تمهيد :
.. جئثُ أسأل التّاريخ عن حقيقته ، من بعد ما أعيتني الحيلة في وجود الإجابات من ذوي العمائم والعلم ورجالات الدّراية .. من بني قومي .
وها أنا أقدّم بين صفحاته مسألتي عسى أن أظفرَ منه باليقين من حقيقة ما كان عبر الدّهور والأزمان من حوادث ومسائل وتشريعات .. حتّى نقف في كوكبة الفائزين وننضوي تحت راية الناجين من بين 73 طائفة من أمّة خير المرسلين "ص"..
وقد إشتبهت على المؤمن الأمور في الأحكام والأصول ، وإختلط المكروه بالمزبور .. ، حتّى جعل بعضهم لمعبوده مشاعر وأعضاء .. ومنهم من نسب مساوي ومخازي ومنكرات .. لرُسل وأنبياء "ع" .. وبعضهم أنكرَ البسملة منَ السبع المثان ، وأستطاب لحم الكلاب ، وهكذا تاهت الأمّة في مطبّات السلف الصالح الطالح سوى ، حيث إختلط عندها الحقّ بالباطل وضاعت معها موازين العقل والبصيرة .. وصار عندنا المنكر معروف والمعروف منكر .. وهذه تصديقا من مقولة الصادق الأميـــــــن – صلى الله عليه وآله وسلّم - .
المقدّمــــــــة :
.. من هنا وقفتُ عند قاضي التّاريخ أشرحُ له ظُلامتي ، راجيا منه الإنصاف والحقيقة المُنجيّة حيثُ الخاتمة السعيدة وحيثُ خيرُ البريّة .. ولن يكون ذلك إلاّ بكشف البرهان ودفع البهتان عن صفحات الرسالة المحمّديّة الساميّة ، ووضعها في إطارها الطُّهر المقدّس بعد رفع الشوائب عن وجهها السمح الكريم ، وجعلها نقيّة الثوب والضمير كما شاء لها ربُّ العزّ تعالى وسيد المرسلين "ص" .. وحتّى نبلغَ الغاية المُرجاة لا بدَّ لنا من بعض المقارنات في العقيدة التّاريخيّة لأكبر طائفتين من المسلمين : وهم الرّافضة وجمهور العامة بعد أن يضعَ كلّ منهما صفحات معتقده ومنهاجه العبادي والتشريعي عند المحكمة الموقّرة وقاضيها سماحة التّاريخ الصحيح الموثّق : مصدرا وسندا ومتنا مع الإرتباط الزمني للأحداث والأشخاص .. بعد العرض كلّ وارد عندهم في ذلك على الكتاب المقدّس والسنّة الشريفة المتّفق عليها .. مع المستشار الفاضل سماحة العقل الموقّر . بعيدا عن شهود الزور وأصحاب التخمينات والتأويلات وأحلام اليقظة وصكوك التوبة .. وتكون البداية منذ بدء الخليقة وأبو البشر آدم "ع".. حتّى نهاية الرسالة الخاتمة مع وفاة الحبيب المصطفى – صلى الله عليه وآله وسلّم – وذلك في جلسات متواترة يقدّمَ فيها كلٌّ من الفريقان أدلّته وحجّته في كل مسألة والشُبهة ...
ومن صفحات التّاريخ تكون كلّ البيانات والمصدر ومنه ولهُ يكون الحكم الفصل ...
الجلسةُ الثانيّة :
في زواج أبناء آدم "ع" ..
السؤال :
لست أشكّ في إيماني ولله الحمد ولكنها أشياء ترد على الذّهن : لما ولد لآدم وحواء أولاد المفترض أنهم تزوجوا من بعضهما البعض ، أليس زواج الإخوة من أخواتهم حرام في القرآن فكيف حدث ذلك ؟
وجاء جواب أهل السنّة والجماعة في المسألة :
* فإنّه من المعلوم أنّ الأحكام تختلف باختلاف الشرائع مع بقاء الأصول والمعتقد ثابتة في الجميع وإذا كانت صناعة التماثيل جائزة في شريعة سليمان فإنها محرّمة في شرعنا وإذا كان سجود التحيّة جائزا في شريعة يوسف فهو محرم في شرعنا وإذا كانت غنائم المعارك محرّمة على من قبلنا فهي حلال لنا وإذا كانت قبلة غيرنا من الأمم إلى بيت المقدس فقبلتنا إلى الكعبة وهكذا ، وقد كان في شرع آدم عليه السلام تزويج الأخ من أخته بخلاف شرائع من بعده ..
* وفيما يلي توضيح من الحافظ ابن كثير في هذه المسألة :
قال رحمه الله تعالى : [ إن ] الله تعالى شرع لآدم عليه السلام أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال ولكن قالوا كان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى فكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر .. قال السدي فيما ذكر عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يولد لآدم مولود إلا ومعه جارية فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر ..
تفسير ابن كثير . سورة المائدة . آية 27
ولكن عند الشيعة إعتقاد مناقض لما ذُكر .. وهذا بعض أقوالهم ..: جواب سماحة الشيخ باقر الإيرواني: 1 ـ مقتضى ظاهر القرآن والروايات كون آدم أبو البشر ؛ فهو أوّلهم ، نعم قد كان قبله النسناس وبعدهم الجن ، نعم قد ورد في بعض الروايات أن قبل آدمكم ألف ألف آدم ، أي دورات بشرية سابقة غير معاصرة لنا ، كما ورد أن في هذه الكواكب التي ترونها موسى كموساكم وإبراهيم كإبراهيمكم .
2 ـ قد تقدم أنهم ـ على فرض صحة صدور تلك الروايات ـ غير معاصرين وأنهم قد مضت دورات نشأتهم وفصول حياتهم .
س3 ـ الصحيح المعتمد لدى الإمامية بحسب روايات أهل البيت عليهم السلام وهم ادرى بما في البيت هو : أن الله تعالى أتى لهابيل بحورية ولقابيل بجنية تمثلت وتكشفت لكلٍّ منهما فتزوجاهما ، ثم تناكح ما خرج من بطنهما من ابناء وبنات العم وتكثر النسل .
4 ـ نعم هناك قبح ذاتي في زواج الأخوات من الأخوان كما هو في زواج الأبناء من الأمهات وزواج الآباء من البنات وقد استدل الصادق عليه السلام على ذلك بما هو مغروز في طبيعة بعض الحيوانات النجيبة ، كالفرس الأصيل ونحوه من الدواب أنه يمتنع من نكاح اُمّه . كما ان المجرب المشاهد المنقول لدى أصحاب تلك الأنواع من الدواب أن تلك الدواب تتعرض لإهلاك صاحبها فيما لو ألجأها أو غافلها في نكاح أمهاتها أو أخواتها ..
جواب سماحة الشيخ حسن الجواهري :
ان التناسل الذي حصل بين ابناء آدم عليه السلام فيه قولين : القول الأول : وهو الذي يقول بتزاوج الأولاد الذكور بالبنات وقد كان هذا محلّلا في اول الخليقة ثم حرّمه الاسلام . وهذا المذهب يذهب اليه أهل التسنن وبعض من الشيعة الامامية .
القول الثاني : وهو الذي يقول : بأن الله سبحانه لم يجعل نسل الأنبياء من حرام بل انزل الله وخلق للذكور حوريات فتزوج الذكور بها كما خلق الله للبنات حورعين فتزوجوا وكان النسل من هذا التزاوج . وهذا القول يذهب اليه اكثر أهل التشيّع .
وقد روى الصدوق & في كتابه العلل عن الامام الصادق عليه السلام في حديث له ينكر فيه زواج الأخ بأخته فيقول : « سبحان الله عن ذلك علوّاً كبيراً ، يقول من يقول هذا ( أي تزاوج الابناء بالبنات ) : ان الله تعالى جعل أصل صفوة خلقه وأحبائه وأنبيائه ورسله وحججه والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات من حرام !! ولم يكن له من القدرة ما يخلقهم من الحلال ، وقد أخذ ميثاقهم على الحلال والطهر الطاهر الطيب ؟
فهذا الحديث ينفي القول بأن التزاوج كان بين الذكور والإناث من أولاد آدم ويقول : ان الله لم يجعل نسل الأنبياء والأئمة من الحرام .
وهناك قول شاذ ( خارج عن الطريقة ومخالف للنصوص وللتاريخ ) يقول : لا يوجد طريق للتناسل الا تزاوج الذكور بالاناث من أولاد آدم وكان صاحب هذا القول يقول : ان الله لا يقدر ان يوجد طريق للتناسل الا هذا .
وهذا القول باطل لعدة امور :
1 ـ ان الروايات صرحت بوجود طريق آخر للتناسل .
2 ـ ان الله قادر على ايجاد طريق آخر وطريق ثالث للتناسل ؛ لأنه على كل شيء قدير .
3ـ ذهب أهل التشيع الى انزال حوريات من الجنة للتزواج بالذكور وانزل الحورالعين للتزاوج مع البنات ، وهو أمر ممكن وان لم يقبله عقل بعض من الشاذين .
واخيراً نسأل الله تعالى التوفيق لما يحب ويرضى ، وان يجعلنا لا نقول الا بحسب ما دلّ عليه الدليل الشرعي ، وان لا نضيف الى الأدلة ما تمليه عقولنا القاصرة ، فإن عقولنا قاصرة عن قبول ما ذكره القرآن الكريم من جلب عرش بلقيس من مكان بعيد بأقل من طرفة عين ، وعاجزة عن تصور ما قاله احد انبياء الله حينما مرّ على القرية الخاوية على عروشها فقال :
.. أنّى يحيي هذه الله بعد موتها فاماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت ؟ قال لبثت يوما أو بعض يوم ، قال بل لبثت مائة عام فانظر الى طعامك وشرابك لم يتسنّه وانظر الى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر الى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً فلما تبيّن له قال اعلم أن الله على كل شيء قدير.. بقرة / 259 .
جواب سماحة الشيخ محمد السند:
القول الثاني هو السائد لدى علماء الامامية وقد اختاره جمع منهم كالعلامة الطباطبائي في تفسير الميزان وغيره ، ولكن مشهور علماء الامامية هم على القول الأول تبعاً لجملة من روايات أهل البيت عليهم السلام وان كانت بعض الروايات عنهم قد وردت بمفاد القول الثاني من تزوّج الاخوات بالاخوان الذي هو قول وروايات العامة ، لكنها محمولة على التقية ، أما الأدلة التي استند اليها : فأما الأول : فليس كل ما تقول به اليهود مما يوافق الحق والقرآن الكريم هو مرفوض أليس هم يقولون بنبوة النبي موسى وابراهيم واسحاق ويعقوب فهل اللازم رفض ذلك .
وأما الثاني : فكون الجن ليس من جنس الانسان لا يمنع من حصول النكاح ويشير إلى ذلك قوله تعالى في سورة الرحمن : ( فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولاجان ) وقوله : ( حور مقصورات في الخيام ... لم يطمثهن انس قبلهم ولاجان ) ؛ إذ يظهر منه أن الحور العين مع كونهم من جنس يختلف عن الإنس والجن إلا أنه مجمع مشترك بين الجنسين لإمكان حصول النكاح ، وهذا يعزز امكان حصوله بين الجنسين في ما بينهما كما هو مقرر مسلم عند من يتعاطى الصلة بالجن من انهم بامكانهم التكثف والتجسد والتشكل بأشكال مختلفة كما تشير إليه سورة الانفال حيث تشير إلى تجسد إبليس يوم بدر واغرائه المشركين بالحرب ووعده إياهم بالنصر .
وأما الثالث : وهو قوله تعالى : ( وخلق لكم من انفسكم ازواجاً ) فلا تنافي حصول الزوجية من جنس آخر كما هو الحال في سورة الرحمن من اثباتها حصول الزوجية من الحور العين في دار الآخرة ؛ قال تعالى : ( ولهم فيها ازواج مطهرة وهم فيها خالدون ) ، وقال : ( وكذلك وزوجناهم بحور عين 54 / الدخان . فالآية محمولة على الغالب الأكثر وإلا فالنبي عيسى مثله مثل آدم خلقه من تراب من دون أن يكون لمريم زوج ، وقال تعالى : ( وشاركهم في الاموال والأولاد وعدم ) 64 / الاسراء ).. وقد ورد أن من لم يسم عند وطء خليلته وزوجته شاركه الشيطان في تكوين نطفة ولده وكان ولده شرك شيطان مما يدل على نحو مناسبة في مناكحة الجنسين . كما هو مفاد للآية . وقد يشير إليه قوله : ( ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الانس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا ) 128 / الانعام ).
هذا مع أن قد اشارت الروايات الى أن نسل الأنبياء والاوصياء طاهر مطهر لم ينسل من حرام ، وتحريم نكاح الاخوات هو تشريع في كل الشرائع السماوية ، كما هو الحال في تحريم نكاح الأمهات ، فلم يكن لولد آدم أن ينكحوا اُمّهم حواء وأن هذا التحريم حكم فطري فطر الله عليه الحيوانات فضلاً عن بني آدم وهناك من الوقائع والحوادث في الحيوانات المعروفة ما يشهد بوجود هذه الفطرة في الحيوانات... .
** أتركُ التصريح بالحُكم لكم .. ولكن بعد المداولة مع البصيرة وإستشارة العقل **
والحمدّ لله ربّ العالميــــــــــــن