لقد كتب عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي أصولا والحنفي فروعا ـ من أعيان علماء السنة- قصيدة يتكلم فيها عن فرار الشيخين في حنين واُحد وغيرها ، والقصيدة معروفة بالرائية :
قال : وأعجب انسانا من الخلق كثرة فلم يغن شيئاً ثم هرول مدبرا
أراد بالإنسان : أبابكر ؛ فإنّه لمّا رأى يوم حنين كثرة المسلمين قال : ( لن نغلب اليوم من قلّة فأصابهم بعينه حتى انكسروا وأثم )(1)
ثمّ قال : وضاقت عليه الارض من بعد رحبها وللنص حكم لا يدافع بالمرا
مراده بالنّص ، قوله تعالى : (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ..) .
ثمّ قال : وليس يـنكر في حـنين فـراره وفي أُحد قد فرّ خوفاً وخيبرا
ومراده : الفرار عادة له فلا تنكره عليه .. ! وهو استهزاء به وتهكّم به .
ثمّ قال :رويـدك إن المجـد حـلو لـطاعم غريب فإن مارسته ذقت ممقرا
وما كل من رام المعالي تحملت مناكبه منها الركام الكنهورا
المعنى : ما أنت يا أبا بكر ! من أهل المعالي , لأنك لست ممن يتحمّل أثقالها ببذل النفس عند الحروب ، وبذل المال في الجدوب.
ثمّ قال :تنحّ عن العـليا يسـحب ذيـلها همـام تـردّى بـالعلى وتأزّرا
المعنى : أنه خاطب أبا بكر وأمره بالتنحّي عن العليا ، فإنها لا تصلح له ، وإنما تصلح لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، الذي تردّى بالعُلى وتأزّر بها .. بأصله وفعله .
ثم قال :فتى لم يعرّق فيه تيم بن مـرة ولا عبد اللاّت الخـبيثة أعـصرا
أخذ يصف أمير المؤمنين عليه السلام بالصفات السلبية الموجبة للنقص ـ وهي مسلوبة عنه وثابتة لأبي بكر ـ في هذا البيت وما بعده تعريف تيم بن مرّة ؛ أرذل قبيلة من قريش ، ومثل عبادة الأصنام .
ثم قال :ولا كـان مـعزولا غـداة بـراءة ولا عـن صلاة أمّ فيهـا مؤخّـرا
فإنّ عزله عن تأدية [ سورة ] براءة (2) ، وعزله و تأخيره عن الصلاة يوم خرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم معصوب الرأس ، وقد أمرته عائشة بالتقدّم فأخّره النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وصلى بهم هو عليه السلام لا ينكره أحد(3) ، ومن لا يصلح لتأدية بعض آيات السورة ، ولا يصلح أن يأم الناس بصلاة واحدة ، كيف يصلح لتأدية جميع الأحكام ؟!! لولا عمي الطغام ، وبلوى الأنام ، وحقدهم على مكسّر الأصنام ، وقاتل آبائهم وأعمامهم .
ثم قال : ولا كان في بعث ابن زيد مؤمّرا عليه فأضحى لابن زيـد مؤمّرا
يقول : إن عليا أمير المؤمنين عليه السلام لم يتأمّر عليه أسامة بن زيد كما كان أميرا على أبي بكر وعمر ، ثمّ صار يؤمّر ابن زيد (4) وذلك عجيب .
ثمّ قال :ولا كان الغــار يهفو جنانه حذارا ولا يــوم العريــش تستّرا
يعني أنّ أبا بكر هفا جنانه .. أي خاف وهو في الغار ، وأمير المؤمنين علي عليه السلام ما هفا جنانه ولاخافه ، وهو على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد قصده قريش يريدون قتله ، وأبو بكر تستّر يوم بدر في العريش ، وأمير المؤمنين عليه السلام يقط رقاب الكفّار ، ويعجّل بأرواحهم الى النار .. فبينهما فرق بعيد (5).
ثمّ قال:إمام هدىً بالقُرص آثـر فـاقتضى له القرص ردّ القرص ابيض أزهرا
القرص الأول والثاني : هو القرص الذي تصدق به أمير المؤمنين عليه السلام على المسكين ، واليتميم والأسير ، فنزل في حقّه وحقّ زوجته وابنيه عليهم السلام سورة « هل أتى »(6) ، والقرص الثالث : يريد به قرص الشمس حين ردّت له ببابل حتى صلى الظهر والعصر (7)، وذلك مشهور لا ينكره مخالف ولا موألف ، وذلك فضل أُختصّ به عليه السلام .
ثمّ قال : يـــزاحمـه جــبريل تحـت عـباءة لها قيل كلّ الصيد في جانب الفـرا
يعنى العباءة الّتي ألقاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أهل بيته : علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ، ثمّ قال : « هؤلاء أهل بيتي فأذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا » فأنزل الله تعالى آية التطهير : (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا).
فقال جبرئيل عليه السلام : وأنا من أهل بيتك يا رسول الله ؟ فقال : « وأنت من أهل بيتي يا جبرئيل »(8).
ومن تأمل هذه القصة و الفضيلة المنيفة التي تضمّنها هذه الآية الشريفة ؛ عرف عصمة أمير المؤمنين عليه السلام وزوجته وولديه عليهم السلام ، وعلم أنه أحق بالخلافة من سائر الناس .
أنظروا الى شعر علامهم المعتزلي أصولا ، الحنفي فروعا .. كيف أمر أبا بكر بالتّنحّي عن المعالي ، يقول : بأيّ سبب تطلب المعالي ـ يا أبا بكر ـ وأنت لم تضرب فيها بعرق ، ولم تحصّلها بسعي ؟! فكيف تطلبها وأنت من تيم بن مرّة أرذل قبيلة من قريش ؟ ، وقد عبدت الأصنام دهرا ًطويلا ، وكنت معزولا عن تأدّي براءة ، وكان أسامة بن زيد أميرا عليك ، وفررت من الزحف يوم خيبر ، وأُحد ، وحنين ، واستحققت بفرارك غضب الله والنار ، كما أخبر الله الجبّار ، و هفا جنانك يوم الغار و بكيت خوفا ، وأخّرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة ، ولا لك فضيلة مذكورة ، ولا منقبة مشهورة ، بل مثالبك لا تحصى لمن أراد الإستقصاء .
وقال في آخرها :
حلفت بمثواه الشريف وتربة أحال ثراها طيب ريّاه عنبرا
لأستنقذنّ العمر في مدحي له وإن لامني فيه العذول فأكثرا
(1)نص على هذا أصحاب التواريخ والحديث ، وأورده الشيخ المفيد رحمه الله في الإرشاد : 71 ، وسيرة ابن هشام 4|140 ، والإمتاع والموانسة : 423 ، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 15|106 ، وكرر ذكره العلامة المجلسي في بحاره 21|146 ، 155 ، 165 وغيرها ، وهو تارة لم يصرح باسمه كما في المورد الأول قال : وكان سبب انهزام المسلمين يوم حنين أن بعضهم قال ـ حين رأى كثرة المسلمين ـ لن نغلب اليوم من قلّة ! فانهزموا بعد ساعة .. الى آخره .
(2) لاحظ قصة بعثه بسورة براءة في المغازي للواقدي : 3|1076 ، المصيف لابن أبي شيبة : 12|84 حديث 12184 ، شواهد التنزيل : 1|51 ـ 231 ، تفسير الطبري : 10|46 ، 47 ، سيرة زيني دحلان : 2|140 ، مسند أحمد : 1|3 ، 151 ، 3|212 ، 283 ، 4|165 ، فضائل أحمد : رقم 69 ، السقيفه للجوهري : 70 ، الخصائص للنسائي : 143 حديث 74 ، الجامع الصحيح للترمذي : 5|636 حديث 3719 ، المناقب المرتضوية للترمذي : 35 ـ 37 ، تفسير ابن كثير : 2|333 ، تاريخ اليعقوبي : 2|76 ، البداية والنهاية : 5|37 ، مجمع الزوائد : 7|29 ، الجامع الصغير : حديث 5595 ، الدر المنثور : 3|209 ـ 210 ، المناقب لابن المغازلي : 221 حديث 267 ، المناقب للخوارزمي : 100 ، الكامل لابن الأثير : 1|644 ، المستدرك للحاكم : 3|51 ـ 52 وفيه : بعث النبيّ أبا بكر وعمر الى الحجّ ، كفاية الطالب : 154 ، تذكرة الخواص : 42 ، راجع للمزيد من المصادر الى ترجمة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام من تاريخ ابن عساكر : 2|371 ـ 391
(3) أنظر صلاة أبي بكر وتنحيه في : تاريخ الطبري : 2|429 ، 437 ، 440 ، السيرة النبوية لابن كثير : 4|460 ، 463 ، 467 ، السيرة الحلبية : 3|349 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 9|196 ـ 198 ، صحيح الترمذي 5|573 ، سنن أبي داود 2|266 ، سنن النسائي 2|10 ، 77 ، 99 ، سنن ابن ماجه 1|389 ، مسند أحمد بن حنبل 1|216 ، 231 ، 256 وموارد أخرى ، وغيرها .
(4) لاحظ إمارة أسامة بن زيد في : المغازي للواقدي : 3|1118 ، تاريخ الطبري : 2|429 ، السيرة الحلبيّة : 3|227 ـ 228 ، السيرة النبويّة لأحمد زيني دحلان : 2|138 ، الكامل لابن الأثير : 1|162 ، طبقات ابن سعد : 2|190 ـ 192 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 1|21 ـ 61 ، 6|52 ، السقيفة للجوهري : 74 .. وغيرها .
(5) انظر : السيرة النبويه لابن هشام : 2|91 ، السيرة النبوية لاحمد زيني دحلان : 1|159 ، تاريخ الطبري : 2|99 ، مورج الذهب : 2|285 ، الكامل في التاريخ : 1|516 ، سيرة ابن إسحاق : 1|462 ، السيرة الحلبية : 2|191 ، فرائد السمطين : 1|330 ، تذكرة الخواص : 40 ، كفاية الطالب : 239 نقلا عن الثعلبي صفحة 7791 ، مسند أحمد 1|330 .. وغيرها .
(6) شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني : 298 ـ 315 الآية 187 ، تفسير غرائب القرآن المطبوع مع تفسير الطبري : 28|112 ، تفسير فخرالدين الرازي : 30|243 ، تفسير الكشاف للزمخشري : 4|197 ، تفسير الثعلبي : 219 ، فرائد السمطين : 2|53 ، اسد الغابة : 5|530 قال : وأخرجه أبو موسى ، المناقب للخوارزمي : 188 ، المناقب لابن المغازلي : 272 حديث 320 ، الدر المنثور : 6|299 عن ابن مردويه عن ابن عباس ، تفسير القرطبي : 19|130 عن الثعلبي ، والنّقاش ، والقشيري ، أسباب النزول للواحدي : 231 .. وغيرها .
(7) لاحظ عن موضوع رد الشمس : تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، 2|283 ـ 305 حديث رد الشمس ، البداية والنهاية : 6|86 ، ميزان الإعتدال : 2|244 ، المناقب لابن المغازلي : 98 حديث 141 ، مجمع الزوائد : 8|296 ، فتح الباري : 6|168 ، مناقب سيدنا علي عليه السلام للعيني : 13 ، المناقب للخوارزمي : 63 ، السيرة النبوية لأحمد زيني دحلان : 2|201 ، فرائد السمطين : 1|146 ـ 148 ، مشكل الآثار للطحاوي : 2|8 ، 388 ، 409 ، فيض القدير : 5|440 ، الصواعق المحرقة : 76 ، راجع المزيد من مصادر الى كتاب الغدير : 3|127 ـ 141 .
(8) وانظر عن حديث الكساء وآية التطهير : مصنّف ابن أبي شيبة : 12|72 حديث 12152 ، وصفحة : 73 حديث 12153 ، المناقب المرتضوية للترمذي : 46 ، الدر المنثور : 5|198 ـ 199 ، السيرة النبوية لأحمد زيني دحلان : 2|300 ، النور المشتعل : 175 ، تفسير الثعلبي : 128 ـ المخطوط ـ ، الجامع الصحيح للترمذي : 5|351 حديث 3205 ، وصفحة : 352 حديث 3206 مع اختلاف يسير ، مسند أحمد : 6|292 ، أسباب النزول للواحدي : 267 ، ذخائر العقبى : 21 ـ 23 ، تفسير الطبري : 22|6 ـ 7 ، مشكل الآثار للطحاوي : 2|334 ، 335 ، الخصائص للنسائي : 30 حديث 11 ، وللمزيد راجع كتاب فضائل الخمسة من الصحاح الستّة : 1|224 ـ 246 .. وغيره وغيرها .