لا نعلم ما لذي دفع كثيراً من المراقبين للشؤون السعودية الاتفاق على رأي واحد بأن ثمة ضياعاً استراتيجياً تشهده المملكة هذه الأيام، برغم من المكاسب السياسية الظاهرية في أكثر من موقع (إسقاط حكم الاخوان في مصر، سقوط نظام القذافي المنافس والخصم لآل سعود، احتواء ثورة اليمن، إسقاط حكومة نجيب ميقاتي التي كان يطلق عليها حكومة حزب الله في لبنان، الامساك بزمام المبادرة في سوريا، التدخل العسكري في البحرين، توجيه ضربات قاصمة للوضع الأمني في العراق عبر قافلة السيارات المفخّخة التي تتهم الاجهزة الامنية والسياسية العراقية الاستخبارات السعودية بالوقوف وراءها)..
في الحسابات التكتيكية والآنية، تبدو السعودية رابحة الى حد ما، ولكن في الحصاد الاستراتيجي تعيش السعودية ذهولاً بل ضياعاً أفقدها القدرة على التمييز بين ماهو تكتيكي وبين ما هو استراتيجي، فما تظنه ربحاً طويل الأمد تكتشف بعد فترة قصيرة بأنه ليس كذلك.
واجهت السعودية تحديات كبيرة إبان اندلاع الربيع العربي، ولذلك قادت الثورة المضادة منذ البداية اعتماداً على ثلاث استراتيجيات:
استراتيجية الاحتواء كما حصل في اليمن عن طريق المبادرة الخليجية، والتي هي في المضمون مبادرة سعودية، ويراد منها تقويض أسس الثورة الشعبية في اليمن ومطالبها العادلة..
استراتيجية التدخل العسكري المباشر، كما في البحرين، تحت شعار حماية المنشآت الحكومية من التخريب، وليس الهدف سوى إخماد الحراك الشعبي وحماية النظام الخليفي من السقوط.
استراتيجية دعم الجماعات المسلحة بالمال والسلاح والأفراد كما حصل جزئياً في ليبيا وأخذ شكله الفاقع والعلني في سوريا..
مثّل سقوط الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي والرئيس المصري مبارك، الذي ربطته بالرياض تحالفات قوية، جرس انذار مبكّر لجهة الدخول في مواجهة مع متغيرات ثورية قد تؤدي في حال تدحرجها الى تقويض أسس النظام السعودي وتحويله الى شاذ وسط دول ديمقراطية. ومع انتشار الاضطرابات وثقافة الاحتجاج في العالم العربي، استشعرت الرياض الخطر الناجم عن مسار الربيع العربي الذي امتد الى كل من اليمن والبحرين وسوريا. ولعل هذا ما أشار اليه ولي العهد الأمير سلمان بن عبد العزيز في اليوم الوطني في 23 سبتمبر والذي يعكس حالة التوتر وطبيعة التحدي الذي واجهه النظام السعودي حين لفت الى ما اعتبره خسارة المراهنين على انتقال الاضطرابات والاحتجاجات الى السعودية بفضل ما وصفه وعي الشعب السعودي، وسرعة الاستجابة في التعامل مع عوامل الاضطراب التي ألمح فيها الى الدور الايراني المحتمل، ودعا الشعب الى ضرورة الصبر خاصة وان المملكة والمسؤلين يعملون الان على تطوير البنى التحتية والتعامل مع المطالب الاجتماعية والاقتصادية.
في الواقع، عملت السعودية طيلة الاعوام الثلاثة الماضية، أي منذ اندلاع ثورة تونس في نهاية العام 2010 على قاعدة استغلال الفرص لمواجهة التحديات، فهناك فرص صنعها الربيع العربي كما حصل في ليبيا وسوريا، وهناك تحديات فرضتها ثورات تونس ومصر واليمن والبحرين، خصوصاً وأن هذه الدول إما كانت على علاقة وثيقة مع النظام السعودي أو أنها قريبة من حدوده الجغرافية ما يجعل تأثيراتها على الداخل كبيراً، الى جانب بطبيعة الحال صعود القوى الديمقراطية والاسلامية في مصر، والخشية من ارتداد ذلك على الساحة السعودية والدور الاقليمي والقيادي للمملكة.
السياسة الخارجية السعودية تفاعلت سلبياً مع الربيع العربي؛ ففي الوقت الذي اتخذت فيه موقفا سلبياً من الثورة المصرية في فبراير 2011 على أساس أن الرئيس المصري المعزول حسني مبارك كان يمثل حليفاً استراتيجياً للرياض، وإن سرعة تخلي واشنطن عنه بعث مخاوف كامنة لدى الرياض من أن يأتي يوم وتفعل واشنطن الشيء ذاته معها. أما بالنسبة للثورة الليبية، فكان الموقف السعودي إيجابياً، بلغ حد تقديم الدعم لقرارات الجامعة العربية التي مهدت للتدخل الدولي، هو الموقف ذاته للرياض من الازمة السورية على الرغم من انه اتسم في البداية ببعض التحفظ والعمل من وراء ستار، فيما كان القطري والتركي يندفعان بلا هوادة في تشجيع المسلّحين ونقل الاموال والأسلحة الى داخل سوريا.
لم يكن آل سعود واثقين من قدرتهم على ضبط الداخل والتدخل المباشر في سوريا، ولذلك التزموا في البداية بتدابير صارمة فيما يرتبط بحملات التبرع وقاموا بالتحقيق مع المشايخ وأوقفوا كل أشكال الدعم غير المنضبطة والخاضعة تحت سيطرتهم..
ولكن بعد مرور ما يقرب من سنتين ونصف السنة على الأزمة السورية، تجد السعودية نفسها أمام تحديات وليس فرص، فليبيا تتعرض لعملية تفتيت، ومصر التي شجّعت الضباط على الانقلاب على حكم الاخوان، إلا أنها لا تشعر في قرارة نفسها بأنها غير قادرة على أن تحكم هذا البلد الكبير في شعبه ومساحته ودوره الاقليمي..
إذن، ما لذي يميّز السعودية اليوم عن غيرها من دول المنطقة والعالم، هل هو النفط؟، فماذا لو صدقت التوقّعات بأن يدخل عامل النفط الصخري كمنافس في أسواق النفط العالمية، وبالتالي تحرر الولايات المتحدة، المستورد الأكبر للنفط السعودي، بما يفضي الى انهيار الاسعار وتراجع مستوى الطلب بوتيرة دراماتيكية..
لا شك أن صنّاع السياسة الخارجية السعودية باتوا في حالة من الترهل والجمود بفعل التطورات المتلاحقة، فبين سياسة الهجوم التي اتبعتها السعودية بعد فترة قصيرة من اندلاع الربيع العربي، وبين التبدّلات الدراماتيكية في المشهد الاقليمي والدولي عقب الغاء الضربة العسكرية الاميركية، بدت السياسة الخارجية السعودية وكأنها في سباق مع رهانات بترية إما أن تحقق ربحاً صافياً أو تؤول الى خسارة فادحة..
يقول العارفون بأن السياسة الخارجية السعودية هي انعكاس لسياستها الداخلية، فالتخبط الذي تعاني منه في الداخل انعكس على ادائها في الخارج أيضاً، فهي لا تملك أفقاً استراتيجياً، ولا تستوعب حجم وأبعاد المتغيرات الاقليمية والدولية، بحيث وجدت نفسها بين عشية وضحاها أمام معادلات جديدة لم تتقن فن التعامل معها، فجاءت قراراتها مرتبكة ومتخبطة.
بدا الارباك واضحاً منذ قرار الغاء كلمة سعود الفيصل، وزير الخارجية في الامم المتحدة، ثم قائمة الالغاءات المتلاحقة، من بينها الغاء زيارة الرئيس اللبناني ميشال سليمان للرياض قبل أيام قليلة من موعد الزيارة، ثم تلاها الغاء الرئيس الايراني حسن روحاني الزيارة بعد أن تبيّن أن القيادة السعودية غير جاهزة لاستقباله والتباحث في الملفات الساخنة.
فور بدء مؤشرات التقارب الايراني الاميركي/الأوروبي والتفاهم الأميركي الروسي بخصوص الكيماوي السوري، بدأت السعودية تتصرف من وحي المتغيرات الجديدة، وفقدت قدرتها على صنع المبادرة، بل شعرت كما لو أنها تلقت طعنة في الظهر من قبل حليفها الأميركي، فراحت هي ودول خليجية أخرى تعوّل على الدور الاسرائيلي...
أما سورياً، فسعّرت من حمى المواجهات المسلّحة على أمل النجاح في تخريب مؤتمر جنيف 2. واعتقدت لبعض الوقت بأن المال الذي بيدها يكفي لشراء كل شيء وكل شخص مهما علا، بما في ذلك الرئيس الأميركي نفسه. وقد أوحى رئيس الاستخبارات العامة بندر بن سلطان الى الملك وكبار الأمراء في أسرته المالكة بأنه قادر على التأثير في صنّاع القرار في الادارة الأميركية، ولكن تبيّن بعد التسوية الكيماوية والتقارب الاميركي الايراني بأن لا بندر ولا حتى نتنياهو قادر على وقف مسار التقارب إذا كان يحقق المصالح الاميركية.
تقول مصادر مقرّبة من الملك عبد الله بأن الحساب المالي المفتوح للأمير بندر للقيام بكل ما من شأنه التحريض على الحرب في سوريا قد أغلق مؤخراً بقرار من الملك، بل ثمة كلام عن استبعاده تدريجاً عن الساحة، في حال انسداد أفق الحرب على سوريا، وانطلاق قطار التسوية بين الكبار، وهو ما يدفع الملك لأن يؤجّل أي حديث عن ملفات إقليمية بما في ذلك ملف تشكيل الحكومة اللبنانية الى حين انجلاء صورة الوضع في المنطقة..
السعودية تبنت خياراً واحداً واعتقدت بأن واشنطن تفعل الشيء ذاته، ولكن اكتشفت بأن أوباما لايزال متمسّكاً بقرار سحب الجيوش الاميركية من الخارج، وأنه وعد ناخبيه بانهاء حروب أميركا في الخارج، وأن مشاركة بلاده في الحرب على ليبيا كان محدوداً، بخلاف الحرب على سوريا التي لن تكون محدودة لا في الزمان ولا في المكان، فضلاً عن هذا وذاك فإن سوريا لم تعد دولة بل هي معادلة، وإن الحرب عليها يعني الحرب على معسكر في محاولة تغيير معادلة دولية قائمة، تعتبر روسيا مكوّناً رئيساً فيها..
اكتشفت السعودية بأنها في نهاية المطاف تسير عكس التيار، وهي التي كانت ترى في نظام بشار الأسد، والمعسكر الذي ينتمي اليه، أي إيران والعراق وحزب الله، هو من يسير عكس التيار. استفاقت الرياض على حقائق جديدة لا تريد الاعتراف بها، رغم أنها تعبر عن إتجاه دولي عام تقوده الولايات المتحدة وروسيا ومجموعة البريكس والدول الدائمة العضوية في مجلس الامن الدولي..
رهنت السعودية سياستها الخارجية الى خيار الحرب، بناءً على أن الحرب واقعة، وأن أيام النظام السوري باتت معدودة، ولا مجال للحديث عن تسويات، ولكن بين عشية وضحاها، وجدت السعودية نفسها وحيدة في الميدان، لأنها كانت ولا تزال مجرد أمين صندوق، أو صرّاف آلي ولا دور ميداني لها..
حاولت السعودية العمل على إفساد المناخ التصالحي الاقليمي والدولي، فقد واجهت التقارب الروسي الأميركي وما يترتب عليه من استعدادات لمؤتمر جنيف 2 لحل الأزمة السورية، بتفجير ظاهرة الانشقاقات حيث انفصلت 13 مجوعة من المجموعات المسلّحة عن الائتلاف السوري المعارض.
منذ سقوط حكم الاخوان في مصر، وجدت الرياض نفسها في مواجهة مباشرة مع قطر وتركيا، واندفعت بقوه لدعم جهود الحرب الأميركية مع النظام السوري على خلفية مزاعم استعماله للاسلحة الكيماوية في الغوطة مستعينة بالالتزام الأمريكي، ونشطت دبلوماسية المال تجاه موسكو وواشنطن واوروبا، بهدف الحاق الهزيمة بطهران ودفعها للانكفاء بعيداً عن سوريا والعراق والخليج، الا ان الحسابات الأمريكية والروسية والأوراق التي تملكها طهران حدَّ من قدرة الرياض على الاستمرار في ذات الاتجاه، بل أوصلها الى حائط مسدود. فلا هي قادرة على المضي في قرار الحرب، لأن كل المعنيين به سحبوه من التداول الاعلامي والسياسي والعسكري، ولا هي قادرة على التكيّف مع الاوضاع الجديدة لأنها تخسر مصداقيتها أمام من أوحت إليهم بأنها بمفردها ستنزل الهزيمة بالنظام السوري، وأنها صانعة المبادرة والمالكة لزمامها..في الواقع لم تكن تريد أن يشعر حلفاؤها بأنها مجرد تابع للآخرين، وأنها مضت مع قرار الحرب حين صنعه الكبار في الغرب، وها هي تتبنى خلافه حين تنصلوا هم منه.