في الغرب تصنع السياسة كما التكنولوجيا ،، تقدم إلى رجالاتها كخرائط طرق لمختلف الحوادث الآنية و المستقبلية لمدى عقود طويلة ،، فوعد بلفور في مطلع القرن العشرين يعطي ثماره اليوم في بناء وطن قومي كبير للمساكين اليهود ،، و الإنظمة العروبية من نظام صدام المجرم و بن علي و مبارك أدت أدوارها بكل دقة و إخلاص كما رتب أوراقها عمالقة السياسة الغربيين سواء في لندن أو باريس أو البيت الأبيض بل و لربما في دهاليز مجلس الأمن و الأمم المتحدة ،،
بينما في عالمنا الإسلامي و أخص منه بالذكر مجتمعنا العراقي يتم توهم السياسة في المقاهي العامة و الجلسات العائلية و برانيات المراجع و المساجد و المنتديات الأنترنيتية و مجالس اللهو و المسامرة التي تضم سياسيينا الناشئين و حواشيهم و مريديهم و خدم مكاتبهم ،،
لذا فإن فكرة صناعة الموقف و الأوراق السياسية و بناء الظرف السياسي هي من المبهمات في عقلية الكثيرين بيننا لهذا السبب فقد فشل المجاهدون و المثقفون و الأكاديميون و مراجع الدين و قادة الحركات السياسية في العراق من ان يصنعوا سياسة واضحة المعالم تضع خارطة طريق لحل مشاكل البلد الأمنية و السياسية و الإقتصادية و الثقافية و الإدارية فمطابخ السياسة في الغرب تديرها رجالات السياسة التي تسابق الزمن للتحكم في مقدرات العالم و تفرض تأثيراً شمولياً مخملياً على ملامح الكرة الأرضية في حين مطابخ السياسة لدينا لاتختلف كثيراً عن مطابخ ربات البيوت..
و في المقابل ،، نجد سياسة الثورة الإسلامية في إيران ،، و خلال عقودها الثلاثة الماضية تنهج لنفسها مساراً لم تألفه الأمة الإسلامية في تأريخها من قبل من بعد صلح الإمام الحسن صلوات الله عليه و تولي معاوية اللقيط عليه لعائن الله لرقاب المسلمين و إلى اليوم ،،
فكل من قرأ إيران قراءة سياسية منصفة ليجزم أنها لم تبدع و تبرع في مسألة مقاومة الحرب السياسية و العسكرية و الإقتصادية و الفكرية و المعلوماتية و الثقافية و الإيديولوجية التي شنها العالم المستكبر و أذنابه عليها ،، بل إنها أصبحت تبدع في الإنتصار و الظفر في كل ميادين الصراع ،،
فالسياسة الأميركية التي أجبرت الاتحاد السوفييتي و باقي الكتلة الإشتراكية على الركوع و التفكك إنتهت ببشرى يزفها زعيم البيت الأبيض إلى الشعب الأميركي بأنه نجح في إجراء مكالمة تلفونية مع رئيس الجمهورية الإسلامية في إيران ،، لتأت بعد ذلك المتحدثة بإسم الخارجية الأميركية فتوجه لغة خطاب متشنجة جداً إلى الكونگرس الذي اعتاد أن يسمع عن إيران من خلال تل أبيب قائلة بأن الشعب الأميركي الذي أجلسكم في مقاعدكم هو الذي يريد الحل الدبلوماسي في الملف النووي الإيراني ..
بعيداً عن أوهام الهواة و الملائيين و الأميين الذين لا يميزون بين المطابخ السياسية التي تفكك دولاً و بين مطابخ بيوتهم ،، و بعيداً عن أماني العروبيين و الإنهزاميين و مدمني الدهاليز و عباد البرانيات التي تدير دفة الكون بأصبع واحد في لحظة حلم تمر برأس أحد المريدين ،،
فقد نجحت إيران بخلق الظرف السياسي الذي مكنها اليوم في أن تتحول إلى قوة نووية يعترف العالم كله بحقها في إمتلاك الطاقة النووية ،، لم تكن إيران قبل 15 عاما تمتلك من أدوات الضغط السياسي ما يجعل أية دولة العالم كله تفكر في إعطائها أي حق لتخصيب اليورانيوم أو امتلاكه أصلاً ،، و كل ما كانت تطلبه إيران هو أن يعترف بحقها في إمتلاك القدرة النووية ،، في حين ما كان المستكبرون ليتفضلوا على إيران سوى بتخصيب اليورانيوم في روسيا و من ثم نقله تحت الوصاية الروسية إلى إيران و إبقائه تحت الإقامة الجبرية الدولية حتى يتحنن سادة البيت الأبيض و يسمحوا ببعض القطرات المشعة تنتقل إلى حيث يشاؤون و تحت مجاهرهم الأليكترونية ،،
غير أن إيران نجحت من في خلق ظرف لم يفق العالم من صدمته إلى اليوم يتضمن تمكن إيران من تخصيب اليورانيوم بنسبة 20% ،، كان هذا هو الرهان الكبير الذي صنعته إيران ليقلب معادلة السياسة الدولية بشأن ملفها النووي رأساً على عقب و يضغط على خصومها بالرغم من استمرار الحصار الجائر على كل مقدراتها ،،
استفادت إيران من وجود الرئيس أحمدي نجاد في القفز ببرنامجها النووي إلى الدرجة التي تمكنها من إسقاط أوراق الضغط السياسي التي صنعتها بحسب العرض الدولي لتحافظ بالنهاية على هيكليتها النووية و أهدافها و خطوطها الحمراء التي أحاطتها بكل تلك الظروف السياسية و بما فيها التخصيب بنسبة 20% ..
و بهذا تكون إيران النظام الإسلامي الوحيد الذي أصبح قادراً على صناعة تكنولوجيا السياسة و استخدامها في تحقيق الأهداف الاستراتيجية بعيدة المدى من خلال خلق الظروف السياسية و تحريك أوراقها و اسقاط ما كان قد صنع أساساً ليسقط في الوقت المناسب و الظرف المناسب
البعض من الملائيين و الأميين في عالم السياسة ينظر إلى النصر الساحق الأيراني بأنه رضوخ لمطالب الغرب بسبب تضرر الإقتصاد الإيراني نتيجة الحصار الدولي عليها ،، و المضحك المبكي أنهم بكل بلادة يضعون سيناريو تقسيم إيران إلى دويلات في حال إستمرار الحصار الغربي عليها ،، فمتى يتعلم هؤلاء بأن السياسة صناعة طويلة الأمد و بناء معمر و عملية خلق دائم للظرف السياسي لا تقف عند حدود معينة،، و هذا ما أثبتت إيران نجاحها فيه و على مدى عقود من الزمن