ولد الشهيد ميرزا كوچك خان في منطقة "استان سراي" بمدينة رشت الواقعة في شمال إيران.
ترعرع في كنف أبوين ملتزمين بالإسلام، فنشأ نشأة صالحة، وتعمقت هذه النشأة حينما انخرط في دراسة العلوم الدينية في الحوزات العلمية بمدينتي رشت وطهران، حيث تتلمذ على يد أكثر من عالم ديني كبير.
في عام 1895م
استقر في طهران لمواصلة دراسته فيها. وقد كان يتألم كثيراً وهو ابن الثامنة عشرة ربيعاً، وكغيره من الأحرار، من الرياح التي أخذت تهب بقوة على كل بقاع وطننا الإسلامي، والتي تحمل معها سموم التغريب والغزو الفكري. وتنذر بالخطر العظيم، فضلاً عما ينطوي عليه المناخ السياسي السائد يومئذ من تمهيد الأرضية اللازمة للهيمنة الاستعمارية، وفي شتى الميادين وخاصة السياسية والاقتصادية والحضارية.
الموقف السياسي و الجهادي
في غمرة الهجمة الاستعمارية وطلائعها المعروفة، وجد الشاب الغيور نفسه مدفوعاً للوقوف بوجه هذا الخطر الداهم، فراح يساهم في بث الوعي الإسلامي بين صفوف الشباب عبر المحاضرات التي كان يلقيها عليهم، وكان يحث فيها على التحلي بالأخلاق الإسلامية، والتضحية في سبيل الإسلام والمسلمين.
كان الشاب "ميرزا كوچك خان" شاهد عيان للعديد من المخاضات العسيرة التي كانت تشهدها إيران: "انتفاضة التنباك 1889م، اغتيال ناصر الدين شاه 1896م على يد أحد تلاميذ جمال الدين الأفغاني وتسليم الدولة العثمانية ثلاث من تلاميذه بدلاً منه إلى السلطات القاجارية حيث تم اعدامهم، ثورة الدستور (المشروطة) 1906م، اكتشاف النفط 1909م، ازدياد حدة التنافس الغربي _ الروسي على النفوذ في إيران، وما أسفر ذلك كله من اضطراب سياسي انعكس بقوة على الشارع الايراني، وهذا ما أدى إلى تبلور ومن ثم التحديد النهائي للموقف السياسي لميرزا كوچك خان والذي تلخص بالدفاع عن حياض البلد ضد كل المحاولات الاستعمارية (الشرقية والغربية) منها على السواء.
وإذا كانت هناك من محطة تركت أثرها العميق في نفس ميرزا كوچك خان _ كما هو تاريخ إيران الحديث _ فهي ثورة الدستور عام 1906م، حيث اضطر الشاه مظفر الدين إلى إعلان الدستور تحت ضغط المعارضة الدينية، ولكن هذه الفترة الدستورية لم تدم طويلاً، فقد توفي مظفر الدين شاه في العام التالي، وخلّفه محمد علي شاه الذي دخل في صراع مكشوف مع المعارضة، وبعد مواجهات دامية بين الطرفين انتهت بهزيمة الشاه وتنازله عن العرش، ومن ثم هروبه إلى روسيا في تموز 1911م. وفي 24 ديسمبر من السنة نفسها دخلت جيوش القيصر طهران، وعطلت الحياة النيابية. وأثناء رجوع الشاه تحت الحماية الروسية، توجه ميرزا كوچك خان مع عشرات الآلاف من أبناء الشعب الإيراني إلى مدينة "جرجان"، وهناك وقع اشتباك بين الطرفين (أي الجماهير والروس) قتل خلاله الكثيرون، وسقط ميرزا جريحاً مع مئات آخرين، وقد نجا بأعجوبة.
بعد أن استعاد صحته، عاد إلى طهران عام 1912م، وانضم إلى حركة "اتحاد الإسلام" التي أسسها عدد من علماء الدين، بعد ذلك أوجد خلايا مسلحة وتوجه إلى القسم الشمالي من إيران واستقر مع رفاقه في الغابات، وبدأ يتصدى للقوات الروسية والبريطانية.
القوات الروسية
في عام 1917م، واثر سقوط القيصرية وقيام الحكومية البلشفية استدعت الأخيرة القوات الروسية المتواجدة في إيران للعودة إلى بلادها. وفي طريق عودتها بدأت تنهب أموال الناس وتضرم في بيوتهم النار وتنكل بهم، فما كان من ميرزا كوچك خان إلا أن وقف لها بالمرصاد عند الحدود الإيرانية _ الروسية واشتبك معها وأنزل بها خسائر بالغة حيث قتل العشرات من أفرادها مما أجبر تلك القوات للتفاوض مع ميرزا كوچك خان للتخلص من المأزق الذي وقعوا فيه والذي أوجدوه بأيديهم، وأسفرت المفاوضات عن موافقة الروس على تعويض الخسائر الناشئة في اعتداء القوات الروسية على الناس العزل وعدم التعرض لأي فرد إيراني عند الانسحاب من الأراضي الإيرانية.
هذا الانتصار الكبير لفت أنظار الملايين من أبناء الشعب الإيراني المسلم.. وراحت تثني عليه وتبني عليه الآمال العريضة لتحرير الأراضي الإيرانية من دنس الاحتلال، الأمر الذي ساهم في توسيع قاعدته الجماهيرية فقويت شوكته وازداد الثوار حتى أصدروا جريدة مركزية باسم "جنگل" (أي الغابة) نسبة إلى الغابات التي كانوا يستقرون فيها وتتصدر صفحتها الأولى في كل عدد الشعار التالي: "هذه الجريدة تحرس حقوق الإيرانيين وتنور أفكار المسلمين".
الاحتلال البريطاني
بعد سقوط بغداد عام 1917م بيد الاحتلال البريطاني حاول الانكليز بسط نفوذهم على إيران كلها وكانت تزمع على احتلال بلاد القوقاز، غير أنهم كانوا يرون في ثوار الغابات الذين يقودهم ميرزا كوچك خان مانعاً بوجه هذه المطامع الاستعمارية، لهذا قررت بريطانيا التفاوض مع ميرزا كوچك خان وأغروه مقابل السماح لهم بالدخول إلى القوقاز، بيد أنه لم ينخدع بأحابيل المستعمرين فوقعت معركة دامية في منطقة "منجيل" استخدمت خلالها القوات البريطانية الدبابات والطائرات وكبدت قوات ميرزا خسائر جسيمة لأن الهجوم جاء مفاجئاً وكان العدو متفوقاً في مختلف النواحي.
ورغم شهادات قائد الهجوم الذي نشر كتاباً حول "انتفاضة الغابات" فيما بعد والذي وصف فيه ميرزا كوچك خان بأنه شخص ثوري ومثالي وشريف ومنصف.. غير أن أجهزة الدعاية الإنكليزية وأبواقها حاولت إشاعت الاتهامات الرخيصة ضد ميرزا كاتهامه بالعمالة لألمانيا وروسيا والدولة العثمانية.
إزاء ذلك لم يقف ميرزا مكتوف الأيدي بل راح يرد على تلك الإتهامات ببيان وجهه إلى الأمة، قال فيه: "لا يستطيع أي شخص شريف أن يلوم شخصاً يحافظ على بيته وشرفه لأن الدفاع عن النفس يعتبر من الحقوق المشروعة لكل إنسان، وأن الذي لا يدفع الضرر عنه ولا يحرص حقوقه المشروعة ولا يحافظ على دينه ووطنه وشعبه.. فهو عديم الضمير ولا دين له"، وتساءل ميرزا في مكان آخر من البيان: "لماذا نضحي بأنفسنا ويضحي شبابنا بأنفسهم؟ لماذا نتحمل المشقات منذ عدة أعوام؟ لماذا فضلنا النضال وما يترتب عليه من المتاعب على الراحة؟ هل لأجل الحكومتين العثمانية والألمانية؟ أم لبسط سلطة الآخرين؟.. إنها اتهامات قذرة. إن استلام المال من الأجنبي والعمل لصالحه هو شأن الأشخاص التافهين".
ظل ميرزا وأنصاره يواصلون جهادهم المرير. وفي عام 1919م شنت القوات الحكومية بدعم من الانكليز هجوماً مكثفاً على معاقل الثوار أسفرت عن قتل عدد كبير منهم، كما أعلنت الأحكام العرفية في مدينة "جيلان" وأغلقت جميع الطرق بوجه نشاطات الثوار غير أن ميرزا كوچك خان الذي لم يبق معه سوى ثمانية أشخاص لم يستسلم حيث أعاد تنظيم الثوار وواصل النضال ضد الحكومة الانكليزية العميلة لبريطانيا.
حاول البلاشفة استمالته، وحينما دخل الجيش الأحمر ميناء "انزلي" في شمال إيران بتاريخ 18/5/1920م أعلن الشيوعيون فور وصولهم تأييدهم الكامل لميرزا كوچك خان واعتبروه حاكماً على مدينة جيلان وحتى ممثلاً عن الشعب الإيراني، لكن بعد شهرين دبّروا انقلاباً عليه. ولكن الانقلاب فشل غير أن الشيوعيين ظلوا يلعبون دوراً بالغاً في إفشال الانتفاضة التي تلاشت تحت الضربات التي وجهها الشيوعيون إليها من جهة والهجمات التي كانت تشنها القوات الحكومية من جهة أخرى.
الشهادة
ظل ميرزا صامداً حتى بعد استشهاد كافة أنصاره، وبقي يقاوم وحده حتى سقط شهيداً في شهر ديسمبر 1921م، وظل جسده بين الثلوج لعدة أيام حتى عثروا عليه في 22/12/1921م فقاموا بقطع رأسه عن جسده تعبيراً عن مدى الحقد والضغينة، ولكنهم لم يستطيعوا أن يمحوا ثورته وبطولته من مخيلة الناس.