(وأُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله)(4).
وقال:
(يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين)(5).
وقال:
(إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين)(6).
وزعمتم أن لا حظوة لي!(7).
ولا إرث من أبي!
أفخصّكم الله بآية أخرج أبي منها؟
أم تقولون: إن أهل ملتين لا يتوارثان؟
أوَلست أنا وأبي من أهل ملَّة واحدة؟
أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟
فدونكها مخطومة مرحولة(8).
تلقاك يوم حشرك. فَنِعم الحَكَم الله.
والزعيم محمد. والموعد القيامة.
وعند الساعة يخسر المبطلون.
ولا ينفعكم إذ تندمون.
ولكل نبأ مستقر، فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يُخزيه، ويحلّ عليه عذاب مقيم.
ثم رَمَتْ بِطَرفها نحو الأنصار فقالت:
يا معشر النقيبة وأعضاد الملَّة
وحَضَنَة الإسلام(9).
ما هذه الغَميزة في حقي؟(10).
والسِّنَة عن ظلامتي؟
أما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبي يقول:
(المرء يُحفظ في وُلده)؟
سرعان ما أحدثتم وعجلان ذا إهالة
ولكم طاقة بما أُحاول
وقوة على ما أطلب وأُزاول(11)
أتقولون: مات محمد (صلى الله عليه وآله)
فخطب جليل استوسع وهنة(12)
واستنهر فتقه(13) وانفتق رتقه
وأظلمت الأرض لغيبته وكسفت النجوم لمصيبته
وأكدت الآمال(14) وخشعت الجبال
وأُضيع الحريم(15) وأُزيلت الحرمة عند مماته
فتلك - والله - النازلة الكبرى(16)
والمصيبة العظمى لا مثلها نازلة
ولا بائقة عاجلة(17)
أعلن بها كتاب الله - جلّ ثناؤُه - في أفنيتكم(18)
في ممساكم ومصبحكم هتافاً وصراخاً
وتلاوة وألحاناً ولَقبلَه ما حلَّ بأنبيائه ورُسله
حكم فصل، وقضاء حتم
(وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين)(19).
شرحها
(يا بن أبي قحافة) هنا وجّهت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) خطابها إلى رئيس الدولة، ولم تقل له: يا خليفة رسول الله لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يستخلفه، ولم تخاطبه بالكنية (يا أبا بكر) لأنه تعظيم له، وإنما قالت له: يا بن أبي قحافة. وسيتضح لك وجه هذا النسب، في المستقبل في شرح كلماتها مع زوجها أمير المؤمنين (عليه السلام).
(أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟) بأي قانون ترث أباك إذا مات ولا أرث أبي إذا مات؟؟ هل تعتمد على كتاب الله في منعي عن إرث أبي؟
(لقد جئت شيئاً فرياً) لقد جئتَ بافتراء عظيم، وكذب مختلق على القرآن.
لقد ذكرنا - فيما مضى - أن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) كانت تستحق فدكاً عن طريق النحلة وعن طريق الإرث، فلما طالبت بفدك عن طريق النحلة وأقامت الشهود على ذلك صنعوا ما صنعوا والآن جاءت تطالب بفدك عن طريق الميراث.
(أفعلى عمدٍ تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم) أليس هذا القرآن موجوداً عندكم؟ فلماذا تركتم العمل به وطرحتموه وراءكم؟
(إذ يقول: وورث سليمان داود) أليس هذا تصريحاً بقانون التوارث والوراثة بين الأنبياء؟ أما كان سليمان وابنه داود من الأنبياء؟
إن السيدة فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فهمت من الآية أن معنى: (وورث سليمان داود) هو إرث المال، وهكذا فهم أبو بكر وهكذا جميع المسلمين الحاضرين يومذاك وهم يستمعون إلى كلام السيدة فاطمة، هؤلاء كلهم قد فهموا أن المقصود من الإرث في هذه الآية هو إرث المال، ومعنى ذلك أن سليمان ورث أموال أبيه داود، ولم يفهموا غير هذا.
وهكذا الكلام في قوله تعالى - فيما اقتص من خبر زكريا -: (فهب لي من لدنك وليّاً يرثني ويرث من آل يعقوب) إن زكريا (عليه السلام) سأل الله تعالى أن يرزقه ولداً يرثه المال.
ولكن بعد قرون عديدة جاء المدافعون عن السلطة، فقالوا: في تفسير الآيتين: ورث سليمان داود العلم لا المال، وهكذا: ولياً يرثني العلم لا المال، وهم يقصدون بهذا التفسير تأييد الذين حرموا السيدة فاطمة من ميراث أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله).
ولا بأس أن نتحدث - بما تيسر - حول الآيتين لعلنا نصل إلى نتيجة مطلوبة:
أولاً: لفظ الإرث والميراث يستعمل شرعاً وعرفاً ولغة في المال، فإذا قلنا: فلان وارث فلان. فالظاهر أنه وارثه في المال. لا أنه وارثه في العلم أو المعرفة، إلا إذا كانت هناك قرينة أي دليل يدل على إرث العلم والمعرفة كقوله تعالى: (وأورثنا بني إسرائيل الكتاب) وقوله: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا).
فأما قولـه: (وورث سليمان داود) فالمقصود إرث المال لا إرث العلم والملك وما شابه، لأن سليمان كان نبياً في حياة أبيه داود، كما قال تعالى - في قصة الزرع الذي نفشت فيه غنم القوم - (ففهَّمناها سليمان وكلاّ آتينا حكماً وعلماً..)(20)
وقد ذكر الزمخشري في الكشاف ج23 في تفسير قوله تعالى: (إذْ عُرض عليه بالعشي الصافنات الجياد) روي أن سليمان غزا أهل دمشق ونصيبين فأصاب ألف فرس، وقيل: ورثها من أبيه، وأصابها أبوه من العمالقة، وقال البيضاوي: وقيل أصابها أبوه من العمالقة فورثها منه فاستعرضها.. الخ.
فإنك تجد أن سليمان ورث أباه داود تلك الخيول والأفراس، وورثه غيرها من التركة والأموال التي تركها داود، وبهذين القولين ثبت أن سليمان لم يرث العلم والنبوة من أبيه داود لأن سليمان كان نبياً في زمان أبيه داود كما كان هارون نبياً في زمان أخيه موسى بن عمران (عليهما السلام) وثبت أيضاً أن سليمان ورث أباه داود المال.
وأما ما يتعلق بدعاء زكريا (عليه السلام) ربه: (فهب لي من لدنك وليّاً يرثني) فقد قال بعض الشواذ: يرثني نبوتي، فهو يريد نفي الوراثة عن الأنبياء، ولكن الآية الكريمة بنفسها تكشف الحقيقة عن مراد زكريا.
فقوله: (واجعله رب رضياً) يدل على أنه ليس المقصود إرث النبوة لأنه يكون المعنى أن زكريا سأل ربه أن يهب له ولياً يرثه النبوة ويكون ذلك الولي مرضياً عند الله، وهذا كقول القائل: اللهم ابعث لنا نبياً واجعله عاقلاً مرضياً في أخلاقه، وهذا لغو وعبث، ولا يستحسن من زكريا أن يسأل ربه أن يجعل ذلك النبي رضياً أي مرضياً في أخلاقه، لأن النبوة أعظم من هذه الصفات، وجميع هذه الصفات تندرج تحت النبوة، وقد قال فخر الدين الرازي: إن المراد بالميراث في الموضعين (الآيتين) هو وراثة المال.
وللمفسرين كلام حول دعاء زكريا (عليه السلام) لا بأس بذكره ملخصاً:
قال الطبرسي في (مجمع البيان) في تفسير الآية: ويقوّي ما قلنا أن زكريا صرّح بأنه يخاف بني عمه بعده بقوله: (وإني خفت الموالي من ورائي) وإنما يطلب وارثاً لأجل خوفه، ولا يليق خوفه منهم إلاّ بالمال دون النبوة والعلم، لأنه (عليه السلام) كان أعلم بالله تعالى من أن يخاف أن يبعث نبياً من ليس بأهل للنبوة، وأن يورث علمه وحكمته من ليس لهما بأهل، ولأنه إنما بُعث لإذاعة العلم ونشره في الناس فكيف يخاف من الأمر الذي هو الغرض في بعثته؟
فإن قيل: إن هذا يرجع في وراثة المال، لأن في ذلك إضافة الضن والبخل إليه، قلنا: معاذ الله أن يستوي الأمران، فإن المال قد يُرزق به المؤمن والكافر والصالح والطالح، ولا يمتنع أن يأسى على بني عمه إذا كانوا من أهل الفساد أن يظفروا بماله فيصرفوه فيما لا ينبغي، بل في ذلك غاية الحكمة، فإن تقوية الفسّاق وإعانتهم على أفعالهم المذمومة محظورة في الدين، فمن عدّ ذلك بخلاً وضناً فهو غير منصف وقوله: (خفت الموالي من ورائي) يفهم منه أن خوفه إنما كان من أخلاقهم وأفعالهم ومعاني فيهم لا من أعيانهم.
لقد تلخص من مجموع الأقوال أن المقصود من الوراثة في آية سليمان بن داود وآية زكريا هو وراثة المال، والنتيجة أن الوراثة كانت بين الأنبياء.
(وقال: وأُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) أي وذوو الأرحام والقرابة بعضهم أحق بميراث بعضهم من غيرهم، وهذه الآية عامة في التوارث بين الأرحام والأقارب.
(وقال: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأُنثيين) أي يأمركم الله ويفرض عليكم في توريث أولادكم إذا متّم للابن مثل نصيب البنتين وهذه الآية أيضاً عامة في جميع المسلمين بلا تخصيص للأنبياء إنهم لا يورّثون أولادهم.
(وقال: إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين) إن الآية هكذا: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً..) أي إن ترك مالاً، وهذه آية ثالثة عامة في الوراثة وليس فيها تخصيص للأنبياء أو نفي الوراثة بين الأنبياء.
(وزعمتم أن لا حظوة لي) أي ادَّعيتم أن لا نصيب ولا منزلة لي (ولا إرث من أبي) رسول الله (صلى الله عليه وآله) (ولا رحم بيننا) ولا قرابة ولا صلة لأنكم أنكرتم الوراثة الثابتة بيني وبين أبي، فقد أنكرتم كل صلة وعلاقة وقرابة بيني وبين أبي.
(أفخصَّكم الله بآية أخرج منها أبي) وفي نسخة: (أَفَحَكَم الله بآية) إن آيات الإرث عامة وشاملة لجميع المسلمين، فهل استثنى الله أبي من آيات الإرث فلا وراثة بين النبي وأهله؟
(أم تقولون: إن أهل ملَّتين لا يتوارثان) فالكافر لا يرث المسلم؟
(أو لست أنا وأبي من أهل ملَّة واحدة؟) هل تشكون في إسلامي وكوني مسلمة، وعلى شريعة الإسلام؟
يا للمصيبة! لقد بلغ الأمر ببضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وابنته الوحيدة وسيدة نساء العالمين أن تتكلم هكذا، وتحتج بهذا المنطق؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
(أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟) إنّ آيات الإرث عامة فإن كانت مخصَّصة للرسول كان الرسول يعلم ذلك، ويخبر ابنته مع العلم أنه (صلى الله عليه وآله) لم يخبر ابنته ولا غيرها من الناس بهذا الحكم الخاص، وهل من المعقول أن يُخفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذا الحكم من ابنته مع شدة اتصالها به وكثرة تعلقه بها، وشدة الحاجة إلى بيان الحكم لها لئلا تطالب بالإرث بعد وفاة أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله).
تقول السيدة فاطمة أم تقولون: أنكم أنتم أعلم بالقرآن وآياته الخاصة والعامة من أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي نزل القرآن على قلبه؟ أم أنتم أعلم من ابن عمي علي بن أبي طالب باب مدينة علم الرسول إذا لو كان الأمر هكذا لكان زوجي يخبرني، وما كان يأمرني أن أحضر في المسجد وأطالب بحقوقي وإرث أبي.
هذه جميع الصُور التي يمكن أن يتصورها الإنسان في هذه المسألة، وكلها منتفية، وإذن فالقضية سياسية، وليست دينية، بل هي مؤامرة ضد آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومحاربة اقتصادية لتضعيف جانبهم الاقتصادي.
(فدونكها مخطومة مرحولة) إلى هنا كان الخطاب عاماً لجميع المسلمين الحاضرين في المسجد وهنا وجهّت خطابها إلى رئيس الدولة وحده، وقالت: (فدونكها) أي خذها، خذ فدك وشبّهت فدك بالناقة التي عليها رحلها وخطامها، والرحل للناقة كالسرج للفرس، والخطام: الزمام، والمقصود: خذ فدك جاهزة مهيأة، وفي هذا الكلام تهديد، وهذا كما يقال للمعتدي: افعل ما شئت، وانهب ما شئت هنيئاً مريئاً.
ولهذا أردفت كلامها بقولها: (تلقاك يوم حشرك) إشارة إلى أن الإنسان يرى أعماله يوم القيامة قال تعالى: (ووجدوا ما عملوا حاضراً).
(فنِعم الحَكم الله) في ذلك اليوم الحكم لله الواحد القهار، لا لك، الذي لا يجور، الذي لا يخفى عليه شيء من مظالم العباد.
(والزعيم محمد) المحامي الذي يخاصمك هو سيد الأنبياء، وهو أبي، يطالبك بحق ابنته فاطمة.
(والموعد القيامة) وهو يوم الفصل الذي كان ميقاتاً، وعند الله تجتمع الخصوم.
(وعند الساعة يخسر المبطلون) يخسر الذين ادّعوا الباطل، وادّعوا ما ليس لهم.
(ولا ينفعكم إذ تندمون) لا ينفع الندم في ذلك اليوم، إذ الإنسان قد يندم في الدنيا على عمله فينفعه الندم إذ إنه لا يعود إلى ذلك العمل، ولكن في القيامة لا ينفع الندم إذ لا عمل هناك وإنما هو الحساب.
(ولكل نبأ مستقر فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم) وهذا تهديد بعذاب الآخرة، الدائم المستمر.
ثم رَمَتْ بطرفها نحو الأنصار وهم أهل المدينة الذين نصروا رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما هاجر من مكة إلى المدينة، واستنصرتهم بعد أن ذكّرتهم بسوابقهم المشرقة في عهد الرسول.
وقالت: (يا معشر النقيبة) أيتها الطائفة النجيبة، وفي نسخة: (يا معاشر الفتية) نسبت إليهم الفتوة والشهامة كي تهيّج عزائمهم وعواطفهم.
(وأعضاد الملة) أعوان الدين.
(وحضَنَة الإسلام) أيها المحافظون على الإسلام، احتضنتم الإسلام كما تحتضن المرأة ولدها أو كما يحتضن الطائر بيضه.
(ما هذه الغميزة في حقي؟) ما هذا التغافل والسكوت عن حقي؟
(والسِنة عن ظلامتي؟) السنة - بكسر السين - الفتور في أول النوم. والظلامة: ما أخذه الظالم منك فتطلبه عنده، وتصف فاطمة الزهراء (عليها السلام) سكوتهم عن إسعافها بالسنة التي هي مقدمة للنوم الذي يفقد النائم فيه الشعور.
نعم، إنه موت الضمير، وتعطيل الإحساس، وركود العاطفة، وفقد الإنسانية.
(أما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبي يقول: المرء يُحفَظ في ولده؟) أي تحفظ كرامة الإنسان بحفظ كرامة أولاده ورعاية حقوقهم، كما قيل: (لأجل عين ألف عين تُكرم) أليس رسول الله أبي؟ ألستُ ابنته؟ أما ينبغي لكم أن تحترموا مكانتي لأجل رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وفي نسخة: (أما كان لرسول الله أن يحفَظ في وُلده؟) أما كان يستحق رسول الله أن تحفظ كرامته في أولاده وذريته؟
(سرعان ما أحدثتم) تتعجب السيدة فاطمة الزهراء من إسراعهم في إحداث الأمور، والاعتداء على آل الرسول (صلى الله عليه وآله).
(وعجلان ذا إهالة) هذه الكلمة تشير إلى قضية ويضرب بها المَثَل، وهي أن رجلاً كان له نعجة عجفاء هزيلة، يسيل مخاطها من منخريها، فقيل له: ما هذا؟ قال: سرعان ذا إهالة. والإهالة: الشحم، أو الشحم المذاب، وتستعمل هذه الكلمة لمن يخبر بالشيء قبل وقته، والمقصود: إنكم دبَّرتم الأمور ضدّنا بكل استعجال وبكل سرعة.
(ولكم طاقة بما أُحاول) عندكم قدرة وإمكانية لإسعافي ومساعدتي ونُصرتي في استرجاع حقوقي المغصوبة التي أقصد استردادها.
(وقوة على ما أطلب وأُزاول) لستم ضعفاء عاجزين عن حمايتي والدفاع عني، فما عذركم، ما سبب سكوتكم؟ ما هذا التخاذل؟
(أتقولون: مات محمد) ومات دينه، وماتت كرامته وحرمته، وماتت المفاهيم المثلى، وخلى الجو؟ أهذا جرّأكم علينا أهل البيت؟
(فخطب جليل) فأمر عظيم شديد، لأن موت العظماء عظيم، وفي نسخة: (أتزعمون مات رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيتم دينه، ها أن موته لعمري خطب جليل) ثم جعلت (عليها السلام) تصف فظاعة المصيبة ومدى عظمتها، وتأثيرها في النفوس، فقالت:
(استوسع وهنه) وفي نسخة: (استوسع وهيه) كالحصن الذي اتّسع شقه (واستنهر فتقه) كالطعنة التي توسع الشق في البدن.
(وانفتق رتقه) انشق المكان الملتئم منه، والضمائر الثلاثة في وهنه وفتقه ورتقه تعود إلى الخطب.
(وأظلمت الأرض لغيبته) من الطبيعي أنه كان نوراً تستضيء به الأرض ومن عليها وبوفاته أظلمت الأرض، وتجد في القرآن آيات كثيرة تعبّر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالنور كقوله تعالى: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين)(21).
(وكسفت النجوم لمصيبته) إن الضوء الذي تراه على وجه القمر وعلى بقية النجوم ما هو إلا انعكاس لنور الشمس على القمر والنجوم، فإذا زال نور الشمس انكسفت النجوم وزال عنها الضوء.
(وأكدت الآمال) أي انقطعت الآمال التي كانت منوطة برسول الله (صلى الله عليه وآله) بسبب وفاته، وذلك كما يقال: خابت الظنون وانقطعت الآمال.
(وخشعت الجبال) من هول الفاجعة، وعظم الواقعة حتى الجمادات تتأثّر بالحوادث العظيمة، كما قال تعالى: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله)(22).
(وأضيع الحريم) الحريم: ما يحميه الرجل ويقاتل عنه، والمقصود - هنا - حريم آل الرسول وهم عترته الطيبة، نعم، ضاع حريمه أيّ ضياع! وانتهكت حرمته أي انتهاك!.
(وأُزيلت الحرمة عند مماته) وفي نسخة: (أُديلت الحرمة عند مماته) أي غُلبت (بضم الغين وكسر اللام).
(فتلك - والله - النازلة الكبرى، والمصيبة العظمى) إن مصيبة وفاة العظماء تكون عظيمة، فكلما كانت عظمة المتوفى أكثر كانت مصيبة وفاته أعظم وأفجع، ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أشرف مخلوق وأعظم إنسان، وأطهر كائن فبالطبع تكون وفاته نازلة كبرى ومصيبة عظمى.
(لا مثلها نازلة) لا توجد في العالم مصيبة كبيرة كمصيبة وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) لأنه لا يوجد في العالم موجود كرسول الله (صلى الله عليه وآله).
(ولا بائقة عاجلة) أي لا مثلها داهية في القريب العاجل، إذ من الممكن أن تحدث في العالم حادثة أعظم وقعاً من وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) وهي حادثة قيام الساعة وقيام القيامة.
ولقد وصف الإمام عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) مصيبة وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) بقولـه: (فنزل بي من وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما لم أكن أظن الجبال لو حملته عنوة كانت تنهض به، فرأيت الناس من أهل بيتي ما بين جازع لا يملك جزعه، ولا يضبط نفسه، ولا يقوى على حمل فادح ما نزل به، قد أذهب الجزع صبره، وأذهل عقله، وحال بينه وبين الفهم والإفهام، والقول والاستماع).
(أعلن بها كتاب الله - جل ثناؤه - في أفنيتكم) أعلن القرآن الكريم بوفاة الرسول في جوانبكم ونواحيكم، أي القرآن يُتلى آناء الليل وأطراف النهار، وأصوات التلاوة مرتفعة من المسجد ومن البيوت والمساكن، وفي نسخة: (في قبلتكم) والمقصود المسجد أو المصلىّ الذي يتلى فيه القرآن.
(في ممساكم ومصبحكم) مساءً وصباحاً كنتم تسمعون الآيات التي تخبر عن وفاة الرسول (هتافاً وصراخاً) كان الإعلان بوفاة الرسول بأنواع مختلفة: بالهتاف وهو القراءة مع الصوت والصراخ وهو القراءة بالصوت الشديد.
(وتلاوة وألحاناً) بالتلاوة إذا كانت القراءة سريعة وبالألحان إذا كانت بتأمل وتأنّي (ولقبله ما حلَّ بأنبيائه ورسله حكم فصل، وقضاء حتم) إن الموت الذي حلّ بالأنبياء الذين كانوا قبل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) كان من الأحكام المقطوع بها، التي لا شك فيها، والقضاء الذي لا يقبل التغيير، والمقصود: أن الموت هو سُنّة الله في عباده من أنبياء وغيرهم، ثم استدلت على كلامها بقول الله تعالى: (وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين) ووجه الاستدلال بالآية أن محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد مضت من قبله الأنبياء، ومات قبله المرسلون إذن فالموت ليس بشيء عجيب بالنسبة للرسول، بل على هذا جرت سنة الله في أنبيائه إنهم يذوقون الموت كبقية الخلائق، وهذا لا يعني أنه إذا مات ماتت شريعته ومات دينه، وذهبت كرامته وحرمته.
(أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) أي فإن أماته الله أو قتله الكفار ارتددتم بعد إيمانكم، فسمّى الارتداد انقلاباً على العقب، والرجوع القهقرى، (ومن ينقلب على عقبيه) يرتدَّ عن دينه (فلن يضر الله شيئاً) بل المضرة عائدة على المرتد (وسيجزي الله الشاكرين) المطيعين.
1 - فريّاً: أمراً عظيماً أو منكراً قبيحاً.
2 - سورة النمل: آية 16.
3 - سورة مريم: آية 6.
4 - سورة الأنفال: آية 75.
5 - سورة النساء: آية 11.
6 - سورة البقرة: آية 180.
7 - الحظوة: النصيب.
8 - ناقة مخطومة ومرحولة، الخطام - بكسر الخاء -: الزمام. ومرحولة من الرحل وهو للناقة كالسرج للفرس.
9 - حضنة: جمع حاضن بمعنى الحافظ.
10 - الغيمزة: الضعف أو الغفلة.
11 - أُزاول: أقصد.
12 - استوسع وهنه: اتسع غاية الاتساع. وهنة وفي نسخة: وهيه أي شقّه وخرقه.
13 - كالمعنى المتقدم.
14 - أكدت: انقطعت.
15 - الحريم: ما يحميه الرجل ويقاتل عنه.
16 - النازلة: الشديدة.
17 - البائقة: الداهية.
18 - أفنيتكم: جمع فناء - بكسر الفاء - جوانب الدار من الخارج أو العرصة المتسعة أمام الدار.
و الله إنها سهام مسددة بنحور الباطل لا يوقفها شيء ...
و على كل متعمق و صاحب ضمير حي و فطرة حسنة أن يتأمل بهذه الكلمات ...
و ليتذكر حديث رسول الله ( ص و آله ) عند السنة في صحاحهم و عند الشيعة ...
فاطمة بضعة مني يغضبني ما يغضبها ...
و غضب رسول الله و فاطمة من غضب الله ...
جهد مبارك أخي الكريم عبد محمد ..
مأجورين ...