إنتفاضة شعبية، أم فتنة بعثية طائفية؟
بقلم: د. عبدالخالق حسين
في البدء، أود التوكيد على حق الجماهير في التظاهرات السلمية كحق كفله لها الدستور، ووسيلة من وسائل الضغط لتحقيق مطالبها المشروعة. ونؤكد هنا على كلمتين: "السلمية" و"المشروعة"، أي المطالب التي لا تتعارض مع الدستور.
فهل توافرت هذه الشروط في التظاهرات الأخيرة التي جرت في مناطق معينة توصف بأنها مناطق عربية سنية دون غيرها؟
أعتقد أن هذه التظاهرات فقدت صفة السلمية لأنها قامت بسد الطرق الدولية التي تربط العراق بسوريا والأردن، كما واستخدمت فيها الأسلحة النارية في محاولة لاغتيال أحد قادتهم (صالح المطلك) مما يكشف عن الصراعات الحادة بين قادة تلك "الانتفاضة". وهنا من حق الدولة استخدام القوة لحماية السلم الاجتماعي ومصلحة الشعب. ولكن مع ذلك نصح السيد رئيس الوزراء، نوري المالكي، بصفته القائد العام للقوات المسلحة، نصح الجيش والأجهزة الأمنية بضبط النفس والتحلي بالصبر. كما وفقدت التظاهرات مشروعية مطالبها لأن معظمها تهدف إلى إشعال فتنة طائفية يحاسب عليها الدستور الذي صوت عليه الشعب، بغض النظر عن معارضتنا لبعض مواده، إذ يجب العمل بهكذا دستور إلى أن يتم تغييره باستفتاء شعبي.
يحاول البعض من المدافعين عن هذه التظاهرات إضفاء صفة "الانتفاضة الشعبية" عليها، وتبرئتها من دور البعثيين فيها، والإدعاء بـ"ان فلول البعث، وتنظيمات عزت الدوري حاولت، وتحاول ركوب الموجة، وحرف المطالب الشعبية باتجاه عنصري، وطائفي بحديثه، وحديثهم عن الصفوية."
في الحقيقة إن فلول البعث لم يحاولوا ركوب الموجة، بل أن هذه التظاهرات هي من الأساس بعثية المنشأ والتنظيم والأهداف والأغراض، ومن إنتاج فلول البعث ومن يدعمهم في الداخل والخارج، إذ كما قال الإعلامي السيد سالم المشكور: ((أن اسئلتنا تتناول من يوجهون التظاهرات ويحددون شعاراتها ومطاليبها. بيان عزة الدوري المتلفز اعلنها صراحة: هم أيتام النظام البائد الداخلون في العملية السياسية لتخريبها من الداخل، تنفيذا لما تعاهدوا عليه في اجتماعهم في عمان نهاية العام 2009. ذلك الاجتماع الذي عقد في منزل واجهة التمويل العراقية، ساعي البريد المالي بين الخليج وبقايا حزب البعث.
الاجتماع الذي كشف تفاصيله وزير الثقافة الحالي ونشرته احدى الصحف حينها: "فقدنا الامل في إنقلاب عسكري وليس أمامنا سوى التوغل في العملية السياسية والعمل ككتلة واحدة على تخريبها من الداخل". الراعي القطري - التركي كان صاحب هذه الفكرة التي نشهد فصول تطبيقها منذ الانتخابات النيابية ومخاض تشكيل الحكومة مرورا بإعاقة عملها رغم مشاركة "الانقلابيين" فيها بكثافة.))(1) انتهى
فهل ما زلتم تعتقدون أن هذه التظاهرات هي انتفاضة شعبية لتلبية مطاليب الجماهير المشروعة؟
وإليكم بعضاً من هذه المطاليب لنرى فيما إذا كانت حقاً "مشروعة":
"إلغاء قانون مكافحة الارهاب وخاصة المادة 4 إرهاب، اطلاق سراح كل المعتقلين دون استثناء، إلغاء قانون المساءلة والعدالة، إعادة كافة منتسبي جيش صدام دون استثناء، اقرار قانون العفو العام"، أما الشعارات: فهي "إسقاط النظام - إسقاط الدستور". وهتاتفات هابطة مثل: "يا ايران يا ايران جيش محمد هب الآن" إضافة إلى شتائم ذات طابع طائفي مثل: زاحفون إلى بغداد لسحق الخنازير، أولاد الزنا، بغداد إلنا وماننطيها، عبدالزهرة لا يدخل الرمادي، وكذلك رفع علم صدام وصوره وصور أردوغان...الخ (2)
بإختصار: العمل من أجل إعادة حزب البعث للحكم بثوبه القاعدي الوهابي.
وأخيراً جاء خطاب عزة الدوري الذي تضمن كل مطاليب "الإنتفاضة" مما قدم دليلاً ساطعاً على أن هذه التظاهرات هي من صنع فلول البعث، وهي تنفيذ لمخطط ذي أبعاد خطيرة تمهد لعودة البعث وإدخال العراق من جديد في نفق بعثي مظلم من كوارث بعثية معروفة. فأين الشرعية في هذه المطاليب؟
يعترف أحد الكتاب المدافعين عن التظاهرات بقوله "أن رفع علم صدام نذير شؤم بالتحضير لحرب اهلية ثانية لا تبقي ولا تذر". ولكنه في نفس الوقت يدافع عن هذا الشؤم بإيجاد تبريرات له فيقول أنه "دليل على عفوية التظاهرات، وعدم قدرة الداعين اليها على السيطرة عليها". عجبي.
كما ويعترف الكاتب نفسه بدور تنظيمات القاعدة، ومحاولة نقل التجربة السورية، ورفع شعاراتها، وأعلامها الطائفية... ورفع علم اقليم "كردستان"، والتهديد بالاقليم السني...الخ، وأن ".. كل المطالب حتى الآن لها طابع طائفي، ومحلي، بل شخصي. مثل اطلاق سراح حماية العيساوي، والعفو عن الهاشمي، واطلاق سراح "السجينات" والغاء قانون المسائلة والعدالة...".
ونحن إذ نسأل الأخ الكاتب: وبعد كل هذه القائمة الطويلة من الأهداف الطائفية الخطيرة، فماذا أبقيتَ من مشروعية هذه التظاهرات حتى تسميها بـ"الانتفاضة الشعبية؟".
وهل حقاً حصل كل ذلك نتيجة "لعفوية التظاهرات، وعدم قدرة الداعين اليها على السيطرة عليها"؟
وعن موقف الإقليم الكردستاني يقول صاحبنا بحق: "ان صمت المدن الكردية دليل واضح على المكر، والخديعة، ومحاولة ضرب الاطراف ببعضها للاستفادة الانانية والمساومات". ولكن حتى هذا الموقف الانتهازي لقيادة الإقليم يحاول الكاتب إلقاء اللوم فيه على المالكي لأنه: "كسب قيادات المنطقة الغربية قبل فترة عن طريق التحريض على الاكراد، وقياداتهم، واستخدام ضباط جيش النظام السابق، وهم بمجملهم من المنطقة الغربية لكسب المنطقة، وإرهاب الزعامات الكردية، التي استفادت هي بدورها من بعض الضباط الذين كانوا في سوريا."
إذاً، فالمالكي هو السبب والملام في جميع الأحوال، حتى عندما يتخذ إجراءات لمحاربة الإرهاب مثل عمليات دجلة، اعتبر تحريضاً على الأكراد، بل ونقرأ إلقاء اللوم على المالكي حتى عند حصول كوارث طبيعية مثل غرق بغداد بسقوط أمطار غزيرة غير مسبوقة، وحتى خسارة فريق رياضي في سباق دولي.
في الوقت الذي نؤيد فيه الكاتب على: "ان المطالب الشعبية الآنية هي توفير الخدمات، وتحسينها. ابقاء البطاقة التموينية مع تحسينها. القضاء على الفساد، محاربة البطالة، والشروع بالبناء، والعمران، وتوفير الامن والامان، ...الخ"
إلا إننا نتساءل: كيف يمكن للحكومة تحقيق كل هذه المطاليب مع المطالبة بإطلاق سراح جميع السجناء المتهمين بالإرهاب، وإلغاء قانون الإرهاب...
وغيرها من المطاليب التي يطالب بها منظمو "الانتفاضة الشعبية"؟
قلنا مراراً، أن ليس هناك شعب في العالم متجانس أثنياً ودينياً ومذهبياً مائة بالمائة. وهذه الانقسامات أشبه بألغام مدفونة وتبقى خامدة إلى أن يوقظها مشعلو الفتن. ولذلك قيل "الفتنة نائمة ولعن الله من أيقظها". ولكن من الذي أيقظها؟ ليس هناك أشطر من البعثيين وأكثرهم خبرة وخبثاً في إيقاظ الفتن بتفعيل هذه الألغام وتفجيرها في المجتمع في الوقت الذي يناسبهم. لذلك فخطابات أحمد العلواني والشعارات الطائفية التي رفعوها ليست عفوية، بل هي بعثية وهابية بامتياز، يراد منها إشعال حرب أهلية طاحنة على غرار ما يجري في سوريا الآن.
خلاصة القول، إن ما يسمونه بـ"انتفاضة شعبية" هي ليست انتفاضة ولا شعبية، بل فتنة طائفية وراءها البعث والقاعدة، شاركت فيها جهات أجنبية (السعودية وقطر وتركيا) والإعلام العربي، وهي نفس الجهات التي تذبح الشعب السوري الآن، ونفس الجهات التي اغتالت ثورة 14 تموز المجيدة عام 1963، تعود اليوم لتغتال العراق الديمقراطي الجديد. ولكن فاتهم أن العراق اليوم هو ليس سوريا، ولا عراق الستينات. فالانقلابات العسكرية انتهى دورها، وتفجير الوضع من الداخل بشعارات طائفية بات مفضوحاً، وهاهي التظاهرات المضادة انطلقت في البصرة ومطالبها على الضد تماما من مطالب المحافظات الغربية، وهي مجرد البداية، والبقية تأتي في محافظات الوسط والجنوب الأخرى. وهذا بالضبط ما يريده البعث الإرهابي من ردود أفعال لإشعال الفتن الطائفية، لأن البعث لا يمكن له البقاء إلا بالأزمات.
2) فيديو: النائب ياسين مجيد يطالب رئاسة مجلس النواب لمناقشة الشعارات التي رفعها المتظاهرون