القسم الثالث
بناء فكر الإنسان .
للعقل مكانة كبيرة في الدين الإسلامي ، فهو أصل في التوصل إلى الاعتقاد الصحيح ، وهو دليل من أدلة الاجتهاد ، قال الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :
( . . ولكل شئ دعامة ، ودعامة الدين العقل )
. ومن جانب آخر يشكل العقل دعامة الإنسان المؤمن ، قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :
( من كان له عقل كان له دين ، ومن كان له دين دخل الجنة
.
وقد بلغت النصوص التي تتناول التنبيه إلى دور العقل المئات ، ومن خلال نظرة عامة إلى هذه النصوص نكتشف أن مشروع الإسلام في إعطاء العقل دوره الحقيقي قد جاء على مرحلتين ، فهو يبتدئ بتحرير العقل ، ثم ينتقل إلى توجيه طاقاته . تحرير العقل : هذه الخطوة الأولى من خطوات المشروع الإسلامي المذكور نكتشفها في النصوص التي توجهت إلى نبذ القيود التي تقيد العقل وتمد من نشاطه الحقيقي ، وتقوده إلى أخطاء خطيرة بسبب ذلك . . وهذا ما نجده في نموذجين بارزين : الأول : نبذ التقليد الأعمى : وأمثلته في القرآن الكريم كثيرة جدا ، نقرؤها في سور متعددة ومشاهد متعددة
فبينما كان يؤكد افتقارهم إلى أدنى حجة ذات قيمة في ما يعتقدون من عبادة الأوثان والعقائد الزائفة ، ركز على أن كل ما يمتلكونه من حجة هو أنهم وجدوا آباءهم على ذلك ، فتمسكوا به بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ثم يؤكد أن هذا هو ديدن هذا الصنف من الناس الذي أغلق على ذهنه المنافذ وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ). وهكذا يسوق مقولتهم هذه مرتين في آيتين متتابعتين ليجسد ما تنطوي عليه هذه المقولة من تهافت ، وما يغيب فيه هؤلاء من جهل متجذر موروث لا يصغي لدعوة حق ولا لبرهان ساطع بل ليس لديهم أكثر من ترديد مقولتهم تلك
( أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا
حتى لو جاءهم متحديا لما وجدوا عليه آباءهم مبينا فساده
قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم
؟ حتى مع مثل هذه الاستثارة لا يبحثون عن برهان ، ولا يفتحون نافذة للنظرة ، بل وقفوا دائما بتحجرهم الأول ، و قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون و ( قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا! ! ويكرر القرآن النكير على هؤلاء في مواضع آخر ، لأنه إنما يواجه في مشروعه المعرفي نظريات استحكمت وترسخت لدى أمم متتابعة ، لا يستبعد أن يكون لها امتداد في مستقبل الأمم أيضا . . فلقد تجاوزت هذه النظرية حدود المعارف والمعتقدات إلى السلوك والمعاملات ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا ).
و ( قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون )!
! بعد هذا يبين القرآن الكريم الجزاء الذي ينتظر قوما مضوا على هذا النهج ، مثيرا الأذهان إلى ضرورة الحذر من نهج كهذا .
( فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين )
. توجيه طاقة العقل بعد أن حررت العقيدة الإسلامية العقل من القيود التي تأسره ، أطلقته إلى أمام وهي توجه طاقاته من خلال الالفات والتدبر في الكون والحياة ، من أجل بناء متكامل دينا ودنيا . . ويمكننا أن نشير إلى مجموعات من آيات الذكر الحكيم توجه العقل إلى آفاق رحيبة متعددة ، منها : أولا : التدبر في آيات الله تعالى في الآفاق وفي الأنفس : قال تعالى :
( إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار (
وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) ( قل انظروا ماذا في السموات والأرض . . ) ( فلينظر الإنسان مم خلق ) ( فلينظر الإنسان إلى طعامه ) ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت فذكر إنما أنت مذكر. ومما يلفت النظر عناية القرآن بذكر مشاهد الكون عناية كبيرة من خلال تكرار عرضها في أكثر من سورة ، عرضا متنوعا ، ودعوته الإنسان بإلحاح إلى النظر والتأمل فيها ، والتفكر في مجرى حوادثها ، والأهم من ذلك كله جعل هذا الكون منطلقا للوصول إلى الله تعالى خالقه ومبدعه . وقد ورد عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنه كان يقرأ ( إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ) ، ويقول : ( ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها )
وفي رواية أخرى :
( ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأملها )
. وعن الإمام علي ( عليه السلام ) : ( أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان إذا قام من الليل يتسوك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول ( إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار )
. وقد سلك الأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) طريق الاستدلال على وجود الله تعالى من خلال التأمل العقلي في الكون وما فيه من نظم دقيق وتناسق بديع ، وهو الدليل الذي أطلق عليه المتكلمون " دليل النظم " . قال أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) ( ولو فكروا في عظيم القدرة ، وجسيم النعمة ، لرجعوا إلى الطريق ، وخافوا عذاب الحريق ، ولكن القلوب عليلة ، والبصائر مدخولة ، ألا ينظرون إلى صغير ما خلق ، كيف أحكم خلقه ، وأتقن تركيبه ، وفلق له السمع والبصر ، وسوى له العظم والبشر ! انظروا إلى النملة في صغر جثتها ، ولطافة هيئتها لا تكاد تنال بلحظ البصر ، ولا بمستدرك الفكر ، كيف دبت على أرضها وضنت على رزقها . . . ولو فكرت في مجاري أكلها ، وفي علوها وسفلها ، وما في الجوف من شراسيف بطنها ، وما في الرأس من عينها وأذنها ، لقضيت من خلقها عجبا ، ولقيت من وصفها تعبا . . . فانظر إلى الشمس والقمر ، . . . وتفجر هذه البحار ، وكثرة هذه الجبال وطول هذه القلال ، وتفرق هذه اللغات والألسن المختلفات . . فالويل لمن أنكر المقدر ، وجحد المدبر ، زعموا أنهم كالنبات ما لهم زارع ، ولا لاختلاف صورهم صانع ، ولم يلجؤوا إلى حجة فيما ادعوا ، ولا تحقيق لما أوعوا . . وهل يكون بناء من غير بان ، أو جناية من غير جان !
. ومن ناحية أخرى يثير القرآن الكريم في الأذهان دواعي التفكر الجاد والمثمر في ما يعرضه من معارف ، فمرة بصيغة الاستفهام الاستنكاري ، كقوله تعالى ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا )
. ومرة بصيغة النفي للتصورات الساذجة ، كقوله تعالى
( وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون )
والمعروف أن مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) تجعل التفكر في ملكوت السماوات والأرض عبادة ، بل أفضل عبادة ، يقول الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
( أفضل العبادة إدمان التفكر في الله وفي قدرته
وكان أتباع هذه المدرسة العالية وتلامذتها يكثرون من هذه العبادة الفكرية التي تسهم بصورة فعالة في بناء الإنسان وإيصاله إلى مراتب عرفانية عالية . فعلى سبيل المثال ، كانت أكثر عبادة أبي ذر ( رحمه الله ) والاعتبار وقد سئلت أم أبي ذر عن عبادة أبي ذر فقالت : " كان نهاره أجمع يتفكر في ناحية من الناس
. وينبغي معرفة أن النظرة العامة إلى الوجود التي يرشد إليها الثقلان - القرآن والعترة - هي الأصل الذي تنبثق منه جميع نظرات الإنسان الفكرية واتجاهاته السلوكية ، وهي الأساس في اختلاف الحضارات والثقافات .
ثانيا : النظر في سنن التاريخ :
حيث دعتنا العقيدة إلى تأمل أحداث التاريخ بنظر ثاقب ، وفكر فاحص ، وصولا إلى العوامل التي كانت سببا في تدهور المجتمعات ، وسقوط الحضارات ، أو نموها ، قال تعالى ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين )
. وقال تعالى ( ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكنهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهر تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ). وقال تعالى ( ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين ) . إنها دعوة تلح على الناس أن يحركوا عجلة عقولهم ، وينظروا في تاريخ من قبلهم ، حتى لا يكونوا كالقطيع التائه يسير بلا راع نحو المجهول ،
وهي دعوة ذات منهج مرسوم من أجل الاستفادة من تجارب الحضارات السابقة ودراسة أسباب سقوطها ، لا سيما وأن التاريخ يعيد نفسه قال تعالى ( سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ) ولا بد من التنويه على " أن دور الدين ومسؤوليته في حياة الإنسان هو إيجاد جو من الملائمة والانسجام بين سلوك وتفكير الإنسان وبين سنن الله تعالى في الحياة ، وتحويل مجرى حياة الإنسان إلى تيار هذه السنن الإلهية التي جعلها الله نظاما لخلقه وتكوينه في هذا الكون. فالدين يوجه فكر الإنسان إلى النظرة العميقة والهادفة ، وبطبيعة الحال هناك فرق كبير بين النظرة السطحية الساذجة للحياة والتاريخ ، وبين النظرة العميقة والمتفحصة التي لا تقتصر على ملاحظة الشئ أو الحدث ، وإنما تنفذ إلى أعماقه ، وترصد لوازمه ودلالاته بغية استنباط السنة التاريخية التي تنطبق عليه ، فعلى سبيل المثال يمر السائح على أهرامات مصر ، فينبهر لروعة بنائها ، وشدة ارتفاعها ، ويتمتع بمنظرها وينتهي كل شئ . أما المفكر الواعي المتسلح بالعقيدة ، فعندما يمر عليها ، ترتسم في ذهنه عدة تساؤلات : عن قدرات الإنسان ، وعن الظلم الذي كان سائدا آنذاك من خلال تسخير الفراعنة لأعداد كبيرة من الناس للعمل في بناء هذه الأهرامات ، وما لا قوه من العناء والتعب وصنوف التعذيب ، كما يستنتج ما تنطوي عليه فكرة الفراعنة الخاطئة عن الموت والبعث ، بل يتزود المؤمن الوعي بعد تلك المعارف بالعبرة النافعة وهو يشاهد خرائبها فيتسائل في نفسه ، أين ساكنيها وما مصيرهم ؟ من أجل ذلك يرشد آل البيت ( عليهمالسلام ) إلى أهمية الملاحظة الواعية والنظرة العميقة التي لا تقتصر على ظواهر الأمور ، بل تنفذ إلى الأعماق ، وما تنطوي عليه من أبعاد ، ودلالات تضمنية أو التزامية . فعن الحسن الصيقل ، قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : تفكر ساعة خير من قيام ليلة ؟ قال ( عليه السلام ) : ( نعم ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : تفكر ساعة خير من قيام ليلة. ولما مر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بخرائب المدائن ، أعطى لأصحابه درسا حول العبرة من التأريخ ، قال ( عليه السلام )
: ( إن هؤلاء القوم كانوا وارثين ، فأصبحوا مورثين ، وإن هؤلاء القوم استحلوا الحرم فحلت فيهم النقم ، فلا تستحلوا الحرم فتحل بكم النقم.
وقال ( عليه السلام ) : ( فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته ، ووقائعه ومثلاته . .
وذهب الإمام علي ( عليه السلام ) إلى أبعد من ذلك ، عندما أشار إلى أن السنة التأريخية تنطبق على الجميع ، في كل مكان وزمان ، ولا تقتصر على تدمير الكافرين والمستكبرين ، بل تطال المؤمنين أيضا ، إذا لم يلتزموا - عمليا - بالمنهج الإلهي في الحياة ، وإذا حادوا عن جادة الصواب وذلك حين تختلف الكلمة وتسود الفرقة ، وفي هذا الصدد يقول ( عليه السلام ) :
( وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم ، كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء . . فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء مجتمعة والأهواء مؤتلفة . فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم حين وقعت الفرقة ، وتشتتت الألفة ، واختلفت الكلمة والأفئدة ، وتشعبوا مختلفين ، وتفرقوا متحاربين ، قد خلع الله عنهم لباس كرامته ، وسلبهم غضارة نعمته ، وبقي قصص أخبارهم فيكم عبرا للمعتبرين )
. وكان من جملة وصيته الذهبية لابنه الحسن ( عليه السلام ) يحثه على التفكر في أحوال الأمم الماضية ، وهو ما يسمى اليوم ب " فلسفة التأريخ "
: ( أي بني إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي ، فقد نظرت في أعمالهم ، وفكرت في أخبارهم ، وسرت في آثارهم ، حتى عدت كأحدهم ، بل كأني بما انتهى إلي من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم . .