مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين. وبعد فإن هذه هي الحلقة الاولى من دروس في علم الاصول وضعناها للمبتدئين بدراسة هذا العلم وتتبعها حلقتان أخريان إن شاء الله تعالى ويتكامل من خلال الحلقات الثلاث إعداد الطالب للدراسة العليا وحضور أبحاث الخارج وقد شرحنا في مقدمة هذه الحلقة ما يتعلق بهذه الحلقات الثلاث ومنهجها وطريقة تدريسها إن شاء الله تعالى ومن الله سبحانه نستمد العون والتوفيق. النجف الاشرف محمد باقر الصدر جمادي الاولى 1397 ه.
بسم الله الرحمن الرحيم
التعريف بعلم الاصول كلمة تمهيدية بعد أن آمن الانسان بالله والاسلام والشريعة، وعرف أنه مسؤول بحكم كونه عبد لله تعالى عن إمتثال أحكامه، يصبح ملزما بالتوفيق بين سلوكه في مختلف مجالات الحياة والشريعة الاسلامية، وبإتخاذ الموقف العملي الذي تفرضه عليه تبعيته للشريعه، ولاجل هذا كان لزاما على الانسان أن يعين هذا الموقف العملي، ويعرف كيف يتصرف في كل واقعة. ولو كانت أحكام الشريعة في كل الوقائع واضحة وضوحا بديهيا للجميع لكان تحديد الموقف العملي المطلوب تجاه الشريعة في كل واقعة أمرا ميسورا لكل أحد، ولما إحتاج إلى بحث علمي ودراسة واسعة، ولكن عوامل عديدة منها بعدنا الزمني عن عصر التشريع أدت إلى عدم وضوح عدد كبير من أحكام الشريعة وإكتنافها بالغموض. وعلى هذا الاساس كان من الضروري أن يوضع علم يتولى دفع الغموض عن الموقف العملي تجاه الشريعة في كل واقعة بإقامة الدليل على تعيينه. وهكذا كان فقد أنشى علم الفقه للقيام بهذه المهمة، فهو يشتمل على تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة تحديدا إستدلاليا والفقيه في علم الفقه يمارس إقامة الدليل على تعيين الموقف العملي في كل حدث من أحداث
الحياة، وهذا ما نطلق عليه إسم عملية إستنابط الحكم الشرعي. ولاجل هذا يمكن القول بأن علم الفقه هو: علم إستنابط الاحكام الشرعية أو علم عملية الاستنباط بتعبير آخر. وتحديد الموقف العملي بدليل يتم في علم الفقه بأسلوبين: أحدهما: تحديده بتعيين الحكم الشرعي. والآخر: تحديد الوظيفة العملية تجاه الحكم المشكوك بعد إستحكام الشك وتعذر تعيينه. والادلة التي تستعمل في الاسلوب الاول نسميها بالادلة أو الادلة المحرزة إذ يحرز بها الحكم الشرعي والادلة التي تستعمل في الاسلوب الثاني تسمى بالادلة العملية أو الاصول العملية. وفي كلا الاسلوبين يمارس الفقيه في علم الفقه إستنباط الحكم الشرعي أي يحدد الموقف العملي تجاهه بالدليل. وعمليات الاستنابط التي يشتمل عليها علم الفقه بالرغم من تعددها وتنوعها تشترك في عناصر موحدة وقواعد عامة تدخل فيها على تعددها وتنوعها، وقد تطلبت هذه العناصر المشتركه في عملية الاستنباط وضع علم خاص بها لدراستها وتحديدها وتهيئتها لعلم الفقه فكان علم الاصول. تعريف علم الاصول وعلى هذا الاساس نرى أن يعرف علم الاصول بأنه " العلم بالعناصر المشتركة في عملية إستنباط الحكم الشرعي ". ولكي نستوعب هذا التعريف يجب أن نعرف ما هي العناصر المشتركة في عملية الاستنباط. ولنذكر - لاجل ذلك - نماذج بدائية من هذه العملية في صيغ مختصرة
لكي نصل عن طريق دراسة هذه النماذج والمقارنة بينها إلى فكرة العناصر المشتركة في عملية الاستنباط. إفرضوا أن فقيها واجه هذه الاسئلة: 1 - هل يحرم على الصائم أن يرتمس في الماء ؟ 2 - هل يجب على الشخص إذا ورث مالا من أبيه أن يؤدي خمسه ؟ 3 - هل تبطل الصلاة بالقهقهة في أثنائها ؟ فإذا أراد الفقيه أن يجيب على هذه الاسئلة فإنه سوف يجيب على السؤال الاول مثلا بالايجاب وانه يحرم الارتماس على الصائم ويستنبط ذلك بالطريقة التالية: قد دلت رواية يعقوب بن شعيب عن الامام الصادق (عليه السلام) على حرمة الارتماس على الصائم فقد جاء فيها أنه قال: لا يرتمس المحرم في الماء ولا الصائم. والجملة بهذا التركيب تدل في العرف العام على الحرمة وراوي النص يعقوب ين شعيب ثقة والثقة وإن كان قد يخطى أو يشذ أحيانا ولكن الشارع أمرنا بعدم إتهام الثقة بالخطإ أو الكذب وإعتبره حجة، والنتيجة هي أن الارتماس حرام. ويجيب الفقيه على السؤال الثاني بالنفي لان رواية علي بن مهزيار جاءت في مقام تحديد الاموال التي يجب فيها الخمس وورد فيها أن الخمس ثابت في الميراث الذي لا يحتسب من غير أب ولا ابن، والعرف العام يفهم من هذه الجملة أن الشارع لم يجعل خمسا على الميراث الذي ينتقل من الاب إلى ابنه، والراوي ثقة وخبر الثقة حجه، والنتيجة هي أن الخمس في تركة الاب غير واجب. ويجيب الفقيه على السؤال الثالث بالايجاب بدليل رواية زرارة عن الامام الصادق أنه قال: " القهقهة لا تنقض الوضوء وتنقض الصلاة " والعرف العام
يفهم من النقض أن الصلاة تبطل بها وزرارة ثقة وخبر الثقة حجة، فالصلاة مع القهقهة باطلة إذن. وبملاحظة هذه المواقف الفقهية الثلاثة نجد أن الاحكام التي إستنبطها الفقيه كانت من أبواب شتى من الفقه، وأن الادلة التي إستند إليها الفقيه مختلفة، فبالنسبة إلى الحكم الاول إستند إلى رواية يعقوب بن شعيب، وبالنسبة إلى الحكم الثاني إستند إلى رواية علي إبن مهزيار، وبالنسبة إلى الحكم الثالث استند إلى رواية زرارة ولكل من الروايات الثلاث متنها وتركيبها اللفظي الخاص الذي يجب أن يدرس بدقة ويحدد معناه، ولكن توجد في مقابل هذا التنوع وهذه والاختلافات بين المواقف الثلاثة عناصر مشتركة أدخلها الفقيه في عمليه الاستنباط في المواقف الثلاثة جميعا. فمن تلك العناصر المشتركة الرجوع إلى العرف العام في فهم الكلام الصادر عن المعصوم، وهو ما يعبر عنه بحجية الظهور العرفي فحجية الظهور إذن عنصر مشترك في عمليات الاستنباط الثلاث، وكذلك يوجد عنصر مشترك آخر وهو حجية خبر الثقة. وهكذا نستنتج أن عمليات الاستنابط تشتمل على عناصر مشتركة كما تشتمل على عناصر خاصة، ونعني بالعناصر الخاصة تلك العناصر التي تتغير من مسألة إلى أخرى فرواية يعقوب إبن شعيب عنصر خاص في عملية إستنباط حرمة الارتماس لانها لم تدخل في عمليات الاستنابط الاخرى بل دخلت بدلا عنها عناصر خاصة أخرى كرواية علي بن مهزيار ورواية زرارة. ونعني بالعناصر المشتركة القواعد العامة التي تدخل في عمليات إستنابط أحكام عديدة في أبواب مختلفة. وفي علم الاصول تدرس العناصر المشتركة وفي علم الفقه تدرس العناصر الخاصة في كل مسألة. وهكذا يترك للفقيه في كل مسألة أن يفحص بدقة الروايات والمدارك
الخاصة التي ترتبط بتلك المسألة ويدرس قيمة تلك الروايات ويحاول فهم ألفاظها وظهورها العرفي وأسانيدها بينما يتناول الاصولي البحث عن حجية الظهور وحجية الخبر وهكذا. وعلم الاصول لا يحدد العناصر المشتركة فحسب بل يحدد أيضا درجات إستعمالها والعلاقة بينها كما سنرى في البحوث المقبلة إن شاء الله تعالى. موضوع علم الاصول لكل علم - عادة - موضوع أساسي ترتكز جميع بحوثه عليه وتدور حوله وتستهدف الكشف عما يرتبط بذلك الموضوع من خصائص وحالات وقوانين، فالفيزياء مثلا موضوعها الطبيعة وبحوث الفيرياء ترتبط كلها بالطبيعة وتحاول الكشف عن حالاتها وقوانينها العامة. والنحو موضوعه الكلمة لانه يبحث عن حالات إعرابها وبنائها رفعها ونصبها. فما هو موضوع علم الاصول الذي تدور حوله بحوثه ؟. ونحن إذا لاحظنا التعريف الذي قدمناه لعلم الاصول إستطعنا أن نعرف أن علم الاصول يدرس في الحقيقة الادلة المشتركة في علم الفقه لاثبات دليلتها، وبهذا صح القول بأن موضوع علم الاصول هو الادلة المشتركة في عملية الاستنباط. علم الاصول منطق الفقه ولا بد أن معلوماتكم عن علم المنطق تسمح لنا أن نستخدمه كمثال لعلم الاصول، فإن علم المنطق كما تعلمون يدرس في الحقيقة عملية التفكير مهما كان مجالها وحقلها العلمي، ويحدد النظام الذي يجب أن تتعبه لكي يكون التفكير سليما، مثلا يعلمنا علم المنطق كيف يجب أن ننهج في الاستدلال
بوصفه عملية تفكير لكي يكون الاستدلال صحيحا، كيف نستدل على أن سقراط فان ؟ وكيف نستدل على أن نار الموقد الموضوع أمامي محرقة ؟ وكيف نستدل على أن مجموع زوايا المثلث تساوي قائمتين ؟ وكيف نستدل على أن الخط الممتد بدون نهاية مستحيل ؟ كل هذا يجيب عليه علم المنطق بوضع المناهج العامة للاستدلال كالقياس والاستقراء، فهو إذن علم لعملية التفكير إطلاقا. و وعلم الاصول يشابه علم المنطق من هذه الناحية غير أنه يبحث عن نوع خاص من عملية التفكير أي عن عملية التفكير الفقهي في إستنباط الاحكام، ويدرس العناصر المشتركة التي يجب أن تدخل فيها لكي يكون الاستنباط سليما، فهو يعلمنا كيف نستنبط الحكم بحرمة الارتماس على الصائم ؟ وكيف نستنبط إعتصام ماء الكر ؟ وكيف نستنبط الحكم بإستحباب صلاة العيد أو وجوبها ؟ وذلك بوضع المناهج العامة وتحديد العناصر المشتركة لعملية الاستنباط. وعلى هذا الاساس يصح أن يطلق على علم الاصول إسم منطق علم الفقه لانه بالنسبة إليه بمثابة المنطق بالنسبة إلى الفكر البشري بصورة عامة. أهمية علم الاصول في عملية الاستنباط ولسنا بعد ذلك بحاجة إلى التأكيد على أهمية علم الاصول وخطورة دوره في عالم الاستنباط لانه ما دام يقدم لعملية الاستنباط عناصرها المشتركة ويضع لها نظامها العام فهو عصب الحياة فيها، وبدون علم الاصول يواجه الشخص في الفقه ركاما متناثرا من النصوص والادلة دون أن يستطيع إستخدامها والاستفادة منها في الاستنباط، كإنسان يواجه أدوات النجارة ويعطى منشارا وفأسا وما إليها من أدوات دون أن يملك أفكارا عامة عن
عملية النجارة وطريقة إستخدام تلك الادوات. وكما أن العناصر المشتركة ضرورية لعملية الاستنباط فكذلك العناصر الخاصة التي تختلف من مسألة إلى أخرى كمفردات الآيات والروايات المتناثرة فإنها الجزء الضروري الآخر فيها، فلا يكفي مجرد الاطلاع على العناصر المشتركة التي يمثلها علم الاصول ومن يحاول الاستنباط على أساس الاطلاع الاصولي فحسب نظير من يملك معلومات نظرية عامة عن عملية النجارة ولا يوجد لديه فأس ولا منشار وما إليهما من أدوات النجارة فكما يعجز هذا عن صنع سرير خشبي مثلا كذلك يعجز الاصولي عن الاستنباط إذ لم يفحص بدقة العناصر الخاصة المتغيرة من مسألة إلى أخرى. فالعناصر المشتركة والعناصر الخاصة قطبان مندمجان في عملية الاستنباط ولا غنى للعملية عنهما معا. الاصول والفقه يمثلان النظرية والتطبيق ونخشى أن نكون قد أوحينا اليكم بتصور خاطى حين أو ضحنا أن المستنبط يدرس في علم الاصول العناصر المشتركة ويحددها ويتناول في بحوث علم الفقه العناصر الخاصة ليكمل بذلك عملية الاستنباط، إذ قد يتصور البعض أنا إذا درسنا في علم الاصول العناصر المشتركة في عملية الاستنباط وعرفنا مثلا حجية الخبر وحجية الظهور وما إليهما من العناصر الاصولية فلا يبقى علينا بعد ذلك أي جهد علمي، إذ لا نحتاج ما دمنا نملك تلك العناصر إلا إلى مجرد إستخراج الروايات والنصوص من مواضعها لكي تضاف إلى العناصر المشتركة ويستنبط منها الحكم الشرعي، وهو عمل سهل بطبيعته لا يشتمل على جهد علمي. ولكن هذا التصور خاطى إلى درجة كبيرة لان المجتهد إذا مارس
العناصر المشتركة لعملية الاستنباط وحددها في علم الاصول لا يكتفي بعد ذلك بتجميع أعمى للعناصر الخاصة من كتب الاحاديث والروايات مثلا بل يبقى عليه أن يمارس في علم الفقه تطبيق تلك العناصر المشتركة ونظرياتها العامة على العناصر الخاصة، والتطبيق مهمة فكرية بطبيعتها تحتاج إلى درس وتمحيض، ولا يغني الجهد العلمي المبذول أصوليا عن بذل جهد جديد في التطبيق، فلنفرض مثلا أن المجتهد آمن في علم الاصول بحجية الظهور العرفي فهل يكفيه أن يضع إصبعه على رواية علي بن مهزيار التي حددت مجالات الخمس مثلا يضيفها إلى العنصر المشترك ويستنبط من ذلك عدم وجوب الخمس في ميراث الاب ؟ أو ليس المجتهد بحاجة إلى تدقيق مدلول النص في الرواية لمعرفة نوع مدلوله في العرف العام ودراسة كل ما يرتبط بتحديد ظهوره العرفي من قرائن وإمارات داخل إطار النص أو خارجه لكي يتمكن بأمانة من تطبيق العنصر المشترك القائل بحجية الظهور العرفي ؟ وفي هذا الضوء نعرف أن البحث الفقهي عن العناصر الخاصة في عملية الاستنباط ليس مجرد عملية تجميع، بل هو مجال التطبيق للنظريات الاصولية، وتطبيق النظريات العامة له دائما موهبته الخاصة ودقته ومجرد الدقة في النظريات العامة لا يغني عن الدقة في تطبيقها، ألا ترون أن من يدرس بعمق النظريات العامة في الطب يحتاج في مجال تطبيقها على حالة مرضية إلى دقة وإنتباه كامل وتفكير في تطبيق تلك النظريات على المريض الذي بين يديه. التفاعل بين الفكر الاصولي والفكر الفقهي عرفنا أن علم الاصول يقوم بدور المنطق بالنسبة إلى علم الفقه والعلاقة بينهما علاقة النظرية والتطبيق، وهذا الترابط الوثيق بينهما يفسر لنا التفاعل المتبادل بين الذهنية الاصولية على صعيد النظريات من ناحية وبين الذهنية الفقهية على صعيد التطبيق من ناحية أخرى، لان توسع بحوث التطبيق يدفع
بحوث النظرية خطوة إلى الامام لانه يثير أمامها مشاكل ويضطرها إلى وضع النظريات العامة لحولها، كما أن دقة البحث في النظريات الاصولية تنعكس على صعيد التطبيق إذ كلما كانت النظريات أوفر وأدق تطلبت طريقة تطبيقها دقة وعمقا أكبر. وهذا التفاعل بين الذهنيتين الاصولية والفقهية يؤكده تاريخ العلمين على طول الخط، وتكشف عنه بوضوح دراسة المراحل التي مر بها البحث الفقهي والبحث الاصولي في تاريخ العلم، فقد نشأ علم الاصول في أحضان علم الفقه كما نشأ علم الفقه في أحضان علم الحديث. ولم يكن علم الاصول مستقلا عن علم الفقه في البداية ومن خلال نمو علم الفقه وإتساع أفق التفكير الفقهي أخذت الخيوط العامة، والعناصر المشتركة في عملية الاستنباط تبدو وتتكشف وأخذ الممارسون للعمل الفقهي يلاحظون إشتراك عمليات الاستنباط في عناصر عامة لا يمكن إستخراج الحكم الشرعي بدونها، وكان ذلك إيذانا بمولد علم الاصول وإتجاه الذهنية الفقهية إتجاها أصوليا، فانفصل علم الاصول عن علم الفقه في البحث والتصنيف وأخذ يتسع ويشرى تدريجا من خلال نمو الفكر الاصولي من ناحية وتبعا لتوسع البحث الفقهي من ناحية أخرى، لان إتساع نطاق التطبيق الفقهي كان يلفت أنظار الممارسين إلى مشاكل جديدة فتوضع للمشاكل حلولها المناسبة وتتخذ الحلول صورة العناصر المشتركة في علم الاصول. وكلما بعد الفقيه عن عصر النص تعدد جوانب الغموض في فهم الحكم من مداركه الشرعية وتنوعت الفجوات في عملية الاستنباط نتيجة للبعد الزمني، فيحس أكثر فاكثر بالحاجة إلى تحديد قواعد عامة يعالج بها جوانب الغموض ويملا بها تلك الفجوات، وبهذا كانت الحاجة إلى علم الاصول تاريخية بمعنى أنها تشتد وتتأكد كلما إبتعد الفقيه تاريخيا عن عصر النص وتراكمت الشكوك على عملية الاستنباط التي يمارسها.
يمكن أن نفسر الفارق الزمني بين إزدهار علم الاصول في نطاق التفكير الفقهي السني وإزدهاره في نطاق تكفيرنا الفقهي الامامي، فإن التاريخ يشير إلى أن علم الاصول ترعرع وإزدهر نسبيا في نطاق الفقه السني قبل ترعرعه وإزدهاره في نطاقنا الفقهي الامامي، وذلك لان المذهب السني كان يزعم إنتهاء عصر النصوص بوفاة النبي صلى الله عليه وآله فحين إجتاز الفكر الفقهي السني القرن الثاني كان قد إبتعد عن عصر النصوص بمسافة زمنية كبيرة تخلق بطبيعتها الثغرات والفجوات. وأما الامامية فقد كانوا وقتئذ يعيشون عصر النص الشرعي لان الامام إمتداد لوجود النبي فكانت المشاكل التي يعانيها فقهاء الاماية في الاستنباط أقل بكير إلى الدرجة التي لا تفسح المجال للاحساس بالحاجة الشديدة إلى وضع علم الاصول ولهذا نجد أن الامامية بمجر ان انتهى عصر النصوص بالنسبة إليهم ببدء الغيبة أو بإنتهاء الغيبة الصغرى بوجه خاص تفتحت ذهنيتهم الاصولية وإقبلوا على درس العناصر المشتركة. وهذا لا يعني طبعا أن بذور التفكير الاصولي لم توجدل لدى فقهاء أصحال الائمة بل قد وجدت هذه البذور منذ أيام الصادقين عليهما السلام على المستورى المناسب لتلك المرحلة، ومن الشواهد التاريخية على ذلك ما ترويه كتب الحديث من أسئلة ترتبط بجملة من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط وجهها عدد من الرواه إلى الامام الصادق وغيره من الائمة عليهم السلام وتلقوا جوابا منهم، فإن تلك الاسئلة تكشف عن وجود بذرة التفكير الاصولي عندهم. ويعزز ذلك أن بعض أصحاب الائمة ألفوا رسائل في بعض المسائل الاصولية كهشام بن الحكم من أصحاب الامام الصادق الذي روي أنه ألف رسالة في الالفاظ.
جواز عملية الاستنباط ما دام علم الاصول يرتبط بعملية الاستنباط ويحدد عناصرها المشتركة فيجب أن نعرف قبل كل شئ موقف الشريعة من هذه العملية، فهل سمح الشارع لاحد بممارستها لكي يوجد مجال لوضع علم لدراسة عناصرها المشتركة ؟ والحقيقة أن مسألة جواز الاستنباط حين تطرح للبحث بالصيغة التي طرحناها لا يبدو أنها جديرة بالنقاش، لاننا حين نتسأل هل يجوز لنا ممارسة عملية الاستنباط أو لا ؟ يجي الجواب على البداهة بالايجاب، لان عملية الاستنباط كما تقدم عبارة عن تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة تحديدا إستدلاليا، ومن البديهي أن الانسان بحكم تبعيته للشريعة ملزم بتحديد موقفه العملي منها، ولما لم تكن أحكام الشريعة غالبا في البداهة والوضوح بدرجة تغني عن إقامة الدليل، فليس من المعقول أن يحرم على الناس جميعا تحديد الموقف العملي تحديدا إستدلاليا. ولكن لسوء الحظ اتفق لهذه المسألة أن اكتسبت صيغة أخرى لا تخلو عن غموض وتشويش، فأصبحت مثارا للاختلاف نتيجة لذلك الغموض والتشويش، فقد إستخدمت كلمة الاجتهاد للتعبير عن عملية الاستنباط. وطرح السؤال هكذا هل يجوز الاجتهاد في الشريعة ؟ وحينما دخلت كلمة الاجتهاد في السؤال وهي كلمة مرت بمصطلحات عديدة في تاريخها - أدت
إلى إلقاء ظلال تلك المصطلحات السابقة على البحث، ونتج عن ذلك أن أجاب البعض على السؤال بالنفي، وأدى ذلك إلى شجب علم الاصول كله لانه إنما يراد لاجل الاجتهاد، فإذا الغي الاجتهاد لم تعد حاجة إلى علم الاصول. وفي سبيل توضيح ذلك يجب أن نذكر التطور الذي مرت به كلمة الاجتهاد، لكي نتبين كيف أن النزاع الذي وقع حول جواز عملية الاستنباط والضجة التي أثيرت ضدها لم يكن إلا نتيجة فهم غير دقيق للاصطلاح العلمي، وغفلة عن التطورات التي مرت بها كلمة الاجتهاد في تاريخ العلم. الاجتهاد في اللغة مأخوذ من الجهد وهو " بذل الوسع للقيام بعمل ما " وقد إستعملت هذه الكلمة - لاول مرة - على الصعيد الفقهي للتعبير بها عن قاعدة من القواعد التي قررتها بعض مدارس الفقه السني وسارت على أساسها وهي القاعدة القائلة: " إن الفقيه إذا أراد أن يستنبط حكما شرعيا ولم يجد نصا يدل عليه في الكتاب أو السنة رجع إلى الاجتهاد بدلا عن النص ". والاجتهاد هنا يعني التفكير الشخصي، فالقيه حيث لا يجد النص يرجع إلى تفكيره الخاص ويستلهمه ويبني على ما يرجع في فكره الشخصي من تشريع، وقد يعبر عنه بالرأي أيضا. والاجتهاد بهذا المعنى يعتبر دليلا من أدلة الفقيه ومصدرا من مصادره، فكما أن الفقيه قد يستند إلى الكتاب أو السنة ويستدل بهما معا كذلك يستند في حالات عدم توفر النص إلى الاجتهاد الشخصي ويستدل به. وقد نادت بهذا المعنى للاجتهاد مدارس كبيرة في الفقه السني، وعلى رأسها مدرسة أبي حنيفة. ولقي في نفس الوقت معارضة شديدة من أئمة أهل
البيت (ع) والفقهاء الذين ينتسبون إلى مدرستهم. وتتبع كلمة الاجتهاد يدل على أن الكلمة حملة هذا المعنى وكانت تستخدم للتعبير عنه منذ عصر الائمة إلى القرن السابع فالروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت (ع) تذم الاجتهاد وتريد به ذلك المبدأ الفقهي الذي يتخذ من التفكير الشخصي مصدرا من مصارد الحكم، وقد دخلت الحملة ضد هذا المبدأ الفقهي دور التصنيف في عصر الائمة أيضا والرواة الذين حملوا آثارهم، وكانت الحملة تستعمل كلمة الاجتهاد غالبا للتعبير عن ذلك المبدأ وفقا للمصطلح الذي جاء في الروايات، فقد صنف عبد الله بن عبد الرحمن الزبيري كتبا أسماه " الاستفادة في الطعون على الاوائل والرد على أصحاب الاجتهاد والقياس ". وصنف هلال بن إبراهيم بن ابي الفتح المدني كتابا في الموضوع بإسم كتاب " الرد على من رد آثار الرسول وإعتمد على نتائج العقول "، وصنف في عصر الغيبة الصغرى أو قريبا منه إسماعيل بن علي ابن اسحاق بن أبي سهل النوبختي كتابا في الرد على عيسى بن أبان في الاجتهاد، كما نص على ذلك كله النجاشي صاحب الرجال في ترجمة كل واحد من هؤلاء. وفي أعقاب الغيبة الصغرى نجد الصدوق في أواسط القرن الرابع يواصل تلك الحملة، ونذكر له على سبيل المثال تعقيبه على قصة موسى والخضر، إذ كتب يقول: " أن موسى مع كمال عقله وفضله ومحله من الله تعالى لم يدرك بإستنباطه وإستدلاله معنى أفعال الخضر حتى إشتبه عليه وجه الامر به، فإذات لم يجز لانبياء الله ورسله القياس والاستدلال والاستخراج كان من دونهم من الامم أولى بأن لا يجوز لهم ذلك... فإذا لم يصلح موسى للاختيار - مع فضله ومحله - فكيف تصلح الامة لاختيار الامام، وكيف يصلحون لاستنباط الاحكام الشرعية وإستخراجها بعقولهم الناقصة وآرائهم المتفاوتة ". وفي أواخر القرن الرابع يجى الشيخ المفيد فيسير على نفس الخط ويهجم
على الاجتهاد، وهو يعبر بهذه الكلمة عن ذلك المبدأ الفقهي الآنف الذكر ويكتب كتابا في ذلك بإسم " النقض على ابن الجنيد في أجتهاد الرأي ". ونجد المصطلح نفسه لدى السيد المرتضى في أوائل القرن الخامس، إذ كتب في الذريعة يذم الاجتهاد ويقول: " إن الاجتهاد باطل، وإن الامامية لا يجوز عندهم العمل بالظن ولا الرأي ولا الاجتهاد ". وكتب في كتابه الفقهي " الانتصار " معرضا بابن الجنيد - قائلا: " إنما عول ابن الجنيد في هذه المسألة على ضرب من الرأي والاجتهاد وخطأه ظاهر " وقال في مسألة مسح الرجلين في فصل الطهارة من كتاب الانتصار: " إنا لا نرى الاجتهاد ولا نقول به ". وإستمر هذا الاصطلاح في كلمة الاجتهاد بعد ذلك أيضا فالشيخ الطوسي الذي توفي في أواسط القرن الخامس يكتب في كتاب العدة قائلا: " إما القياس والاجتهاد فعندنا إنهما ليسا بدليلين، بل محظور في الشريعة إستعمالها ". وفي أواخر القرن السادس يستعرض إبن إدريس في مسألة تعارض البينتين من كتابه السرائر عددا من المرجحات لاحدى البينتين على الاخرى ثم يعقب ذلك قائلا: " ولا ترجيح بغير ذلك عند أصحابنا، والقياس والاستحسان والاجتهاد باطل عندنا ". وهكذا تدل هذه النصوص بتعاقبها التاريخي المتتابع على أن كلمة الاجتهاد كانت تعبيرا عن ذلك المبدأ الفقهي المتقدم إلى أوائل القرن السابع، وعلى هذا الاساس إكتسبت الكلمة لونا مقيتا وطابعا من الكراهية والاشمئزاز في الذهنية الفقهية الامامية نتيجة لمعارضة ذلك المبدأ والايمان ببطلانه.
ولكن كلمة الاجتهاد تطورت بعد ذلك في مصطلح فقهائنا ولا يوجد لدينا الآن نص شيعي يعكس هذا التطور أقدم تاريخا من كتاب المعارج للمحقق الحلي المتوفي سنة (676 ه)، إذ كتب المحقق تحت عنوان حقيقة الاجتهاد يقول: " وهو في عرف الفقهاء بذل الجهد في إستخراج الاحكام الشرعية، وبهذا الاعتبار يكون إستخراج الاحكام من أدلة الشرع إجتهادا، لانها تبتني على إعتبارات نظرية ليست مستفادة من ظواهر النصوص في الاكثر، سواء كان ذلك الدليل قياسا أو غيره، فيكون القياس على هذا التقرير أحد أقسام الاجتهاد. فإن قيل: يلزم - على هذا - أن يكون الامامية من أهل الاجتهاد. قلنا: الامر كذلك لكن فيه إيهام من حيث أن القياس من جملة الاجتهاد، فإذا إستثني القياس كنا من أهل الاجتهاد في تحصيل الاحكام بالطرق النظرية التي ليس أحدها القياس ". ويلاحظ على هذا النص بوضوح أن كلمة الاجتهاد كانت لا تزال في الذهنية الاساسية مثقلة بتبعة المصطلح الاول، ولهذا يلمح النص إلى أن هناك من يتحرج من هذا الوصف ويثقل عليه أن يسمي فقهاء الامامية مجتهدين. ولكن المحقق الحلي لم يتحرج عن إسم الاجتهاد بعد أن طوره أو تطور في عرف الفقهاء تطويرا يتفق مع مناهج الاستنباط في الفقه الامامي، إذ بينما كان الاجتهاد مصدرا للفقيه يصدر عنه ودليلا يستدل به كما يصدر عن آية أو رواية، أصبح في المصطلح الجديد يعبر عن الجهد الذي يبذله الفقيه في إستخراج الحكم الشرعي من أدلته ومصادره، فلم يعد مصدرا من مصادر الاستنباط، بل هو عملية إستنباط الحكم من مصادره التي يمارسها الفقيه. والفرق بين المعنيين جوهري للغاية، إذ كان على الفقيه - على أساس
المصطلح الاول للاجتهاد - أن يستنبط من تفكيره الشخصي وذوقه الخاص في حالة عدم توفر النص، فإذا قيل له: ما هو دليلك ومصدر حكمك هذا ؟ إستدل بالاجتهاد وقال: الدليل هو إجتهادي وتفكيري الخاص. واما المصطلح الجديد فهو لا يسمح للفقيه أن يبرر أي حكم من الاحكام بالاجتهاد لان الاجتهاد بالمعنى الثاني ليس مصدرا للحكم بل هو عملية إستنباط الاحكام من مصادرها، فإذا قال الفقيه " هذا إجتهادي " كان معناه أن هذا هو ما إستنبطه من المصادر والادلة، فمن حقنا أن نسأله ونطلب منه أن يدلنا على تلك المصادر والادلة التي إستنبط الحكم منها. وقد مر هذا المعنى الجديد لكلمة الاجتهاد بتطور أيضا، فقد حدده المحقق الحلي في نطاق عمليات الاستنباط التي لا تستند إلى ظواهر النصوص، فكل عملية استنباط لا تستند إلى ظواهر النصوص تسمى إجتهادا دون ما يستند إلى تلك الظواهر. ولعل الدافع إلى هذا التحديد أن إستنباط الحكم من ظاهر النص ليس فيه كثير جهد أو عناء علمي ليسمى إجتهادا. ثم إتسع نطاق الاجتهاد بعد ذلك فأصبح يشمل عملية إستنباط الحكم من ظاهر النص أيضا، لان الاصوليين بعد هذا لاحظوا بحق أن عملية إستنباط الحكم من ظاهر النص تستبطن كثيرا من الجهد العلمي في سبيل معرفة الظهور وتحديده وإثبات حجية الظهور العرفي. ولم يقف توسع الاجتهاد كمصطلح عند هذا الحد، بل شمل في تطور حديث عملية الاستنباط بكل ألوانها، فدخلت في الاجتهاد كل عملية يمارسها الفقيه لتحديد الموقف العملي تجاه الشريعة عن طريق إقامة الدليل على الحكم الشرعي أو على تعيين الموقف العملي مباشرة. وهكذا أصبح الاجتهاد يرادف عملية الاستنباط، وبالتالي أصبح علم
الاصول العلم الضروري للاجتهاد لانه العلم بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط. * * * وعلى هذا الضوء يمكننا أن نفسر موقف جماعة من علمائنا الاخيار ممن عارضوا كلمة الاجتهاد بما تحمل من تراث المصطلح الاول الذي شن أهل البيت حملة شدية عليه وهو يختلف عن الاجتهاد بالمعنى الثاني، وما دمنا قد ميزنا بين معنيي الاجتهاد فنستطيع أن نيعد إلى المسألة بداهتها ونتبين بوضوح جواز الاجتهاد بالمعنى المرادف لعملية الاستنباط، وتترتب على ذلك ضرورة الاحتفاظ بعلم الاصول، لدراسة العناصر المشتركة في عملية الاستنباط.
الحكم الشرعي وتقسيمه عرفنا ان علم الاصول يدرس العناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي، ولاجل ذلك يجب ان نكون فكرة عامة منذ البدء عن الحكم الشرعي الذي يقوم علم الاصول بتحديد العناصر المشتركة في عملية استنباطه. الحكم الشرعي هو: التشريع الصادر من الله تعالى لتنظيم حياة الانسان. والخطابات الشرعية في الكتاب والسنة مبرزة للحكم وكاشفة عنه، وليست هي الحكم الشرعي نفسه. وعلى هذا الضوء يكون من الخطأ تعريف الحكم الشرعي بالصيغة المشهورة بين قدماء الاصوليين، إذ يعرفونه بانه الخطاب الشرعي المتعلق بافعال المكلفين، فان الخطاب كاشف عن الحكم والحكم هو مدلول الخطاب. أضف إلى ذلك ان الحكم الشرعي لا يتعلق بافعال المكلفين دائما، بل قد يتعلق بذواتهم أو بأشياء اخرى ترتبط بهم، لان الهدف من الحكم الشرعي تنظيم حياة الانسان، وهذا الهدف كما يحصل بخطاب متعلق بافعال المكلفين كخطاب " صل " و " صم " و " لا تشرب الخمر " كذلك يحصل بخطاب متعلق بذواتهم أو بأشياء أخرى تدخل في حياتهم من قبيل الاحكام والخطابات التي تنظم علاقة الزوجية وتعتبر المرأة زوجة للرجل في ظل شروط معينة، أو تنظيم علاقة الملكية وتعتبر الشخص مالكا للمال في ظل شروط معينه، فان هذه الاحكام ليست متعلقة بافعال المكلفين بل الزوجية حكم
شرعي متعلق بذواتهم والملكية حكم شرعي متعلق بالمال. فالافضل إذن استبدال الصيغة المشهور بما قلناه من ان الحكم الشرعي هو التشريع الصادر من الله لتنظيم حياة الانسان سواء كان متعلقا بأفعال أو بذاته أو بأشياء أخرى داخلة في حياته. تقسيم الحكم إلى تكليفي ووضعي. وعلى ضوء ما سبق يمكننا تقسيم الحكم إلى قسمين: احدهما: الحكم الشرعي المتعلق بافعال الانسان والموجه لسلوكه مباشرة في مختلف جوانب حياته الشخصية والعبادية والعائلية والاجتماعية التي عالجتها الشريعة ونظمتها جميعا، كحرمة شرب الخمر ووجوب الصلاة ووجوب الانفاق على بعض الاقارب، واباحة إحياء الارض، ووجوب العدل على الحاكم. والاخر الحكم الشرعي الذي لا يكون موجها مباشرا للانسان في افعاله وسلوكه، وهو كل حكم يشرع وضعا معينا يكون له تأثير غير مباشر في سلوك الانسان، من قبيل الاحكام التي تنظم علاقات الزوجية، فانها تشرع بصورة مباشرة علاقة معينة بين الرجل والمرأة وتؤثر بصورة غير مباشرة في السلوك وتوجهه لان المرأة بعد أن تصبح زوجة مثلا تلزم بسلوك معين تجاه زوجها، ويسمى هذا النوع من الاحكام بالاحكام الوضعية. والارتباط بين الاحكام الوضعية والاحكام التكليفية وثيق، إذ لا يوجد حكم وضعي إلا ويوجد إلى جانبه حكم تكليفي، فالزوجية حكم شرعي وضعي توجد إلى جانبه احكام تكليفية وهي وجوب إنفاق الزوج على زوجته ووجوب التمكين على الزوجة، والملكية حكم شرعي وضعي توجد إلى جانبه احكام تكليفية من قبيل حرمة تصرف غير المالك في المال إلا باذنه، وهكذا.
اقسام الحكم التكليفي ينقسم الحكم التكليفي - وهو الحكم المتعلق بافعال الانسان والموجه لها مباشرة - إلى خمسة أقسام، وهي كما يلي: 1 - " الوجوب " وهو حكم شرعي يبعث نحو الشئ الذي تعلق به بدرجة الالزام، نحو وجوب الصلاة ووجوب إعادة المعوزين على ولي الامر. 2 - " الاستحباب " وهو حكم شرعي، يبعث نحو الشئ الذي تعلق به بدرجة دون الالزام، ولهذا توجد إلى جانبه دائما رخصة من الشارع في مخالفته، كاستحباب صلاة الليل. 3 - " الحرمة " وهي حكم شرعي يزجر عن الشئ الذي تعلق به بدرجة الالزام، نحو حرمة الربا وحرمة الزنا وبيع الاسلحة من أعداء الاسلام. 4 - " الكراهة " وهي حكم شرعي يزجر عن الشئ الذي تعلق به بدرجة دون الالزام، فالكراهة في مجال الزجر كالاستحباب في مجال البعث، كما ان الحرمة في مجال الزجر كالوجوب في مجال البعث، ومثال المكروه خلف الوعد. 5 - " الاباحة " وهي ان يفسح الشارع المجال للمكلف لكي يختار الموقف الذي يريده، ونتيجة ذلك ان يتمتع المكلف بالحرية فله ان يفعل وله ان يترك.