إن القرآن يعرفه من خوطب به؛ أي الذين خصهم الله بلطفه وعنايته، وعلى رأسهم النبي صلوات الله عليه، ومن بعد ذلك أهل بيته (عليهم السلام) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.. ولكن هذا لا ينافي أبدا أن نتأمل نحن أيضا في هذه المائدة الربانية.. فصلة الإنسان بالقرآن الكريم، صلة مستمرة إلى ساعة الموت.. من منا لا يحب أن يملأ وقت فراغه بالتدبر والتأمل في كتاب الله عز وجل؟.. فخير ما نتدبر به، هو القرآن الكريم، قال الصادق (عليه السلام): (ما من مؤمن إلا وقد جعل الله له من إيمانه أنسا يسكن إليه، حتى لو كان على قُلّة جبل لم يستوحش).. لو أن إنسانا كان بجوار حكيم من الحكماء؛ فإن هذا الإنسان يتمنى أن يسجن مع هذا الحكيم، حتى يستفيد من محضره؛ فكيف إذا كان كلام أحكم الحاكمين؟!.. والمعالم القرآنية ليست منحصرة في آيات القرآن الكريم، فالقرآن حمال أوجه، وهنالك معان خلف هذه الظواهر القرآنية.. فالمؤمن بإمكانه أن يفسر آية بآية، ويخرج منهما بفائدة جميلة.. رحم الله الطباطبائي، صاحب تفسير الميزان، حيث أن منهجه هو تفسير القرآن بالقرآن.
{أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا}..إن الله -عز وجل- في سورة النبأ، يذكر لنا نعمه الظاهرية، التي منها: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا}؛ الاستفهام للإنكار، والمهاد الوطاء، ويطلق على البساط الذي يجلس عليه، والمعنى: قد جعلنا الأرض قرارا لكم تستقرون عليها، وتتصرفون فيها.. فهذه الأرض المتحركة هادئة جدا، لدرجة أن البعض لم يكن يعتقد أن الأرض تدور، إلا بعد أن جاء العلم الحديث وأرانا حركة الأرض حقيقة.
{وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا}.. وكذلك رب العالمين يذكر الجبال، وبأنه جعلها كالوتد: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا}؛ والأوتاد جمع وتد، وهو المسمار إلا أنه أغلظ منه.. وعن بعضهم: أن المراد بجعل الجبال أوتادا: انتظام معاش أهل الأرض بما أودع فيها من المنافع، ولولاها لمادت الأرض بهم؛ أي لما تهيأت لانتفاعهم.
{وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا}..ثم ينتقل إلى نعمة مادية ومعنوية فيقول تعالى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا}؛ إشارة إلى حقيقة العلاقة بين الزوجين: أي زوجا زوجا من ذكر وأنثى، لتجري بينكم سنة التناسل؛ فيدوم بقاء النوع إلى ما شاء الله.. وقيل: المراد به الاشكال؛ أي كل منكم شكل للآخر.. في عالم الكهرباء، هناك سلكان: إذا قطع أحدهما قطع التيار الكهربائي، بينما عندما يتلاقيان ويوصلان في أي جهاز؛ فإن هذا الجهاز يعمل.. وكأن الله -عز وجل- يريد أن يقول: بأن الزوجة بالنسبة إلى الزوج، هي الجزء المكمل، وكذلك العكس.. ونرى أن الزواج بالنسبة إلى الرجال، هو إكمال لنصف الإيمان، إذا تزوج الرجل فقد أحرز نصف دينه؛ لأن هذا النصف كان متجمدا ومتخلخلا، ويمكن أن يجر الشخص إلى خلاف الشريعة.. ولهذا عندما يتزوج يستقر ويرتاح، فالزواج يمتص منه الشحنة الغريزية وينتهي الأمر.
إن رب العالمين عندما خلق الزوجية بمعنى الرجولة والأنوثة، جعل هنالك جسما رجوليا، وجسما أنثويا بما لهما من خاصيات، وجعل فيما بينهما خاصية التجاذب أيضا.. ولهذا عندما يعقد رجل على امرأة، يصبح وكأن بينهما معرفة قديمة رغم مرور ساعات فقط على العقد.. فهذه من آيات الله عز وجل {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.. وهذه المودة ليست فقط مودة جنسية غريزية، بل هي مودة مقدسة {لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}؛ السكون حالة روحية، حتى وإن كانت الزوجة في بلد والزوج في بلد، فمجرد الاتصال بينهما يجعلهما في أعلى درجات الحب والأنس.
إن الله -عز وجل- هو الذي جعل المودة والرحمة، أما الذي يوجب تشتت العائلة، وهدم العش السعيد، فهو العبد.. وذلك بسبب سوء أعماله؛ مما يوجب سلب هذه المودة والرحمة.. فرب العالمين هو الذي جعل هذه المودة، وبإمكانه أن يسلبها من الإنسان، عندما يكفر بهذه النعمة.. مثلا: شاب له هفواته الشبابية، رب العالمين يقول لملائكته: أمهلوا عبدي، فما فعله قبل زواجه؛ هو بفعل غريزته المتأججة.. أما إذا تزوج ومنّ عليه رب العالمين بزوجة صالحة، ولكنه لم يقدر هذه النعمة، وما اتخذها سكنا، ومعينة إلى الله -تعالى-؛ من الممكن أن تسلب هذه المودة.. ولهذا بعد أن كانا في قمة التآلف، يصبح بينهما خلافات كبيرة؟..
فإذن، إن الذين يريدون أن يبقوا هذا العش هادئا، عليهم أن يلتفتوا بأن جاعل المودة هو السالب لها.. وهنا نذكر مطلبا قرآنيا جميلا، وهو أن علاقة النبي بالأمة، هي علاقة مودة {قُل لّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}، والنبي على رأس القربى.. علاقتنا بالنبي علاقة مودة، وعلاقة المؤمنين فيما بينهم علاقة رحمة {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}.. أما علاقة الزوجين فيما بينهما، هي علاقة مودة ورحمة.. يا لها من أسرة مباركة!.. نفهم من بعض الروايات: إن أفضل نعمة بعد نعمة الإيمان، هي أن يوهب الإنسان بزوجة صالحة.. قال رسول الله (صلى الله عليه واله): (ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله -عز وجل- خيراً له من زوجة صالحة؛ إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله).
إن بعض الأمور تجارب.. هنالك آيات، وهنالك حكم، وهنالك أمور نفهمها من تجارب الحياة.. يقول تعالى في كتابه الكريم: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}.. بعض الناس يخافون الفضيحة الاجتماعية، تراه ينظر إلى زاوية، ولكنه في نفس الوقت ينظر إلى زاوية أخرى؛ هو حسب الواقع عينه تخون، مع أنه يضمر في نفسه مشاعر طيبة.. ليس هناك فقيه يقول: بأن الخيال المحرم حرام.. فالحرام ليس له أي أثر خارجي، ولكن المشكلة أن الخيال يغير التركيبة الداخلية، من كثرة تخيل الحرام.. حيث أن الغدد، والهرمونات الداخلية؛ تفرز بشكل غير طبيعي.. والذين يذهبون في هذا الوادي، وخاصة إذا كانوا سببا في انحراف الغير؛ فإن أول عقوبة لهم في الدنيا، هي أن يحرم العائلة المستقرة، أو يبتلى بالعقم -مثلا-، أو بذرية تسير في نفس الدرب.