وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ )
الاعداد المعرفي والدعوي للحج وماهي البدائل للمحرومين من الحج؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولاحول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:
)وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)
دلالات حرف اللام في (ليشهدوا) الحديث سيدور باذن الله تعالى حول (اللام ) في كلمة (ليشهدوا ) :
وقوله تعالى (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا ) أي راجلين , (وعلى كل ضامر) أي وركبانا على كل ضامر
( يأتين ) أي تلك الضوامر (من كل فج ) وهو الطريق الواسع بين جبلين (عميق ) أي بعيد, وإنما يأتوك؛ (ليشهدوا منافع لهم ).والحديث حول هذه الآية حديث متنوع الأبعاد, اذ أن هناك مثلاً بحثاً مترامي الأطراف, حول (الكاف ) في (يأتوك ) ماهو معناها ؟
وما هو السر فيها ؟
وكيف هو الإتيان ؟
ومن هو المخاطب بـ (يأتوك )؟
اذ أن المخاطب ظاهرا هو نبي الله إبراهيم (عليه وعلى نبينا واله السلام) وهو كذلك، ولكنه ليس كل الأمر. وهناك كلام واسع حول هذه (الكاف) بالذات , وهو بحث ولوي من المباحث الهامة جدا , لعلنا نوفق لبيانه لاحقا , بإدراجه في مباحث الإمامة وما يتعلق بها
وكلامنا ألان حول الحج
"ليشهدوا منافع لهم "
هل الذهاب للحج مقتضٍ لشهادة هذه المنافع؟
وإذا كان كذلك فقد لا تحصل, وقد لاتترتب, ام ان الذهاب علة تامة؟ أي اذا ذهب الإنسان للحج ,وان كان ضالا منحرفا , فان المنافع ستترتب على حجه ـ أي بعضها ـ قهرا وقسرا , قصد ام لم يقصد ,شاء ام أبى .
وبعبير آخر : هل (اللام ) هنا هي لام العاقبة ؟ فتفيد القهرية والقسرية , أي أذن في الناس بالحج .. ليشهدوا .. أي ليترتب على ذلك شهادتهم منافع لهم , أي خارجا , شاءوا ام ابوا ,قصدوا ام لم يقصدوا , هذا احتمال ,ام أن اللام لام التعليل ؟
هل منافع الحج قصدية أو لا قصدية؟ وبعبارة أخرى :
هل هذه المنافع هي من المنافع القصدية ؟ ام هي من المنافع اللاقصدية ؟
توضيح ذلك : ان الأفعال على قسمين :
اولاً) الأفعال القصدية ,في ترتّب إحكامها عليها , وفي ترتّب الثمرات عليها .كالحيازة مثلا ,اذ انها عمل قصدي ـ حسب مشهور الفقهاءـ فلو حاز الإنسان شيئا غير قاصد للتملك ,فهو ليس بمالك
.
ثانياً) الأفعال اللاقصدية, كالكسر الموجب للضمان ,كما لو كسر شخص زجاج الغير ,فانه ضامن, سواء أقصد الكسر ام لا , وسواء أكان نائما ام مستيقظا.
وعلى هذا فإن المنافع بدورها قصدية وغير قصدية, على ضوء ذلك وبملاحظة قوله تعالى:
(لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ)
نسأل: هل شهادة هذه المنافع ,وحضورها, والاستزادة والتزود منها قصدية ام لا ؟ هذا هو محل البحث كما سيأتي ان شاء الله تعالى , وسنقول :ان المنافع على قسمين: بعضها قهري غير قصدي حتى للناصب في (عرفة) كما في بعض الروايات، وبعضها قصدي وطوعي ,ومرهون بجملة من الشروط والمقدمات , ولعلنا نوفق لتفصيل هذا المبحث في المباحث القادمة ان شاء الله . ولكننا هنا نقول : بان هذه المنافع، القصدي منها وغير القصدي ,تتوقف على الإعداد والاستعداد , نظير قوله:
(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)
وفي ما نحن فيه , فإن الحج لكي تشهد منافعه ,لابد في بعض مراتبه من ان يكون هناك استعداد وإعداد .
فعلى حسب مستوى ونوعية الإعداد والاستعداد سيشهد (الحاج ) منافع الحج ,وإلا فإنها ستتضاءل وتتقلص الى الحد الأدنى اللاقصدي .
وهذا البحث مترامي الأطراف ,لذا نحن نقتصر على بعض الكلام عن بعض العناوين, فنقول:
الإعداد على أنواع :
1)الإعداد المعرفي :بان يحاول المرء ان يطّلع ويتعرف على شتى إبعاد الحج :من معارفه ,وأسراره ,وأحكامه , ومستحباته, وغير ذلك , وهذا البحث يحتاج الى محاضرات عديدة , لكننا نذكر مثالا واحدا بإيجاز :
من المستحبات التي وردت حولها روايات عديدة: أن يطوف الإنسان أيام مكثه في مكة ,بعدد ايام السنه, أي على الانسان ان يطوف استحبابا (360) أسبوعا ,وليس شوطا , فان عجز أو عسر عليه ذلك انتقل التكليف الاستحبابي الى الاشواط أي 360 شوطاً، فإن عسر عليه ذلك فما تيسّر.
وهذا عدد ليس بالقليل , وقد كنت أفكر ذات مرة: انه اذا كان كل طواف يستغرق (10) دقائق , فاذا فرضنا بقاء الانسان (10) ايام في مكة , فلابد ان يطوف يوميا (6) ساعات كاملة, ليتمكن من طواف (360) طوافا خلال العشرة ايام.
وهذا المستحب مذكور في الروايات لكن الكثير من الناس غافلين عنه , إذ يقضون وقتهم بالتسوق والتجوال والجلسات التسامرية ,ومشاهدة هذا الشئ او ذاك ,فهذا ليس بمأمولٍ ممن يقصد بيت الله , ومهوى الافئدة والعقول .
إذن أولا الإعداد المعرفي , فعلى الإنسان ان يراجع كتاب الحج من (البحار) بأكمله , وحقيقةً فان كتاب (البحار) يعد من الألطاف الإلهية التي لا نعرف قدرها كما لا نعرف قدر الكثير ,الكثير , من الألطاف الإلهية الكبرى ,
لذا حجب الله عنا ولي أمرنا الإمام المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) ).
ان (البحار) ثروة هائلة لا تقدر بثمن, وعلى الإنسان ان يطالع على الاقل كتاب (البحار ) في اداب الحج ,في سننه , في واجباته , في حكمته ,في فلسفته ,وخفاياه ,وأسراره , إضافة الى وجوب ان يكون الانسان مسلحا بالمعرفة الشرعية في واجبات الحج ومحرماته، بالمباشرة ,او عن طريق المرشد الديني , كي لايقع في الحرام.
2)الاعداد الدعوي : تارة يذهب الإنسان الى مكة والمدينة فيرجع بمحصلة , انه قد هدى الله على يديه (10)أشخاص ,او(100) شخص ,او (1000)شخص ,او غير ذلك - على حسب مستوى إعداده، وحسب علو همته ونشاطه وجده واجتهاده
-
وتارة يرجع صفر اليدين, وهذا يعني انه لم يشهد هذا النوع من المنافع , اذ ان الحج ملتقى عالمي ,لا نظير له على مر التاريخ , وسوف لن يكون له نضير , اذ ان أحجاراً وضعها نبي في غابر الأزمان ,ستغير وجه التاريخ، وتستدعي ما لا يعد ويحص من الناس من شتى أرجاء المعمورة على مر التاريخ.
إذن لا بد من الإعداد والتخطيط الدعوي الشامل, فإذا أراد المرء الذهاب الى الحج فسواء أكان حاجا, ام مرشدا ,ام حملدارا , او غير ذلك فعليه ان يعد ويستعد ,ويطالع مسبقا ويستشير أهل الخبرة, اذ انه سيلتقي بمذاهب اخرى ,ويسمع افكاراً اخرى ,وتوجهات اخرى، فهل هو مسلح معرفيا لمواجهة كل ذلك؟, وهل طالع امثال (المراجعات ,والنص والاجتهاد) , و أمثال ( ثم اهتديت ,ولأكون مع الصادقين ) ؟ وأمثال (الرحلة المدرسية) وغيرها
وهل طالع ما يتعلق بشؤون سائر الملل ؟ اذ ان هناك قوميات مختلفة ,لهم سيكولوجية خاصة وعلم نفس خاص , ومداخل نفسية خاصة ,ولهم أسلوب خاص , فعندما يلتقي الإنسان بهم ,هل له هذه المعرفة , من اين يدخل في الحديث معهم ؟ ومن اين يخرج ؟ حتى يكون الكلام بليغا , إضافة الى كونه فصيحا , فبأبلغ السبل وأيسرها ,يصل لأفضل الثمار وأكثرها .
ومن مصاديق الإعداد الدعوي : التخطيط لمؤتمرات, وندوات, واجتماعات , اذ ان الكثير من المبلغين او سائر الناس من المؤمنين يذهبون إلى الحج لكنهم لايرجعون بحصيلة جيدة من التفكير والتخطيط الاشمل لحماية أفضل للمقدسات أو لتوفير الحماية لإتباع اهل البيت (عليهم ازكى الصلاة والسلام) في العالم , اوفي كيفية إنقاذ المستضعفين فكريا وعمليا. اما لو خطط كل حاجّ من الان لعقد مثل هكذا مؤتمرات ـ لأن إنجاح المؤتمر ليس بالأمر السهل بل يحتاج تفكيرا وإعدادا ودراسات , وحسن انتخاب لمن يديرونه بان يكونوا على درجة من المعرفة والخبروية، وأموالا وغير ذلك ـ فسوف تتحقق جملة أكبر من المنافع التي وعدت بها الآية الشريفة .
والحديث في هذا الحقل (الإعداد ) طويل , وهناك ست مصاديق أخرى للإعداد ,لعلنا نذكرها في وقت لاحق ان شاء الله تعالى .
... الى هنا كان الحديث موجهاً لأولئك الذين يوفقهم الله تعالى ,للتشرف بزيارة بيته الذي عبر عنه
بـ)أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً)
, بكل ما للبركة من معنى . والكثير سوف يحج ان شاء الله من انحاء المعمورة ,
ولكن :
ماذا لمن لم يوفق للحج ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
ان الكثير من الناس قد لا يكونون قادرين على الذهاب للحج, اذ لم تتيسر لهم السبل , فما الذي يصنعونه حينئذٍ، على ضوء الروايات ؟
وهذا ايضا بحثه طويل .والوظائف عديدة في هذا المجال, والسبل للتعويض عن الحرمان من الحج في الروايات,كثيرة ومتنوعة, وسوف نذكر عددا منها :
1- كثرة الصلاة على النبي وآله
السبيل الاول : على من لم يتيسر له الذهاب الى الحج، ان يكثر من الصلاة على محمد وال محمد , "فعن عبد الله بن الفضل يقول : قلت لابي عبد الله ( عليه السلام ) : ان عليّ دينا كثيرا ,ولي عيال , ولا اقدر على الحج, فعلمني دعاءا ,أدعو به , فقال (عليه السلام ) : قل في دبر كل صلاة مكتوبة : اللهم صل على محمد وال محمد ,واقض عني دين الدنيا ودين الآخرة.
فقلت له (عليه السلام): أما دين الدنيا فقد عرفته , فما دين الآخرة؟ فقال:دين الآخرة ,الحج "
ان الانسان لو التزم بهذا الدعاء , فان الله تعالى سيقضي حاجته المادية للدنيا , وييسر له الحج بلطفه وكرمه ولو في سنة قادمة .
وقد وردت روايات كثيرة في هذا المجال , فقد ورد ان الله تعالى انما اتخذ ابراهيم خليلا ؛ لكثرة صلاته على محمد وال محمد اللهم صل على محمد وال محمد
قضاء حوائج الاخوان هو السبيل الثاني : وهو التعويض بقضاء حوائج الإخوان , والغريب أن نجد أكثر الناس عن هذا السبيل، غافلين, وهو سبيل مهم جدا, لأن أكثر الناس محتاجون، بل لعله لا يخلو امرئ من حاجة, فقد يحتاج احدهم الى مالٍ ,وقد يكون محتاجا لوساطةٍ لتسهيل امرِ زواجٍ او لتوظفٍ او لعملٍ , او يكون محتاجا لمعرفةٍ أي محتاجا للاجابةِ عن سؤالٍ او شبهةٍ , والحاجات كثيرة ومتنوعة .
وأفضل تعويض لمن لا يوفق للحج ,ان يقضي حاجة مؤمن , فإن الأجر عليها عظيم جداً، كما سيأتي. فعلى الانسان الذي حرم من اداء الفريضة المباركة ان يصمم في كل يوم على ان يقضي ولو حاجة واحدة, سواء أكانت حاجة من حوائج ابنه او زوجته , او أخيه , او أي إنسان آخر , فيقضي حاجة واحدة بهذه النية , فان زاد على الواحدة ,زاد الله له بمنه وكرمه . فقد روى الشيخ المجلسي (ره) في البحار, عن كتاب ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ره) عن إسحاق بن عمار، قال: قال أبو عبد الله عليه سلام الله يا اسحاق: من طاف بهذا البيت طوافا واحدا كتب الله له الف حسنة ,ومحى عنه الف سيئة ,ورفع له الف درجة ,وغرس له الف شجرة في الجنة , وكتب له ثواب عتق الف نسمة (هذا كله كمقدمة)
ثم تقول الرواية : (حتى اذا صار الى (الملّتزم) ,فتح الله له ثمانية أبواب الجنة ,يقال له : ادخل من ايها شئت...) ولا بد من الألفات الى ان أبواب الجنة ليست مجموعة أبواب تؤدي الى مؤدى واحد حتى يتوهم بان ذلك تخيير تشريفي , بل هي أبواب لمراتب سامية في الجنة , اذ ان هناك (باب الصابرين), و(باب الشاكرين), و(باب المجاهدين) وهكذا, وهذا يعني انه يخير في الدخول من الأبواب الثمانية, بأيها رآه الأفضل بحاله واستعداده وشاكلته النفسية وطموحاته
.
ثم تذكر الرواية : (قال : فقلت : جعلت فداك , هذا كله لمن طاف ؟ قال: نعم , الا أخبرك بما هو أفضل من هذا , قال : فقلت : بلى , قال من قضى لأخيه المؤمن حاجة ,كتب الله له طوافا وطوافا ...حتى بلغ عشرا "
اذن هذا سبيل واسع للغائب عن الحج والمحروم منه
, بل حتى من كان في الحج , اذا أراد ان يربح الخيرين , ويجمع الخيرات من أطرافها فعليه أن يجنّد نفسه لقضاء الحوائج وذلك عن ثواب الأعمال كالمرشدين والموظفين ,وغيرهم ممن يخدمون الحجاج, ويقومون باداء فريضة الحج في الوقت نفسه فهنيئا لهم, فقد جمعوا الخير من طرفيه .
ثم انه قد يكون قضاء حوائج المؤمنين فرديا , وقد يكون مؤسسيا ,وقد يكون دوليا , او باي شكل من الأشكال , وهذا له بحث واسع يحتاج الى مجال آخر
.
زيارة الإمام الحسين عليه صلوات الله وسلامه السبيل الثالث :
وقد ذكر الائمة لنا طريقا ثالثا ما اروعه وما اجمله وما افضله وما اكمله وهو زيارة سيد الكائنات الامام ابي الله الحسين (عليه ازكى الصلاة وازكى والسلام )