دويتشه فيله: حذرتم مؤخراً من محاولات لإخراج حركة الاحتجاجات عن طابعها السلمي، علام استندتم لإطلاق هذه التحذيرات؟
عبد العزيز الخير: النظام عبر تاريخه الطويل لم يتعامل، لا مع الفكر ولا مع القوى السياسية المعارضة، إلا بالعنف والاعتقال، وفي حالات عديدة بالقتل والتصفيات. ومنذ بداية الحراك الراهن تمت مواجهته بالعنف والقهر مباشرة، فهذا رد فعل "طبيعي" للنظام على حركة معارضة. ومباشرة عمل على تسويغ عنفه بعدة إجراءات، أهمها اتهام النشطاء بأنهم عصابات مسلحة. ومن أجل توفير مصداقية لهذه الرواية لجأ إلى تغييب الإعلام المستقل. ومن ثم قام بتصوير ونشر أخبار عن نشاطات مسلحة لم يكن لها أي أساس حقيقي على الأرض، مثلتها أجهزته المتخصصة في هذه القضايا. إذن النظام يضغط منذ البداية لإظهار أن الحراك السلمي هو عمل مسلح من قبل عصابات ومجموعات مسلحة لتبرير معاملتها بالعنف والقسوة.
حدث هذا في البداية في درعا وانتشر إلى مناطق أخرى امتد إليها الحراك. وهناك وقائع تؤكد وجود أجهزة متخصصة من النظام لتمثيل أعمال عنف وتنفيذها ضد مواطنين وعناصر من أجهزة النظام نفسه، ومن ثم يتهم بها النشطاء المسالمون. وكان هذا عنصر ضغط كبير على الحراك الشعبي في محاولة لدفع المواطنين إلى القيام برد فعل مسلح.
النقطة الثانية تتمثل في أن السلاح موجود بيد السوريين في بعض المناطق الحدودية والريفية ولدى بعض العشائر، وهم لا يشكلون نسبة تذكر من الشعب السوري. لكن وجود السلاح بيدهم على قلة عددهم مناسب جداً للنظام لاستفزازهم ودفعهم إلى استخدامه، لتأكيد روايته حول عدم سلمية حركة الاحتجاجات. ومع استمرار حركة الاحتجاجات زاد النظام من ضغوطه لدرجة بات معها كثير من المواطنين يعانون من لجم أنفسهم من ردة فعل بالوسائل نفسها في المناطق التي ذكرتها والتي تتواجد فيها العشائر.
النقطة الأخيرة التي استندت إليها في تحذيراتي هو ظهور أعمال مسلحة وردود فعل مسلحة أيضاً في بعض المناطق، كان أولها في منطقة تلكلخ وهي منطقة حدودية والسلاح متواجد فيها بعلم النظام وبشراكة بعض ضباطه الفاسدين. كما ظهرت أعمال مسلحة في منطقة جسر الشغور وهي من ريف إدلب، حيث يقل فيها مستوى التعلم مقارنة بالمناطق الأخرى، وحيث توجد فرص أكبر لاستخدام السلاح كرد فعل.
بعد ظهور مقاطع مصورة لما قُيل إنها عمليات قتل لعناصر من الشرطة السورية وانتشار السلاح في النقطة الثانية التي تطرقتم إليها، هل بدأ الحراك الشعبي يبتعد على سلميته؟
اعتقد أن من المبالغة الكبيرة القول إن الحراك بدأ يبتعد عن سلميته. الطابع العام والنسبة الكبيرة من الحراك ما تزال سلمية بامتياز. وأكاد أجزم أنها ستبقى سلمية في أماكن التجمع المدنية الكبرى وتحديداً الحواضر الأساسية والمناطق التاريخية التي لا يتواجد فيها السلاح ولا تنتشر فيها ثقافة السلاح. لكن للحقيقة ظهرت في بعض المناطق المتطرفة أعمال مسلحة وارتكبت أعمال قتل، كانت في سياق الدفاع عن النفس عموماً ضد وحشية الأجهزة وممارساتها وأعمال تهدف للاستفزاز، مثل تشويه الجثث والتمثيل بها. وبالطبع أخذ إعلام النظام هذه الحوادث المحدودة العدد وضخمها وأضافها إلى أرشيفه الذي استخدمه تاريخياً واعتمد فيها على تمثيل مشاهد تقوم فيها مئات متخصصة من أجهزته بأعمال القتل. أما الطابع العام والساحق للحراك الشعبي السوري فما يزال سلمياً بامتياز واعتقد أنه سيبقى كذلك.
هناك من يحاول أن يضفي بعداً طائفياً على هذا الحراك، كيف يمكن أن يؤثر اللعب على وتر التنوع الطائفي والديني في سوريا على هذا الحراك الشعبي وفرصه في إحداث تغيير؟
Bildunterschrift: الدخان يغطي سماء مدينة حماة بعد قصف الدبابات
من حيث المبدأ فإن الحراك يتقدم يوماً بعد آخر على طريق النجاح، وهو بالمحصلة سينجح وهذا من الأمور المؤكدة والمحسومة. وسوريا التي ستكون غداً لن تكون أبداً مشابهة لسوريا الأمس. إن التنوع الطائفي والديني في سوريا ليس بحد ذاته عامل ضعف أو قوة بالنسبة للحراك. لكن يمكن أن يتغير هذا الأمر على كل الاتجاهات تبعاً لسلوك وممارسات ومصالح القوى القادرة على التأثير في الحراك الشعبي. أي أن هناك ثمة قوى تضغط لجعل هذا التنوع مصدر تهديد لحركة الاحتجاجات لإثارة الرعب الاجتماعي عند الناس ودفعهم إلى الانفضاض عنه وجعلهم يختارون البقاء في ظل الاستبداد وقسوته لأنهم يفضلون ذلك على الصدامات الأهلية والطائفية وانفلات الوضع في الشارع وربما انهيار الدولة. لقد مارس النظام ضغوطاً كبيرة في هذا الاتجاه، لكن بطريقة مفضوحة تماماً للسوريين والرأي العام الدولي.
من جانب آخر هناك قوى إقليمية يمكن وصفها بشكل عام بأنها من الناحية المدنية والحضارية أقل تطوراً بصورة واضحة من المجتمع السوري. وهذه القوى تمارس ضغطاً إعلامياً وربما مادياً لقوى مشابهة لبنيتها داخل سوريا وتتفق في رؤيتها، سواء أكانت عشائرية أو أصولية دينية متطرفة، لتحويل التنوع الديني والطائفي في البلاد إلى عنصر تستخدمه لزيادة فرص تحقيق أهدافها السياسية داخل سوريا. وهي أهداف لا تتفق أبداً مع مشروع الثورة السورية الراهن في إقامة دولة المواطنة أو الدولة المدينة.
تحدثتم عن بعض "القوى الأقل تطوراً"، كما سميتموها، كيف يمكن مجابهة تركيز هذه القوى على التنوع الطائفي في سوريا في ظل هذه الأحداث؟
من المفاجآت السارة التي كشف عنها الحراك هو وعي الشعب السوري تجاه مسألة الوحدة الوطنية وفي تجاوزه للمخاوف الطائفية القديمة وتسييس الانتماء الطائفي. وهذا عنصر القوة الرئيس في مواجهة هذه القوى. كما أن هناك عنصر قوة آخر في مواجهة هذه القوى يتأتى من كشف مخططاتها أمام أوسع شريحة من الشعب السوري. وقسم كبير من الناس باتوا يعرفون أصحاب المصالح الكبرى في النظام، وبشكل خاص أنصار الحل الأمني-العسكري داخل النظام، الذين حاولوا منذ البداية رسم صورة طائفية للحراك وبأن الدولة القادمة ستكون دولة دينية. وجرى هذا بوضوح كبير في بانياس وحمص. وعي الشعب السوري سمح بتطويق هذا الموضوع بطريقة حازمة. لكن النظام لم يتوقف حتى اليوم عن الضغط في هذا الاتجاه.
من جانب آخر فإن كشف "القوى الإقليمية الأقل تطوراً" ومحاولات تدخلها في شؤون الحراك يجعل الكتلة الكبرى من السوريين محصنة ضد تأثيراتها. وأستطيع القول إن العناصر والقوى الأكثر وعياً ومدنية في صفوف الحراك نجحت في مناطق عديدة وحالات كثيرة في كبح أصوات حاولت أن تقوم بتحريض طائفي أو ديني وحاولت أن تدعو لاستخدام السلاح. وتطويق هذه القوى من قبل الجماهير يعد نجاحاً للحراك كما رأينا في حمص ودير الزور.
أعتقد من حيث المبدأ أن النسبة الكبرى من الشعب السوري تجاوزت فعلاً خطر التفتت الطائفي بدلالة أنه رغم الضغوط الكبيرة منذ بداية الحراك لجره باتجاه الطائفية، والتي قام بالجزء الأكبر منها النظام نفسه، والمتأتية أيضاً من بعض القوى الإقليمية من خلال وسائل الإعلام، فإن الشعب زاد من وحدته في حراكه الشعبي.