ليس قبر الزهراء ( عليها السلام ) ، وحده الذي خفي عن الناس : فكثير من قبور الأنبياء والأولياء والصالحين ، قد أخفاها المخلصون من شيعتهم وأتباعهم خوفا عليها من أن تمتد إليها أيدي الظلمة بالهتك والنبش ، لما جبل عليه أولئك الأعداء من خسة وسفالة وضعة ، قد تدفعهم إلى الانتقام من صاحب القبر خوفا منه في حياته وبعد مماته ، وخوفهم الأعظم ، ناشئ من أن يصبح هذا القبر منارا يهتدي به الثائرون ونبراسا يضئ ليل المظلومين ،
فيعمد هؤلاء إلى نبشه للاطمئنان من وجوده في القبر والتأكد من موته ، ويستريح بالهم ، ومن ثم إضاعة معالمه لكي لا يبقى أثرا يذكّر الأجيال بهدى صاحب القبر وسيرته العاطرة المليئة بالجهاد والتضحية .
إن ظاهرة إخفاء القبور أو نبشها ، أو إخفاء الناس أحياء في قبور وأقبية أعدوها ، وخصوصا للذين يحملون فكرا يتهدد أصحاب الكراسي والمقامات ، تعكس مدى الحالة النفسية المتردية التي يعاني منها هؤلاء الحكام ، والخوف الذي يستشعرونه من ميت يرقد تحت أطنان من التراب .
فهؤلاء يعيشون حالة الوعي التامة عندما يقومون بذلك لأنهم يعلمون أن القبر وصاحبه لا يضران أو ينفعان ولكن الإشعاع الفكري الذي كان يحمله صاحب القبر، أو الانتماء الرفيع لنسب معين ، مع الشعور بالنقص والوضاعة من قبل هؤلاء الحكام هو الذي يشعرهم بالخوف ويقض مضاجعهم ، مما يدفعهم إلى ارتكاب كل ما من شأنه أن يهتك حرمات هؤلاء أحياء أو أمواتا .
علم الناس بوضاعة هؤلاء الحكام والخوف منهم على قبور قادتهم ، يدفع هؤلاء القادة إلى الوصية إلى أتباعهم بأن يقوموا بإخفاء قبورهم إلى حين ارتفاع الأسباب ، ومن ثم الإعلان عنها ، ليتخذ منها الناس رمزا يذكرهم بما كان عليه صاحب القبر .
والناس على قسمين في ذلك .
القسم الأول : وهم الطغاة.
قام هؤلاء بإخفاء قبور بعض قادتهم ورموزهم - ولربما بوصية من الطاغية - خوفا من أن يقوم المظلومون فيما بعد وفي ثورة غضب عارمة بنبش قبر هذا الطاغية ، لينالوا منه ويشفون غليلهم منه بعد أن عجزوا عنه في حياته ،
ومن ذلك ما حدث من إخفاء قبر الشيخين تحت ظل قبر صاحب الرسالة والتستر به ، لئلا تهتك الأجيال قبورهما وتمثل بهما أمواتا ، لما أحدثوه في الإسلام من عظائم ،ولما أسسوه من مظالم ، وما أحدثوه بعد النبي (ص) من أحكام جائرة بقي المسلمون يعانون من آثارها إلى يوم الناس هذا .
والدليل على ذلك ، هو صاحبهم الخليفة الثالث عثمان بن عفان ، فقد قتله المسلمون ، وألقوه في مقبرة لليهود ، تنهش جيفته الكلاب والوحوش الضارية ، وقد عمد أصحابه إلى جثته ليلا فدفنوها سرا وأخفوا القبر بعناية بالغة فبقى هذا القبر مجهولا لا يعرف له مكان . ولولا وجود قبور صاحبيه بجوار قبر صاحب الرسالة ، لأندفع الناس إليهما ونبشوهما وفعلوا بهما ما فعلوه بعثمان .
جاء الأمويون وانتقاما من الذين أدخلوهم الإسلام عنوة ، عمدوا إلى نبش قبور شهداء بدر وأحد ، وذلك بأمر زعيمهم معاوية بن أبي سفيان ثم حوّل معاوية مجاري الماء على مقابر الشهداء ليمحوا بذلك آثارهم ، ثم أختلق الأمويون أسطورة مفادها أن أحد الناس رأى أخيه الشهيد في المنام وهو يشكوا الماء الذي ملأ قبره فأمر معاوية بنقل قبور الشهداء إلى أماكن أخرى ، فتم توزيع القبور على القبائل والبيوتات وإضاعة معالمها .
واليوم أكمل الوهابيون ما بدأ به الأمويون فقاموا بمد الطرق والساحات العامة فوق أكثر الآثار الإسلامية لإضاعة معالمها ، وخصوصا شهداء بدر واحد ... الخ
ثم جاء من بعدهم العباسيون ، فقاموا بنبش قبور بني أمية وأخرجوا من وجدوه منهم فجلدوه ثم أحرقوه وذروا رمادهم في الهواء ومسحوا قبورهم من على وجه الأرض ، وجعلوها طرقا عامة تطأها العامة وتسير فوقها السابلة وذلك استرضاء لعامة الناس الموتورين من بني أمية الذين قتلوا آل بيت رسول الله (ص) وزرعوا الفتنة والفرقة بين المسلمين .
ولما كان العباسيون يعلمون بهذه الظاهرة وأنهم هم أنفسهم قد مارسوها ضد قبور أعدائهم ، وانهم بدءوا يسيرون بنفس سيرة بني أمية في ظلم الناس وغمطهم لحقوقهم وعلى رأس هؤلاء آل بيت رسول الله (ص) . أمر العباسيون بإخفاء قبورهم والتمويه عليها ، ومن هنا فأن الغالبية العظمى من قبور ملوك بني العباس لا يعرف أحد مكانها ، وكل ما تنقله كتب التاريخ لنا من أن فلان دفن بظاهر الكوفة أو دفن فلان في مقابر المسلمين أو مقابر قريش ... الخ
ولعل أشهر من بقي من قبور ملوكهم هو قبر هارون الرشيد في خراسان الذي يلوذ مختفيا تحت ظل قبر حفيد صاحب الرسالة الأمام الهمام علي بن موسى الرضا (ع) ، وقد قام بوضع خطة إخفاءه بهذه الصورة الذكية ولده المأمون ، حيث أمر أن يدفن الإمام الرضا بعد أن قتله مسموما بجوار أبيه هارون الرشيد حفاظا عليه من الهتك والنبش .
والدليل على ذلك أن السب والشتم لاحق الرشيد وهو في قبره كما جاء قي قصيدة دعبل الخزاعي ، عندما أمره المأمون أن يقرأها بعد أن أعطاه الأمان فقرأ إلى أن وصل إلى قوله :
قبران بطوس خير الناس كلهم ــــ وقــبر شرهــم هــذا من العـبر
لاينفع الرجس من قرب الزكي ـــــ وما على الزكي بقرب الرجس من ضرر