بغداد بين الدور الاقليمي والبحث عن الهوية
بعد بضعة شهور يكمل العراق عقدا كاملا منذ حدوث التغيير السياسي الكبير الذي نجم عن الحربالانكلو امريكية ضد نظام الرئيس السابق، صدام حسين. وهي فترة طويلة بما يكفي لتقييمنجاحات التجربة السياسية الجديدة واخفاقاتها. كما انها تكفي لاعطاء مؤشر لمدى قدرةذلك البلد على التعافي مما ألم به من امراض بعد تلك التجربة الصعبة.
ويمكن القولان ما حدث في العراق في ربيع العام 2003 كان بداية مرحلة جديدة في المنطقة يمكن النظر اليها من زاويتين متضادتين: فاما انها صفحة جديدة في مشروع 'امركة' المنطقة او انها حقبة التخلص من عقود التبعية والهيمنة الامريكية المطلقة عليها. وفيما يمكناعتبار العراق مدخلا لقراءة ملامح العقد الزمني اللاحق للحرب الانكلو ـ امريكية، فان من الممكن كذلك اعتبار ما يجري في العراق صورة اخرى لذلك السجال.
بمعنى ان بالامكان طرح سؤال واحد بصيغتين: هل اصبح العراق أكثر 'تأمركا' ام انه نجح في مواجهة مشروع 'الامركة'. والصيغة الاخرى: هل اصبح العالم العربي بعد ثورات الربيع العربي أكثر تحررا من القبضة الامريكية ام ازدادت الهيمنة الامريكية على المنطقة؟
والاجابة على أي من هذين السؤالين او كليهما لن يساهم كثيرا في توضيح الصورة. وعليه فربما الاقرب الى الواقع القول بان المشهد السياسي العراقي اولا والعربي ثانيا اصبح اكثر غموضا وتشوشا. فيمكن القول ان الظاهرة الامريكية تعمقت، كما يمكن القول ان الحضور الشعبي ساهم في تقليص ذلك الحضور. أيا كان الامر، لا يمكن قراءة الملف العربي كاملا بدون قراءة المشهد العراقي، ولن تكون الدراسة كاملة بدون ان تنطلق مما جرى في العراق قبل عشرة اعوام وما حدث في السنوات اللاحقة حتى نهاية العام الماضي. ومن المؤكد ان هذا السجال مستنسح داخل اروقة السياسية الامريكية.
فهل ان المصالح الامريكية اصبحت اكثر تعززا في العراق اولا والمنطقة العربية ثانيا، امان النفوذ الامريكي دخل مرحلة المحاق منذ العام 2003؟
في البداية يمكن الانطلاقمن مشاهدات شخصية تكررت عبر حقبتين: احداهما امتدت ما بين مارس 2003 و31 ديسمبر 2011، والاخرى تبدأ بعد ذلك. في زيارة لارض الرافدين قبل عام لم يكن بالامكان تجاهل مشهد القوات الامريكية وهي تجوب شوارع بغداد والعديد من المناطق الاخرى. تبدأ تلكالمشاهدة لحظة مغادرة المطار الدولي حيث يرى الزائر حائطا عملاقا الى يمين الشارع يضم وراءه المنشآت العسكرية الامريكية في واحدة من اكبر القواعد العسكرية في المنطقة، وتتواصل مشاهدة الحضور العسكري الامريكي حتى ليخيل للمشاهد ان الامريكيين جاؤوا ليبقوا، وان قوة في الارض لن تزعزعهم من البلد الذي شنوا حربا شعواء لاسقاط نظامه وتحدوا الرأي العام العالمي الذي كان يعارضها.
بعد عام من المشاهدات الاولى يتغير المشهد العسكري بشكل كبير، فليس هناك اثر للعسكريين الامريكيين، ولالمدرعاتهم او دباباتهم، هذا مع استمرار المشاهد التي توحي باستمرار الازمة الامنية، والحاجة المتواصلة لليقظة لوقف استهداف المدن خصوصا العاصمة بغداد. نقاط التفتيش المنتشرة في كل زاوية لا تنتهي، ومع ان العراقيين اعتادوا عليها ولا يعترضون على وجودها لانهم يرونها ضرورة من اجل الحفاظ على امنهم، الا انها تعوق الحركة بدرجةكبيرة. ايا كان الامر فغياب الامريكيين عن المشهد العسكري، العلني على الاقل، يتطلب التوقف والتأمل. فمع نهاية العام الماضي تسلم العراقيون كل المواقع والقواعدالعسكرية التي بناها الامريكيون، وخرجوا برغم توقيع اتفاقية 'صوفا' او 'اتفاقية وضع القوات الامريكية'.
هذه الاتفاقية توقعها الولايات المتحدة مع اغلب البلدان 'الصديقة' التي تتواجد على اراضيها قوات امريكية. انها الاتفاقية التي اعترض عليهاالامام الخميني في مثل هذه الايام من العام 1963، عندما اقرها البرلمان الايراني، فاعلن الزعيم الديني 'هذا يوم اسود في التاريخ الايراني... هل تعلمون ان بامكان الامريكي ان يقتل مرجعكم الديني ولا يستطيع القضاء الايراني محاكمته؟ جوهر الاختلاف ان الولايات المتحدة ترفض ان يحاكم جنودها او موظفوها امام قضاء الدول الاخرى، وتصرعلى ذلك لتوفر لهم حصانة من العقوبة اذا ما ارتكبوا جرما. العراقيون اصروا على رفض تلك الحصانة بسبب ضغط مراجع الدين، الامر الذي اضطر واشنطن لاعادة النظر في وضعقواتها في العراق. اما القوات البريطانية فقد شعرت بعدم رغبة سكان الجنوب في وجودها، فانسحبت تماما، واعتبرت ان تجربتها في العراق لم تتسم بالنجاح الكامل. فقدشعرت تلك القوات ان شيعة الجنوب لا يريدون بقاءهم، وحدثت مواجهات كثيرة ادرك البريطانيون على اثرها عدم جدوى البقاء في ارض اصبحت 'غير صديقة'. يضاف الى ذلك انتكاليف الاحتلال المادية والبشرية لم تتوقف، ولم تجد القوات الغربية ترحيبا في اوساط الشعب العراقي. اجتمعت هذه الظروف في آن واحد واجبرت ادارة اوباما على اتخاذ قرار الانسحاب من العراق.
هذا لا يعني ان النفوذ الامريكي في العراق قد انتهى. فما يزال لدى الولايات المتحدة اكبر سفارة في العالم تحتل موقعا بارزا على ضفاف نهردجلة، هذه السفارة توظف اكثر من 3000 شخص يمثل وجودهم بهذا العدد الضخم تحديا للعراق وسيادته. العراقيون غير مرتاحين لذلك ويطالبون المعاملة بالمثل. العراقيون يتباهون بالتخلص من الاحتلال.
وتجدر الاشارة الى ان كافة الاتفاقات بين الولايات المتحدة ودول العالم (ومن بينها الدول العربية) توفر حصانة قضائية للامريكيين، فلا يمكن مقاضاتهم امام القضاء المحلي في اي ظرف. واذا كان خروج القوات الامريكية من العراق وتسليمها جميع القواعد العسكرية للقوات العراقية او تدميرها يمثل جانبا ايجابيا في موقف هذا البلد الذي عانى من الحروب والحصار، الا ان معاناته لم تنته وليس ثمة افق قريب لانتهائها.
ومن هذه المعاناة ما يلي:
اولا ان الحصارالظالم الذي فرض على الشعب العراقي لمدة 11 عاما يعتبر واحدة من اكبر جرائم العصر،وما يزال البلد يدفع الثمن الباهظ لذلك الحصار الجائر. ويمكن القول ان الحصارالحالي على ايران يتجاوز في ابعاده ومخاطره حصار العراق. وكانت واشنطن تدعي ان الحصار يهدف للضغط على نظام صدام حسين، ولكن المؤكد انه أضر بالشعب ولم يؤثر على النظام الذي اصر على سياساته ولم يسقط الا بالحرب العسكرية المدمرة. وهناك منالتشوهات والاعاقات في كافة انحاء البلاد الشيء الكثير، كما ان القصف المكثف الذي استخدم فيه اليورانيوم المنضب أحدث تلوثا بيئيا كبيرا وادى الى انتشار امراض عديدة اخطرها السرطان على نطاق واسع.
ثانيا: ان العراق عانى من التوتر الطائفي كثيرا،وشهد وما يزال يشهد، قتلا كثيرا وتفجيرات يومية لم تتوقف وان قلت كثافتها في الشهورالاخيرة. هذا القتل الجماعي اعاد الى الاذهان التجربة الجزائرية الدموية التي اعقبت الغاء التجربة الديمقراطية في العام 1992 ، ومع ان الطائفية تمثلت في اغلبهاباستهداف المواطنين الشيعة الا انها توسعت واصبحت تقضم في الجسد السني بشكل مؤسف. مع ذلك يسجل للعراق انه تعالى على جراح الطائفية، واستوعب التحدي ورفض الانزلاق الى مستنقعها. ولم يعد غريبا ان تسمع عراقيا يقول: لست شيعيا ولست سنيا، بل انني عراقي'. ويمكن القول ان تجربة العراق في رفض المشروع الطائفي رائدة يمكن الاستفادةمنها في بقية البلدان التي تعاني من شرور المذهبية والطائفية. ويؤكد العراقيون انما شهده العراق ليس طائفية دينية، بل سياسيةٍ، وان تلك الخلافات كانت ضمن اجندةالاحتلال الانكلو امريكي الذي رأى فيها وسيلة لضمان هيمنته حاضرا، وترويج فكرة تقسيم العراق مستقبلا.
ثالثا: ان من بين التحديات التي يواجهها العراق في مرحلةما بعد التغيير انتقاله المفاجىء الى نظام 'السوق المفتوحة'.ان هذه الظاهرة سياسة خاطئة يعاني عدد من الدول العربية من آثارها. فالاقتصاد المؤسس على محورية الدولة ودورها في ادارة السوق لا يستطيع التحول بين ليلة وضحاها الى اقتصاد ليبرالي بينمالا تزال اسسه التحتية تعاني من ضعف بنيوي. فاذا حدث مثل هذا التحول نجمت عنه آثارمدمرة.
ومن آثار التحول المفاجىء بسبب تغير النظام توسع الفجوة بين مستويات الاغنياء والفقراء، فالاغنياء يزدادون ثراء خصوصا مع عدم وجود نظام ضريبي معتمد، وصعود الاسعار بمعدلات لا توازي الصعود في رواتب الموظفين. ولولا ارتفاع اسعارالنفظ لعانى العراق من ضائقة مالية حادة خصوصا مع عدم وجود خطط تنموية واضحة، اومشاريع انتاجية تساهم في تعدد مصادر الدخل. هذا البلد النفطي الكبير ما يزال يعاني من نقص الكهرباء وشحة السكن ومشاريع الاعمار الضرورية لانشاء بنية تحتية متماسكة. يضاف الى ذلك غياب التخطيط على مستوى الوزارات وما تقدمه من خدمات. فالعديد منها لايستطيع انفاق الموازنة المخصصة له بسبب عدم قدرته على تنفيذ مشاريع تنموية مناسبة،بمعنى غياب الخطط الاستراتيجية الضرورية لاعادة بناء هذا البلد الذي ما يزال شعبه يعيش مستويات معيشية متواضعة جدا، وبدائية في الكثير من الاحيان.
رابعا: ان هذاالبلد العربي القادر ان يكون في صدارة الدول العربية الكبرى، ما يزال يخضع لاملاءات بلد صغير مثل الكويت. فلا يستطيع امتلاك شركة طيران تربطه بالعالم، لان الكويتيين يطالبون الخطوط الجوية العراقية بطائرات يقولون ان النظام السابق استحوذ عليها بعد اجتياحه اراضيهم. وثمة بوادرلحل هذه الازمة بعد اتفاق بين رئيس الوزراء العراقيوامير الكويت سيؤدي، حسب المصادر، لاعادة تشكيل اسطول جوي عراقي. كما ان الكويت تصرعلى ابقاء العراق ضمن البند السابع، ما لم تقبل بترسيم الحدود الذي فرضته الامم المتحدة قبل عشرين عاما بعد الحرب الانجلو امريكية ضد العراق. ويشعر العراقيون بالغبن ايضا من اصرار الكويت على تشييد ميناء مبارك عند مدخل خور عبد الله، الامرالذي يعتبرونه تهديدا لميناء البصرة، المنفذ العراقي الوحيد للخليج.
خامسا: ان العراق يسعى لانتهاج سياسات مستقلة عن الولايات المتحدة وبريطانيا، وهما الدولتاناللتان قادتا الحرب ضد نظامه السابق. وثمة مصاديق لذلك منها السعي لتأسيس قوة جوية متعددة المصادر، وليست معتمدة على السلام الامريكي او البريطاني فحسب.وفي شهرسبتمبر الماضي وقع رئيس الوزراء، نوري المالكي، صفقة سلاح مع جمهورية التشيك قيمتها اكثر من مليار دولار لشراء 24 طائرة مقاتلة من نوع L-159، مختلفة في نظمها العسكريةعن النظام الامريكي. واعلن لاحقا ان الولايات المتحدة مستعدة لتزويد العراق بطائرات مقاتلة من نوع 'اف 16' بمبالغ ضخمة. ومن المؤكد ان تنفيذ الصفقة والبدء بتسليم الطائرات لن يكون سهلا، وان امريكا سوف تضع شروطا كثيرة على العراق، خصوصا لجهة علاقاتها مع ايران؟ ومن ذلك ايضا انتهاج العراق سياسات مختلفة ازاء ايران التي اصبحت شريكا تجاريا كبيرا، وتجاه الوضع في سوريا. كل ذلك من مصاديق السياسة التي تتميز بقدر من الاستقلال.
سادسا: ان التوافق الداخلي ما يزال متقلبا، وغيرمستقر. لا شك ان هناك نظاما سياسيا يشترك فيه العراقيون بكافة اطيافهم، كالبرلمانالذي يضم ممثلين لمكونات العراق العرقية والدينية والمذهبية، ولكن ما تزال حالة التخندق وراء المسميات المختلفة اقوى من الصمود في المشهد الوطني، وما تزال مصلحةالفئة تقدم على مصلحة الوطن.
انها ظاهرة سلبية ما تزال تبحث عن حل لم يستطع السياسيون توفيره، واذا لم يتوفر فسيصبح العراق مرشحا للتقسيم. كما ان الحكومة تعمل بوزرائها المنتمين لكافة الاطياف، ولكن المنغصات لا تنتهي. وبرغم الترويج للطرح الطائفي، فالواضح ان الاختلاف ليس دينيا او فقهيا بقدر ما هو سياسي يتمحور حول النفوذ والمصالح. ولا شك ان التموج الطائفي له اثر سلبي على صياغة هوية عراقية،فالهوية لا تتواءم مع الفئوية ايا كان شكلها، خصوصا الطائفية منها.
ولذلك استعصى تبلور هذه الهوية في البلد الذي احتضن الحضارات السالفة ويعتبر مهدا لها. ان رغبة العراقيين في بلورة هوية وطنية تتجاوز الحدود الفئوية الخاصة تصطدم بواقع يتصارع فيه الفرقاء المحليون والاقليميون والدوليون على حد السواء.
فالمطلوب ان يتخلف العراق عن لعب دوره الاقليمي وان يبقى حبيسا للخصوصيات العرقية والمذهبية التييفترض ان تكون عناصر قوة وليس اسبابا للضعف. لذلك فالمطلوب من حكام العراق ان يقفزوا فوق الحدود والسدود والعقبات ويقتحموا ميدان النهضة والبناء ولملمة الجراح، وممارسة دور اقليمي فاعل، خصوصا بعد ان اظهروا في السنة الاخيرة براعة سياسية متميزة.
د. سعيد الشهابي كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن