيساً وتبشيراً له، وكذلك نهي النبي لأبي بكر.
ونحن نرى أن جواب الحلبي هذا في غير محله، وذلك:
لأن حزن أبي بكر، وشكه في نصر الله، الذي يشير إليه قوله «صلى الله عليه وآله» له: {إِنَّ اللهَ مَعَنَا} كان مما لا يجمل ولا يحسن؛ إذ كان عليه أن يثق بنصر الله سبحانه وتعالى لنبيه «صلى الله عليه وآله»، بعد ما رأى المعجزات الظاهرة، والآيات الباهرة، الدالة على أن الله تعالى سوف ينجي نبيه من كيد المشركين.
وعليه فلا يمكن أن تكون الآية واردة في مقام مدحه وتقريظه، ولا بد من حمل النهي على ما هو ظاهر فيه، ولا يصرف عن ظاهره إلا بقرينة، بل ما ذكرناه يكون قرينة على تعين هذا الظاهر.
ولا يقاس حزن أبي بكر بحزن النبي «صلى الله عليه وآله»، والمشار إليه بقوله تعالى: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} وغيرها، لأن النبي «صلى الله عليه وآله» إنما كان يحزن من أجل ما يراه من العوائق أمام دعوته، والموانع التي تعترض طريق انتشار وانتصار دينه، لما يراه من استكبار قومه، ومقامهم على الكفر والطغيان.
فالنهي له «صلى الله عليه وآله» في الآية المتقدمة، ولموسى «» في آية أخرى، ليس نهي تحريم، وإنما هو تأنيس وتبشير بالنصر السريع لدينه، وللتنبيه على عدم الاعتناء بقولهم، وعدم استحقاقهم للحزن والأسف.
فحزن النبي «صلى الله عليه وآله» هنا يدل على عمق إيمانه، وفنائه في ذات الله تعالى، وهو لا يقاس بحزن من يحزن من أجل نفسه، ومن أجل نفسه فقط.
والآيات صريحة فيما نقول: فنجد آية تقول: إنه «صلى الله عليه وآله» كان يحزن لمسارعة قومه في الكفر: {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ..} و{وَمَن كَفَرَ فَلا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ} وأخرى تقول إنه يحزن لما بدا له من تكذيبهم إياه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ..}.
وثالثة تقول: إنه كان يحزن لاتخاذهم آلهة من دون الله {فَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}. وهكذا سائر الآيات، كما لا يخفى على من لاحظها.
فالآيات على حد قوله تعالى: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} فهو حزن حسن منه «صلى الله عليه وآله»، وهو يدل على كمال صفاته، وسجاحة أخلاقه، صلوات الله عليه وآله الطاهرين.
أضف إلى كل ما تقدم: أننا لو لم نعرف واقع حزن أبي بكر، فإننا لا يمكن أن نقيسه على حزن النبي المعصوم، بل علينا أن نأخذ بظاهر النهي، وهو التحريم، ولا يعدل عن ظاهره إلا بدليل.
السكينة
فقالوا: إن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يكن بحاجة إلى السكينة لتنزل عليه، وكأنه يريد أن يجعل من ذلك قرينة لصرف اللفظ عن ظاهره.
ولكنه كلام باطل.
أولاً: قال تعالى في سورة التوبة في الآية 26 عن قضية حنين: {ثُمَّ أَنَزلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ}. وقال في سورة الفتح في الآية 26: {فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ}.
فهاتان الآيتان: تدلان على نزول السكينة عليه «صلى الله عليه وآله»، فلا يصح ما ذكروه
ومن جهة ثانية نرى: أنه تعالى قد ذكر نزول السكينة على المؤمنين فقال: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً..}.
وقال: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً}.
وهنا قد يتساءل البعض عن سر إخراج أبي بكر من السكينة، ولم حرم منها هنا، مع أن الله قد أنزلها على النبي «صلى الله عليه وآله» هنا وعليه وعلى المؤمنين في غير هذا الموضع؟!!
وأقول: لربما يمكن الجواب: بأن إنزالها على الرسول هنا يكفي؛ لأن في نجاته نجاة لصاحبه، وفي خلاصه خلاصه.
ولكنه جواب متهالك، لأن السكينة إنما توجب اطمينان القلب، وذهاب القلق، وهو أمر آخر غير النجاة والخلاص.
ثانياً: إن السكينة هي: نعمة من الله تعالى: ولا يجب في نزول النعمة الاتصاف بما يضادها، ولذلك تنزل الرحمة بعد الرحمة، وقد يكون نزول السكينة يهدف إلى زيادة الإيمان قال تعالى مشيراً إلى ذلك: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً..}.
ثالثاً: من أين علموا: أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يكن بحاجة إلى السكينة مع عدم وجود ما يدل عليه في الآية، فلتكن كآية حنين بمعنى أن هذه السكينة بمثابة الإعلام بأن مرحلة الخطر القصوى قد انتهت؟!
ولماذا لا يظن النبي «صلى الله عليه وآله»: أن حزن أبي بكر، ورعبه وخوفه، وبكاءه، قد كان لمشاكل أخرى وهو «صلى الله عليه وآله» وإن كان يعلم: أنه سوف ينجو منها في النهاية، إلا أنها تشكل على الأقل عراقيل وموانع، تؤخر وصوله إلى هدفه الأقصى والبعيد.
رابعاً: يرى العلامة الطباطبائي: أن الآية مسوقة لبيان نصر الله تعالى لنبيه، حيث لم يكن معه أحد يتمكن من نصرته، ومن هذا النصر إنزال السكينة عليه، وتقويته بالجنود، ويدل على ذلك تكرار كلمة «إذ» ثلاث مرات، كل منها بيان لما قبله بوجه، فتارة لبيان وقت النصر، وأخرى لبيان حالته «صلى الله عليه وآله»، وثالثة لبيان وقت هذه الحالة؛ فالتأييد بالجنود كان لمن نزلت السكينة عليه.
ويقول بعض الأعلام: «إن أبا بكر لما لم يستجب لطلب النبي «صلى الله عليه وآله» في أن لا يحزن ولا يخاف، فإن السكينة نزلت على النبي «صلى الله عليه وآله»، وبقي أبو بكر على عدم سكينته، الأمر الذي يدل على أن أبا بكر لم يكن مؤهلاً لهذا التفضل والتكرم من الله تعالى».