هل المجتمع المصري أصولي؟..سؤال كثيرا ما كان يراودني وأنا أبحث عن الوسطية بين أعين الناس وقلوب وتصرفات المصريين..في الحقيقة لا أستطيع أن أُجزم بالإجابة نعم أو لا، فالإجابة تتطلب معرفة تامة بطبائع وآراء وأفعال قاطني كافة مُدن وقري الجمهورية، وعليه فليزمنا في هذا المقام أن نتعرض لظواهر والحُكم عليها ، فالظاهرة هي أيا كان شكلها هي تنفيس طبيعي لما يعاني منه أو يتميز به المجتمع...ولكن قبيل البحث في الظواهر علينا أولا تعريف "الأصولية" كي يكون التحليل أكثر صرامة علمية ومنهجية...
الأًصولية كما هي في موقع المعرفة الأول ويكبيديا هي.."اصطلاحٌ سياسي فكري يشير إلى نظرة متكاملة للحياة بكافة جوانبهاالسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية نابعة عن قناعة متأصلة نابعة عن إيمانٍ بفكرةٍ أو منظومة قناعات، تكون في الغالب تصوراً دينياً أو عقيدةٍ دينية."......الأصولية بهذا التعريف تتجاوز المُتعارف عليه بذم الأصولية إذ سيُقال وما المانع أن تكون النظرة للحياة نابعة عن قناعة دينية أو أن يكون هذا التصور هو قناعة مبنية علي عقائد دينية؟؟..وهذا السؤال يتطلب أولا قبل الإجابة عليه معرفة هل تلك الأًصولية نتيجة لاجتهاد فكري أو صدام أدي للتنوير أم هو رد فعل لحالة حضارية اتسمت بالشمولية والإستبداد والرفض؟
أستطيع أن أحكم بأنه لو جاز لنا وصف المجتمع المصري بالأصولية أن نقول عنه أنه نتاج إحدي الحالتين ، وبالتالي سيكون توصيف المجتمع لأحدهما دونا عن الأخري..
الحالة الأولي هي اجتهاد فكر ي أو صدام أدي للتنوير، فمن البديهي أنه وحين الإجتهاد الفكري أن يصاحبه صدام أفكار كنتيجة حتمية لهذا الإجتهاد، وبعد الصدام تأتي فرقة محافظة وفرقة إصلاحية ويدور بينهما صراع ثقافي وأحيانا ما يكون سياسيا يؤدي بالتبعية إلي نظرة جديدة وعصرية لمصطلحات ومفاهيم تلك الحُقبة، وبالتالي يتم تفسير تلك المصطلحات والمفاهيم تبعا للمحيط الثقافي والجغرافي والسياسي والديني مما يخلق مرونة تؤدي إلي نظرة جديدة ومتعارف عليها للأصول والفروع الدينية ستعمل علي محاكاة واقع المجتمعات بطريقة سليمة...
أما في الحالة الثانية التي تتسم بالشمول والقمع والرفض فمن المفترض أن تكون الأصولية في هذه الحالة هي رد فعل علي ظلم ورفض لمظاهر التدين، ومن أهم سمات هذه الحالة هي نشوء دعاة ووعاظ دينيون يهبطون فجأة علي تلك المجتمعات دون أي خلفيات دينية أو فكرية تمكنهم من إنتاج دراسات معتبرة ومُعتد بها ومتعارف عليها، بل ستجدهم بالكاد يثيرون الخلافات ويتسببون في أزمات ثقافية ودينية وسياسية مما يفتن المجتمع بهم لتوقه المسبق لمظهر التدين المفقود...فالإستبداد والقمع من شأنه إحداث حالة بلادة فكرية لدي الشعوب ستؤثر تلك الحالة علي المنتوج الثقافي لهم وبالتالي وحسب نظرية الفراغ فأي متحدث بإسم الدين يكفيه فقط امتلاك روح الخطابة أو فصاحة اللسان ليأسر قلوب العامة.فالقلوب نفسها فارغة وتفتقد للزعامتين السياسية والدينية.. وعليه ستكون الأصولية ضاربة في نفوس هذا المجتمع..
الحالة الأولي التي أدت للأصولية هي جيدة لأنها مرت بمراحل المعرفة وتسببت تلك الحالة في تحريك العقل من ركوده وبلادته إلي الإنطلاق والنهضة.
أما الحالة الثانية فهي ليست جيدة إذ لكونها كانت رد فعل فهي بالكاد لا تمتلك وسائل المعرفة المطلوبة للتشخيص وستتسبب في إنتاج شخصية إنسانية متسلطة لا تراعي حق الآخر في الحرية والإبداع ، وستستخدم الدين حتما في قتل المجتمعات عبر الإهتمام بالصغائر وترك الكبائر..
بعد عرض هاتين الحالتين نستطيع أن نوجزهما في تبعية أهلية العقل للإنتاج والعمل النهضوي لشرطين أساسيين ..أولهما الحرية بتعريفاتها المتعارف عليها...ثانيهما مرور العقل بمراحل المعرفة مما يكسبه ميزة التجربة وبالتالي سيكون التشخيص سليما...
أما عن صحة توصيف المجتمع المصري بالأصولية فهذا نكله لتعريف الحالتين ورغم أنه تعريف سيخضع حتما للنسبية إلا أنني أراه أقرب التوصيفات لمعرفة الأصولية وتمييزها في شخوص الأعيان والمجتمعات، هذا رغم أنني أري أن المجتمع المصري هو إحدي أقوي المجتمعات العربية التي تجمع بين الأصولية في الحالتين ولكن وفي ظل التنافس بينهما يتأرجح الفوز لأحدهما علي الآخر حسب الظرف السياسي والإقتصادي، فالنهضة الفكرية المصرية مرت بمراحل وتجارب عديدة أعترف أن التيار الإسلامي كان منتوجه فيها ضعيفا، بل كان هو نفسه عقبة أحيانا لتصدير الأصولية الصحيحة بوقوفه ضد أفكار المبدعين وتسليط كشاف الحُكم بسرعة دون حوار أو استبيان لمعرفة المتنازع عليه حق معرفته، هذا وإن كان ذلك نتيجة لتأثير القمع علي الإسلاميين إلا أنه خصم كثيرا من رصيد الإسلاميين عند الإعتداد بتاريخ النهضة..وعليه كان ومن الضروري العمل علي إنتاج تصور صحيح للواقع وربطة بالأصول والفروع، فكم من المبدعين والمفكرين الذين عانوا من نظرية الإقصاء والرفض نتيجة للتعبير عن قناعاتهم وآرائهم..
أيضا أري من أبرز عيوب الأًصولية الناتجة عن القمع والرفض هو عدم تفهم الحداثة كما ينبغي، بيد أن شكلت لديهم الحداثة أفهاما أصبح متعارفا عليها باعتبار المصطلحات التي أتت بها الحداثة وكأنها أديان و معتقدات وهذا خطأ شنيع يجب مراجعته، فالحكم علي الشئ فرع تصوره، وقبل التجاوز لابد من الإستيعاب، لا يكفي أبدا أن نختصر الإنسان وعقله الذي ميزه الله بالفكر أن نختصره في نص قد يكون صحيحا وقد يكون ضعيفا ،وقد يقبل التأويل وقد لا يقبل، وقد يكون مطلقا وقد يكون مقيدا، وقد يكون ذي اختصاص بالمسألة وقد لا يكون...هنا تأتي مهام العلماء والمفكرين ليس فقط في الشرع بل أري أنه ومن الضروري للأصولية السليمة أن نعتق رقاب كافة المجتهدين من البتر، وأن نعمل علي صياغة جديدة للعقل المسلم يتقبل بها الآخر دون أن يعتقد بوصايته عليه، وأن ندعم العلم بكافة طاقاتنا ، وأن نحترم العلماء والمفكرين، وأن نُجل الدعاه وفي ذات الوقت لا نتركهم يثيرون الخلاف دون تقويم، وأن نعمل سويا علي إنتاج نهضة فكرية تعترف بالآخر وتُقدس حقه في الإختيار.