إن التشيع هو المذهب الساحق في إيران من أوائل القرن العاشر ( 905 ه ) إلى يومنا هذا وذلك أن الدولة الصفوية الشيعية هي التي أشاعت التشيع في إيران ، وفي عصرها ثبتت أركانه ، وتعلق به المسلمون تعلقا عظيما ، وتزايد عدد الشيعة بتقادم السنين ، فإن بلغ عدد النفوس في إيران الإسلامية قرابة ستين مليونا ، فالأكثرية هم الشيعة ، ولا يتجاوز عدد سائر الطوائف عن أربعة ملايين نسمة ، يرفل الجميع بثوب الأخوة الإسلامية والمحبة والتفاهم في ظل العقائد العظيمة التي يتمسك بها الشيعة والتي تحدد علاقتهم بإخوانهم من سائر المذاهب الإسلامية ، والتي كرسها قيام الجمهورية الإسلامية المباركة ، بزعيمها الراحل الإمام الخميني ( قدس سره ) والذي دعا إلى تقوية الترابط بين المذاهب الإسلامية المختلفة ، وأمر بإثبات أيام معينة خلال العام سميت بأسبوع الوحدة ، وعلى نفس خطاه واصل خلفه سماحة آية الله السيد علي الخامنئي تعهد شجرة الوحدة بتكافل جميع المسؤولين في الدولة الإسلامية المباركة ، والتي يلمسها بوضوح كل من زار هذه الدولة أو مر بها .
أسباب اعتناق الفرس للإسلام ولمذهب التشيع :
ثم إن هنا أمورا لا محيص عن طرحها وتحليلها ، لأنها من المواضيع التي كثر فيها اللغط ، وقد أكثر المستشرقون وغيرهم فيها الصخب والهياج وهي :
1 - ما هو السبب الحقيقي لدخول الفرس في الإسلام ؟
2 - ما هو السبب الحقيقي لجنوحهم إلى آل البيت ؟
3 - سببان مزعومان : الأصهار ، وإرادة هدم الإسلام .
وإليك تحليل تلك النقاط :
1 - ما هو السبب الحقيقي لدخول الفرس في الإسلام ؟ إن الفرس دخلوا في الإسلام كدخول سائر الشعوب ، والعلة في الجميع واحدة أو متقاربة ، وحاصلها : أنهم وقفوا على أن في هذه الشريعة الغراء من سمات العدل والمساواة ، ورفض التمييز العنصري ، والنظام الطبقي ، وأن الناس فيه كأسنان المشط لا فضل لأعجمي على عربي ولا لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ، وكانت الثورة الإسلامية تحمل يوم تفجرها رايات العدل العظيمة ، فكان ذلك هو الدافع المهم للشعوب للدخول في الإسلام ، والانضواء تحت رايته ، من غير فرق بين قوم دون قوم وشعب دون شعب .
2 - ما هو السبب الحقيقي لولائهم آل البيت ( عليهم السلام ) ؟ إن السبب الحقيقي لولائهم وجنوحهم إلى أهل البيت هو أنهم شاهدوا أن عليا وأهل بيته - خلافا للخلفاء عامتهم - يكافحون فكرة القومية ويطبقون المساواة ، فأخذوا يتحننون إليهم حينا بعد حين ، وشبرا بعد شبر ، فكان ذلك نواة لبذر الولاء في قلوب بعضهم ، يرثه الأبناء من الآباء ، وإن لم يكن الحب - يوم ذاك - ملازما للقول بخلافتهم عن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وإمامتهم بعده ، بل كان حبا وودا خالصا لأسباب نفسية لا قيادية ، وتدل على ذلك عشرات من القضايا نذكر بعضها :
1 - روى الفضل بن أبي قرة عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : " أتت الموالي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقالوا : نشكو إليك هؤلاء العرب ، إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان يعطينا معهم العطايا بالسوية ، وزوج سلمان ، وبلالا ، وصهيبا ، وأبوا علينا هؤلاء ، فقالوا : لا نفعل ، فذهب إليهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فكلمهم فيهم ، فصاح الأعاريب : أبينا ذلك يا أبا الحسن ، أبينا ذلك ، فخرج وهو مغضب يجر رداءه وهو يقول : يا معشر الموالي إن هؤلاء قد صيروكم بمنزلة اليهود والنصارى ، يتزوجون إليكم ولا يزوجونكم ، ولا يعطونكم مثل ما يأخذون ، فاتجروا بارك الله لكم ، فإني قد سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : الرزق عشرة أجزاء ، تسعة أجزاء في التجارة وواحد في غيرها " ( 1 ) .
2 - وروى أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي في غاراته : عن عباد ابن عبد الله الأسدي ، قال : كنت جالسا يوم الجمعة ، وعلي ( عليه السلام ) يخطب على منبر من آجر ، وابن صوحان جالس ، فجاء الأشعث ، فجعل يتخطى الناس فقال : يا أمير المؤمنين غلبتنا هذه الحمراء على وجهك ، فغضب ، فقال ابن صوحان : ليبين اليوم من أمر العرب ما كان يخفى ، فقال علي ( عليه السلام ) : " من يعذرني من هؤلاء الضياطرة ، يقبل أحدهم يتقلب على حشاياه ، ويهجد قوم لذكر الله ، فيأمرني أن أطردهم فأكون من الظالمين ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد سمعت محمدا ( صلى الله عليه وآله ) يقول : ليضربنكم والله على الدين عودا كما ضربتموهم عليه بدءا " . قال المغيرة : كان علي ( عليه السلام ) أميل إلى الموالي وألطف بهم ، وكان عمر أشد تباعدا منهم ( 2 ) .
( 1 ) الكليني ، الكافي 5 : 318 .
( 2 ) الثقفي ، الغارات : 340 ط بيروت ، الحمراء : الموالي ، الضياطرة جمع الضياطر : الضخام الذين لا عناد عندهم . ( * )
3 - روى ابن شهرآشوب : لما ورد بسبي الفرس إلى المدينة أراد عمر بيع النساء ، وأن يجعل الرجال عبيد العرب ، وعزم على أن يحملوا العليل والضعيف ، والشيخ الكبير في الطواف وحول البيت على ظهورهم ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : " إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : أكرموا كريم قوم وإن خالفوكم ، وهؤلاء الفرس حكماء كرماء ، فقد ألقوا إلينا بالسلام ، ورغبوا في الإسلام ، وقد أعتقت منهم لوجه الله حقي وحق بني هاشم " فقالت المهاجرون والأنصار : قد وهبنا حقنا لك يا أخا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : " اللهم فاشهد أنهم قد وهبوا ، وقبلت وأعتقت " ، فقال عمر : سبق إليها علي ابن أبي طالب ( عليه السلام ) ونقض عزمي في الأعاجم ( 1 ) .
4 - روى الصدوق عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : قال : قال رجل له : إن الناس يقولون : من لم يكن عربيا صلبا ، أو مولى صريحا ، فهو سفلي ، فقال : " وأي شئ المولى الصريح " ؟ ! فقال له الرجل : من ملك أبواه ، فقال : " ولم قالوا هذا " ؟ ! قال : يقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : مولى القوم من أنفسهم ، فقال : " سبحان الله ، أما بلغك أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : أنا مولى من لا مولى له ، أنا مولى كل مسلم ، عربيها وعجميها ، فمن والى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أليس يكون من نفس رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ " ثم قال : " أيهما أشرف ، من كان من نفس رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أو من كان من نفس أعرابي جلف بائل على عقبيه ؟ ثم قال : من دخل في الإسلام رغبة ، خير ممن دخل رهبة ، ودخل المنافقون رهبة ، والموالي دخلوا رغبة " ( 2 ) .
5 - روى الفضل بن شاذان ( ت 260 ه ) : أن عمر بن الخطاب نهى عن أن يتزوج العجم في العرب وقال : لأمنعن فروجهن إلا من الأكفاء ( 3 ) .
( 1 ) ابن شهرآشوب ، مناقب آل أبي طالب 4 : 48 .
( 2 ) الصدوق ، معاني الأخبار : 405 .
( 3 ) الفضل بن شاذان ، الإيضاح : 280 . ( * )
6 - روى المفيد : أن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - دخل مجلس رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ذات يوم فعظموه وقدموه وصدروه إجلالا لحقه ، وإعظاما لشيبته ، واختصاصه بالمصطفى ( صلى الله عليه وآله ) وآله فدخل عمر فنظر إليه ، فقال : من هذا العجمي المتصدر فيما بين العرب ؟ فصعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المنبر فخطب ، فقال : " إن الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط ، لا فضل للعربي على العجمى ، ولا للأحمر على الأسود إلا بالتقوى ، سلمان بحر لا ينزف ، وكنز لا ينفد ، سلمان منا أهل البيت ، سلسل يمنح الحكمة ويؤتي البرهان " ( 1 ) .
7 - روى الثقفي في الغارات : أن امرأتين أتتا عليا ( عليه السلام ) عند القسمة ، إحداهما من العرب ، والأخرى من الموالي ، فأعطى كل واحدة خمسة وعشرين درهما ، وكرا من الطعام ، فقالت العربية : يا أمير المؤمنين ، إني امرأة من العرب ، وهذه امرأة من العجم ، فقال علي ( عليه السلام ) : " إني لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفئ فضلا على بني إسحاق " ( 2 ) .
8 - روى المفيد عن ربيعة وعمارة وغيرهما : أن طائفة من أصحاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مشوا إليه عند تفرق الناس عنه وفرار كثير منهم إلى معاوية ، طلبا لما في يديه من الدنيا ، فقالوا له : يا أمير المؤمنين ، أعط هذه الأموال ، وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريشا على الموالي والعجم ، ومن يخاف خلافه عليك من الناس وفراره إلى معاوية . فقال لهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : " أتأمروني أن أطلب النصر بالجور ؟ ! لا والله لا أفعل ما طلعت شمس ولاح في السماء نجم ، ولو كانت أموالهم لي لواسيت
( 1 ) المفيد ، الإختصاص : 341 .
( 2 ) الغارات : 341 . ( * )
بينهم ، فكيف وإنما هي أموالهم " ( 1 ) .
9 - روى المبرد : قال الأشعث بن قيس لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وأتاه يتخطى رقاب الناس وعلي على المنبر ، فقال : يا أمير المؤمنين غلبتنا هذه الحمراء على قربك ، قال : فركض على المنبر برجله ، فقال صعصعة بن صوحان العبدي : ما لنا ولهذا ؟ - يعني الأشعث - ليقولن أمير المؤمنين اليوم في العرب قولا لا يزال يذكر ، فقال علي : " من يعذرني من هذه الضياطرة ، يتمرغ أحدهم على فراشه تمرغ الحمار ، ويهجر قوم للذكر ، فيأمرني أن أطردهم ، ما كنت لأطردهم فأكون من الجاهلين ، والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ليضربنكم على الدين عودا كما ضربتموهم عليه بدءا " ( 2 ) .
هذه الشواهد الكثيرة توقفنا على السبب الحقيقي لتوجه الفرس والموالي إلى آل البيت ، وأنه لم يكن إلا لصمودهم في طريق تحقيق العدل والمساواة ، والمكافحة ضد العنصرية والتعصب .
3 - سببان مزعومان : الإصهار ، وإرادة هدم الإسلام :
أولا : هل الإصهار كان سببا للولاء : روى الزمخشري في ربيع الأبرار وغيره : أن الصحابة جاءوا بسبي فارس في خلافة الخليفة الثاني كان فيهم ثلاث بنات ليزدجرد ، فباعوا السبايا ، وأمر الخليفة ببيع بنات يزدجرد فقال الإمام علي : " إن بنات الملوك لا يعاملن معاملة غيرهن " فقال الخليفة : كيف الطريق إلى العمل معهن ؟ فقال : " يقومن ومهما بلغ ثمنهن قام به من يختارهن " فقومن فأخذهن علي فدفع واحدة لعبد الله بن عمر ،
( 1 ) المفيد ، المجالس : 57 طبعة النجف .
( 2 ) الكامل 2 : 53 ، ط مصر سنة 1339 ه . ( * )
وأخرى لولده الحسين ، وأخرى لمحمد بن أبي بكر ، فأولد عبد الله بن عمر : ولده سالما ، وأولد الحسين : زين العابدين ، وأولد محمد : ولده القاسم ، فهؤلاء أولاد خالة ، وأمهاتهم بنات يزدجرد ( 1 ) .
وقد استند إلى هذه القصة أحمد أمين في فجر الإسلام ، والدكتور حسن إبراهيم في التاريخ السياسي للإسلام ( 2 ) ، وذهبا إلى أن الإصهار صار سببا لتشيع الفرس .
لن ندخل في نقاش مع هذه القصة وأنها هل هي صادقة أو مما وضعه أصحاب الأساطير ، وكفانا في هذا الأمر ما ألفه زميلنا العزيز الدكتور السيد جعفر شهيدي ( 3 ) ، ولو وقفنا إلى جانب هذه القصة وسلمنا بها ، فإنا نسأل أي صلة بين دخول الفرس في التشيع ومصاهرة الإمام الحسين يزدجرد ، فلو كانت تلك علة فليكن تسنن الفرس لأصهار عبد الله بن عمر ومحمد بن أبي بكر لهم ، فإن الرجلين من أبناء الخليفتين ، على أن هذا التفسير يدل على سطحية في التفكير وسقم في المنطق لا يقر به العقلاء .
ثانيا : إرادة هدم الإسلام : أثار بعض أعداء الإسلام ، ومن أعماه الحقد وخبث السريرة ، الكثير من الشبهات حول تمسك الفرس بالمذهب الشيعي ، وولائهم العميق لأهل البيت ( عليهم السلام ) ، ومن هذه الشبهات السقيمة التي وجدت من يطبل لها ويزمر ، هي أن الفرس ما دخلوا في المذهب الشيعي إلا للتستر من أجل هدم الإسلام تحت هذا الغطاء .
وإلى هذا الرأي السقيم يذهب ضمنا أحمد أمين في تخرصاته دون أن يحاسب نفسه على تقولاته التي هي أشد المعاول هدما في صرح الإسلام لا الفرس الذين
( 1 ) ربيع الأبرار 3 : 19 .
( 2 ) تاريخ الإسلام السياسي 2 : 7 .
( 3 ) الإمام علي بن الحسين ، باللغة الفارسية . ( * )
يتهمهم ظلما وجورا ، حيث قال : والحق أن التشيع كان مأوى يلجأ إليه كل من أراد هدم الإسلام لعداوة أو حقد ، ومن كان يريد إدخال تعاليم آبائه من يهودية ونصرانية وزرادشتية وهندية ، ومن يريد استقلال بلاده والخروج على مملكته ، كل هؤلاء كانوا يتخذون حب أهل البيت ستارا ! ! ( 1 ) وقد استغل هذه الأطروحة الخبيثة الكاتب الأمريكي " لو تروب ستودارد " في كتابه " حاضر العالم الإسلامي " الذي نقله إلى العربية الأمير شكيب أرسلان ، وتجد الفكرة أيضا عند صاحب المنار ، ومحب الدين الخطيب ، وغيرهم من كتاب العصر .
وهذا الكلام أشبه بكلام من أعمى الله بصره وبصيرته ، فإن من نظر إلى تاريخ الفرس يجد أنهم خدموا الإسلام بنفسهم ونفيسهم وأقلامهم وآرائهم من غير فرق بين الشيعي والسني ، وخدمات المذهب الشيعي للإسلام أعظم من أن تحصى ، وأوضح من أن تخفيها إرهاصات الحاقدين ، وقد تقدم منا في الصفحات الأولى وما بعدها دور الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية ، وما شيعة الفرس إلا جزءا من عموم الشيعة المسلمين ، ولهم أياد بيضاء مشكورة في خدمة الإسلام ، ولن يضرهم نفث السموم وتخرص المتخرصين .