ايران تحتفل بذكرى ثورتها وعينها على الخارج
د. سعيد الشهابي
الانجاز السياسي لهثمنه الاقتصادي الباهظ في الدول الناهضة، هذه واحدة من حقائق الثورة الاسلاميةالايرانية التي يحتفل قادتها وشعبها هذه الايام بمرور 34 عاما على انتصارها. وليسمن الصعب ادراك حقيقة اخرى ذات صلة، مفادها ان من جذور الاختلاف بين الفرقاءالايرانيين (وآخر تجلياته ما جرى مؤخرا من تبادل الاتهامات بين الرئيس احمدي نجاد،ورئيس مجلس الشورى الاسلامي، علي لاريجاني) الموقف ازاء طرفي هذه المعادلة.
فأيهما الاهم: الانجاز السياسي على الصعيد الدولي الذي يجعل الدولة مهابة، ام الرفاه الاقتصادي مع غياب الاستقلال والمكانة السياسية؟
زعماء ثورة ايران التي اطلقهاالامام الخميني واسقطت اكبر عروش الاستبداد والتبعية للولايات المتحدة الامريكية في المنطقة، يرون في استقلال ايران وانفصالها من التبعية للغرب اهمية استراتيجية مرتبطة بهوية الثورة التي تنتمي لعقيدة وايديولوجية متباينتين مع الاسس التي يقوم عليها النظام السياسي العالمي الذي تمخض بعد الحرب الثانية. ولتحقيق ذلك، وفق رؤية هذا الفريق الذي يقود الثورة ويمسك بمفاصل الدولة، تقتضي الضرورة تحمل تبعات تلك الاستراتيجية ومن بينها الصعوبات الاقتصادية والحصار والمقاطعة. بينما يذهب معارضو تلك السياسة الى ان على ايران انتهاج سياسات اخرى مختلفة تساهم في تبريد البؤرالساخنة كالملف النووي ومشروع الاسلام السياسي وتغيير الموقف ازاء 'اسرائيل' ودعم المقاومة الاسلامية ضدها، والتوقف عن تطوير المشاريع التصنيعية التي انتجت الصواريخ ودفعت ايران لغزو الفضاء. بين هذين المذهبين، يتواصل التوتر الظاهر احيانا والخفي اغلب الاحيان. وقد تحول ذلك الى ما يشبه القطيعة بين التيارين اللذين خاضا حروبا اعلامية وسياسية ضد بعضهما. ومع شيخوخة رموز التيارين، استطاع تيار ولاية الفقيه تهميش مناوئيه، معتمدا على اجهزة سياسية وامنية ودينية. وبرغم ذلك يتواصل السجال السياسي على اشده، خصوصا مع اقتراب الانتخابات الرئاسية بعد بضعة شهور.
من يزورايران هذه الايام يرى بلدا متحركا على صعدان شتى. وفي اجواء ذكرى الثورة يسعى قادتها لاعادة اجوائها للحياة العامة، املا في ربط الجيل الحالي بتلك الثورة وزعاماتها خصوصا قائدها الامام الخميني. ولكنهم يواجهون تحديات تتصاعد تدريجيا خصوصا مع الاصرار الغربي على استهداف الجمهورية الاسلامية على كافة الصعدان،واستمرار الاختلافات بين الاجنحة المتنافسة للوصول الى السلطة وتحديد وجهة الثورة. وتزامنت الاحتفالات هذا العام مع ذكرى مولد النبي محمد عليه افضل الصلاة والسلام، فنظمت ايران مؤتمرا عالميا حول الوحدة الاسلامية والتقريب بين المذاهب، حضره المئات من الرموز الدينية من كافة اقطار العالم. الرسالة كانت واضحة: ان محاولات تفتيت الامة وفق خطوط التباين العرقي والمذهبي امر مرفوض يجب مواجهته من قبل علماء الامة ومفكريها، وان نهضة امة العرب والمسلمين لن تتحقق الا بالوحدة والتفاهم والتحاوروتقارب وجهات النظر، وليس بالاحتراب والاستهداف. ايران تعلم، من خلال التجربة والممارسة، ان مشاريع التغيير في العالمين العربي والاسلامي مستهدفة، وان ذلك الاستهداف بدأ عندما قامت ثورة ايران واستطاعت تعبئة الجماهير ضد نظام الشاه الذي سقط في مثل هذه الايام قبل 34 عاما.
وتعرف الجمهورية الاسلامية ايضا ان قوى الثورة المضادة استطاعت آنذاك اقامة جدران عازلة بين النظام السياسي الاسلامي في ايرانوالشعوب العربية، واطلقت اتهامات طالما كررها السياسيون ووسائل الاعلام الغربي، بانايران تعتزم 'تصدير الثورة' وانها تروج لـ 'الاسلام السياسي'. او 'الخمينية'. بهذه التهم تم التعامل معها بقدر كبير من الحذر والشك، فشنت ضدها الحرب، وفرض عليهاالحصار، واستهدفت اعلاميا بحرب بلا هوادة. والحقيقة ان مشروع التغيير الثوري تأجل كثيرا، ولكنه لم يتوقف تماما، فخلال الثمانينات والتسعينات انتعشت الحركات الاسلامية واصبح ما يسمى 'الاسلام السياسي' ظاهرة اوصلت العديد من الحركات الىالحكم او مواقع متقدمة في الحراكات السياسية في بلدانها. وبعد ثلاثين عاما انتهت حقبة العمل السياسي كوسيلة للوصول الى الحكم، بعد ان اتضح ان التغيير من داخل تلك الانظمة اصبح سرابا لا يمتلك القدرة على التحول الى واقع. وجاءت ثورات الربيع العربي لتدفع بالمشروع التغييري الى الامام. ولكن الامر تكرر مجددا، فاستهدفت الثورات بقسوة، تارة بالقوة العسكرية، واخرى بالقمع الامني، وثالثة بخداع الجماهير بان القوى التي طالما عرفت بدورها ضد حرية الشعوب اصبحت تدعم الثورات. ايران من جانبها حققت انتصارا معنويا كبيرا واعتبرت تلك الثورات امتدادا لثورتها، وتحدثمسؤولوها ووسائل اعلامها عن 'صحوة اسلامية' انطلقت في اجواء التغيير التي صاحبت ثورتها في 1979.
هموم ايران اليوم تختلف عما عانت منه خلال الحرب العراقية الايرانية وما بعدها. وثمة دوائر اربع تقلق الجمهورية الاسلامية وتضغط على مسؤوليها. اولها الانتخابات الرئاسية المقبلة في غضون شهور ثلاثة. فبرغم انتظام تلك الانتخابات التي تجرى كل اربع سنوات، تخشى طهران من تكرر ماجرى في الانتخابات السابقة التي اعادت احمدي نجاد الى الحكم واعقبت ذلك موجة من الاضطرابات والاحتجاجات من المجموعات التي تعتبر نفسها اصلاحية. وتخشى ان تتكرر تلك الاضطرابات مجددا خصوصا مع توسع الفجوة بين تياري المحافظين والاصلاحيين. ووفقا للمعلومات المتوفرة فقد اتخدت السلطات اجراءات جديدة لمنع الاضطرابات، مستفيدة منتجربتها السابقة، ومن انقسام تلك المجموعات التي استطاعت اختراقها وتحييد بعض عناصرها.
واظهر النظام قدراته الامنية والعسكرية من خلال حوادث عدة اثبتت بها فاعلية قدراتها في هذين المجالين. ففي فبراير 2010 تمكنت اجهزة الاستخبارات والامن الايرانية من القبض على عبد الملك ريغي المسؤول عن عدد من التفجيرات في ايرانوأهمها قتل حوالي 15 من قيادات الحرس الثوري في مدينة زاهدان وذلك في فبراير 2007. واعتبرت تلك الحادثة من اكثر العمليات تعقيدا اذ استطاعت السلطات متابعة ريغي الذي كان يتنقل بين باكستان ودبي، وعندما استقل طائرة لتنقله الى احدى البلدان الأسيوية استطاعت السلطات الايرانية انزال طائرته بأحد مطاراتها، ومن ثم محاكمته واعدامه. وتمكنت لاحقا من اعتقال اعضاء مجموعته ومحاكمتهم بالسجن او الاعدام. وعلى الجانب الآخر وجهت ايران ضربة قوية للولايات المتحدة عندما تمكنت من انزال ثلاث طائرات امريكية تطير بدون طيار، الاولى من نوع 'شبح' والأخريان من نوع 'درون'. وهذا النوع من الطائرات اصبح السلاح الاول في الاستراتيجية الامريكية الجديدة لمواصلة ما تسميه 'الحرب ضد الارهاب' بديلا للتدخل العسكري المباشر. وقد اندهش الامريكيون من قدرةالايرانيين على الاستيلاء على اهم سلاح في هذه الحرب بدون جهد يذكر، وانزال الطائرات بدون تحطم. هذه التطورات جعلت ايران في عيون مناوئيها دولة قوية قادرة على الدفاع عن نفسها امام التحديات.
ولكن يبقى الملف النووي واحدا من اكثر القضايا ضغطا على ايران وعلى الدول الغربية التي تتحداها ازاء هذا المشروع وتسعى لمنعها من امتلاك دورة تصنيع نووية كاملة. وسيظل هذا التوتر في العلاقات والتشكيك في النوايا مستمرا. الايرانيون يعلمون ان الضغط انما هو بسبب السياسة الايرانية تجاه الكيان الاسرائيلي ورفض طهران الاعتراف بالكيان الاسرائيلي. والواضح ان ايران نجحت في استمالة كل من روسيا والصين الى جانبها في العديد من القضايا الجوهرية خصوصا الملف النووي والقضية السورية.
وتسعى الجمهورية الاسلامية للتقارب مع مصر الثورة، ولذلك اقترح الايرانيون ان تعقد المفاوضات المقبلة بين ايران ودول 5+ 1 في مصر في اشارةالى تحسن العلاقات بين البلدين. كما انه اشارة للغربيين بان لايران امتدادات عربية واسلامية اكبر مما يتصورونه. واذا صدق تقرير صحيفة 'التايمز' البريطانية الشهرالماضي بان الحاج قاسم سليماني، مسؤول لواء 'القدس' بالحرس الثوري قد زار مصر في ديسمبر وتباحث مع جماعة الاخوان المسلمين بشأن تأسيس ذراع امني لها، فان التعاون بين النظامين قد قطع خطوات كبيرة الى الامام.
ايران تصر على مواصلة التخصيب وفق نصوص معاهدة منع انتشار السلاح النووي، الامر الذي دفع جو بايدن، نائب الرئيس الامريكي لاطلاق تصريحات مثيرة ضد ايران خلال لقائه الاسبوع الماضي مع المستشارة الالمانية، انجيلا ميركيل، مهددا بان دور الدبلوماسية لن يستمرالى الابد. ولكنه فياليوم التالي عاد ومد غصن الزيتون باتجاه طهران، آملا ان يؤدي ذلك الى حوار جاد بين البلدين. هذه التصريحات تعكس التوتر الامريكي الناجم في بعض جوانبه من الشعور بعدم جدوى الحصار الاقتصادي في التأثير على الموقف الايراني ازاء تخصيب اليورانيوم. هذالا يعني عدم وجود نتائج سلبية لتلك المقاطعة. فمنذ ان بدأت بشكل جاد واستهدفت المؤسسات الاقتصادية والمصارف، تراجع مستوى العملة الايرانية بمقدار النصف، الامرالذي ادى الى ارتفاع باهظ في الاسعار. وبلغ الامر ان اصبحت ايران غير قادرة على استيراد الدواء. وعندما كشفت وزيرة التعليم السابقة، عدم وجود ادوية كافية لدى الحكومة اضطرت للاستقالة من منصبها، نظرا لحساسية القضية واصرار الايرانيين على التظاهر بعدم فاعلية ذلك الحصار. ومن يتحدث للاطباء الايرانيين يسمع منهم قصصا مأساوية حول وفاة اطفال ورجال مرضى نتيجة عدم توفر الدواء المناسب. صحيح انالحصارلا يشمل الدواء، ولكن الشركات الغربية ترفض التعامل التجاري مع ايران خشية من قيام حكوماتها بمعاقبتها. ومن نتائج هذا الحصار ارتفاع الاسعار بمعدلات متسارعةوتراجع النمو الاقتصادي نتيجة عدم القدرة على الاستيراد.
وثمة قلق في اوساط الحكم الايراني من احتمال تأثير الغلاء المعيشي على مجريات الانتخابات الرئاسية المقبلة، وما قد ينجم عن ذلك من تحديات امنية للنظام المركزي. فالتراجع الاقتصادي ينعكس عادة بشكل سلبي على الثورات الحديثة العهد، ويحاصر الانظمة، ويصرف انظارالناس عن قضاياهم المعيشية الخاصة. فبعد ان تمكنت القيادة الايرانية من احتواءالموقف في سوريا، أصبحت اكثر اصرارا على استقلال قرارها وعدم الرضوخ للضغوط الامريكية. لقد كان للسياسة الايرانية دورها في منع سقوط بشار الاسد، الامر الذي لايخلو من دلالات استراتيجية. فكأن طهران تقول: نحن لا نتخلى عن اصدقائنا عند الشدة. بينما تخلى الامريكيون عن انظمة طالما تحالفوا ودافعوا عنها. وهكذا فبعد ثلث قرن اصبحت الجمهورية الاسلامية قادرةعلى التأثير على مسار دول المنطقة، بل تحديده في بعض الاحيان.
ايران اليوم تختلف عما كانت عليه سابقا. فقد اصبحت اكثر اطمئنان المشروع 'الاسلام السياسي' الذي قامت ثورتها من اجله، وأقدر على مواجهة التحديات الخارجية، وأوسع تأثيرا على مسارات السياسة في منطقة مضطربة على كافة الصعدان. انهاتسعى لبلورة مشروع استقلال سياسي وثقافي يشمل بقية الدول العربية والاسلامية، خصوصا بعد ثورات الربيع العربي التي تتحدى، في جوهرها وهويتها، النفوذ الغربي في المنطقة وتقاوم الاحتلال الاسرائيلي في فلسطين. ومع ان ايران، كغيرها من الدول التي ترفع شعار الديمقراطية، تسعى للموازنة بين المبادىء والمصالح، فان تجربة العقود الثلاثة الماضية تؤكد ان الجمهورية الاسلامية استطاعت تحقيق توازن دقيق بينهما، واصبحت دولة ذات نفوذ يتسع تدريجيا. انها اكثر دولة تفاعلت مع ثورة مصر بشكل ايجابي، وانحازت بشكل مبدئي الى جانب الثوار، كما ان مواقفها ازاء ثورات تونس وليبيا واليمن والبحرين. وموقفها من سوريا ينطلق من حرصها على قطع ايدي القوى التي تسعى باستمرارلاستهداف قوى التحرر وانظمة الاستقلال. انها تسعى لتفعيل مبادرة عربية او اسلامية تهدف لانقاذ سوريا من اوضاعها الحالية والوصول بها الى بر آمن، بعيدا عن العنف والارهاب والاستبداد.
ومن هنا تشعر القيادة الايرانية انها اكثر حضورا في الميدان الاقليمي مما كانت عليه طوال الثلاثين عاما الماضية. وقد حققت مكاسب كثيرة للمشروع الاسلامي، بالاضافة لما اقامته من علاقات مع دول العالم بدون انقطاع. انها تشعرانها في وضع صعب، ولكن المهمة ليست مستحيلة في ظل منظومة سياسية فاعلة تأسست علىقواعد الاستقلال وانهاء التبعية. بين الامل والقلق تواصل ثورة ايران طريقها الوعرآملة ان تحتوي التهديدات الغربية والسياسات المعادية للمشروع السياسي الاسلامي. مع ذلك ستبقى التحديات الداخلية واحدة من التحديات الكبرى التي تواجهها دولة الثورة،كما اظهرت حادثة مجلس الشورى قبل يومين. مرشد الثورة، آية الله السيد علي خامنئي،يقود سفينة ايران وسط محيط لجي، ولكي يحميها من الغرق او الضياع، فانه سيجد نفسها امام تحديات الداخل والخارج على حد السواء. انها فترة عصيبة في تاريخ الثورة، والعالم ينتظر ما ستتمخض عنه التطورات الداخلية الايرانية، المرتبطة هي الاخرى بالتدافع الاقليمي في 'ربيع الثورات' والتهديدات الدولية المنبعثة من الكيانالاسرائيلي وداعميه في الغرب.
' كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن