تولّى منصب الإمامة بعد أبيه الصادق(ع) في وقت شهدت فيه الدولة العباسية استقرارأركانها وثبات بنيانها، فتنكـّرت للشعار الذي كانت تنادي به من الدعوة لآل محمد عليه وعليهم السلام، وتنبّهت الى الوريث الشرعيّ لشجرة النبوة، مشهرة سيف العداء له ولشيعته، تلافياً لتعاظم نفوذه في أن يؤتي على أركان دولتهم ويقضي عليها، فشهد الإمام الكاظم(ع) طيلة سنيّ حياته صنوف التضييق والمزاحمة، إلا أن ذلك لم يمنعه(ع) من أن يؤدّي رسالته في حماية الدين وقيادة الأمة.
زهد الإمام الكاظم ( عليه السلام ) وحلمه
كان الإمام الكاظم ( عليه السلام ) زاهداً في الدنيا ، ومعرضاً عن مَبَاهجها وزينتها ، فآثرَ طاعة الله تعالى على كل شيء .
وكان بيته ( عليه السلام ) خالياً من جميع أَمتِعَة الحياة ، وقد تحدث عنه إبراهيم بن عبد الحميد فقال :
دخلت عليه في بيته الذي كان يصلي ( عليه السلام ) فيه ، فإذا ليس فيه شيء سوى خصفة ، وسيف مُعلَّق ، ومصحَف .
وكان ( عليه السلام ) كثيراً ما يتلو على أصحابه سيرة الصحابي الثائر العظيم أبي ذر الغفاري الذي طلّق الدنيا ، ولم يحفل بأي شيء من زينَتِها قائلاً :
( رحم الله أبا ذر ، فلقد كان يقول : جَزى الله الدنيا عني مَذمّة بعد رغيفين من الشعير ، أتغذّى بأحدهما ، وأتعشّى بالآخر ، وبعد شملتي الصوف ائتزرُ بأحدهما وأتَردّى بالأخرى ) .
لقد وضع الإمام الكاظم ( عليه السلام ) نصب عينيه سيرة العظماء الخالدين من صحابة جَدِّه سيد المرسلين ( صلى الله عليه وآله ) يشيد بسيرتهم ، ويتلو مآثرهم على أصحابه وتلاميذه ، لتكون لهم قدوة حسنة في حياتهم .
وأما الحِلم فهو من أبرز صفات الإمام ( عليه السلام ) ، فقد كان مضرب المثل في حلمه وكَظْمِه للغَيظ .
ويقول الرواة : أنه ( عليه السلام ) كان يعفو عمن أساء إليه ، ويصفح عمن اعتدى عليه ، وذكر الرواة بَوادِر كثيرة من حلمه كان منها :
أولاً :
إن رجلاً كان يسيء للإمام ( عليه السلام ) ويسبُ جَدّه الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فأراد بعض شيعة الإمام ( عليه السلام ) تأديبه ، فَنَهَاهُم عن ذلك ، ورأى أن يعالجه بغير ذلك .
فسأل ( عليه السلام ) عن مكانه ، فقيل له : إن له ضيعة في بعض نواحي المدينة المنورة ، وهو يزرع فيها .
فركب الإمام ( عليه السلام ) بَغلَته ، ومضى متنكراً إليه ، فأقبل نحوه .
فصاح به الرجل : لا تَطأْ زرعنا .
فلم يحفل به الإمام ( عليه السلام ) إذ لم يجد طريقا يسلكه غير ذلك .
ولما انتهى إليه قابله الإمام ( عليه السلام ) بِبَسَمات فَيّاضة بالبشر قائلاً له : ( كم غرمت في زرعك هذا ) ؟
فقال : مائة دينار .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( كم ترجو أن تصيبَ منه ) ؟
فقال : أنا لا أعلم الغيب .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( إنما قلت لك : كَمْ ترجو أن يجيئَكَ منه ) ؟
فقال : أرجو أن يجيئَني منه مائتا دينار .
فأعطاه سَلِيلُ النبوةِ ثلاثَ مِائة دينار وقال : هذه لك وزرعك على حاله .
فانقلب الرجل رأساً على عَقِب ، وخَجل على ما فَرّط في حقّ الإمام ( عليه السلام ) .
ثم انصرف الإمام ( عليه السلام ) عنه وقصد الجامع النبوي ، فوجد الرجل قد سبقه ، فلما رأى الإمام ( عليه السلام ) قام إليه ، وهو يهتف بين الناس : الله أعلمُ حيثُ يجعل رسالته فيمن يشاء .
وبادرَ أصحابه مُنكِرين عليه هذا التغيير ، فأخذ يخاصمهم ويذكر مناقب الإمام ( عليه السلام ) ومآثره .
لقد عامل الإمام ( عليه السلام ) مبغضيه ومناوئيه بالإحسان واللّطف ، فاقتلَعَ من نفوسهم النزعات الشريرة ، وغسل ( عليه السلام ) أدمِغَتَهم التي كانت مُترَعَة بالجهل والنقص .
وقد وضع ( عليه السلام ) أمامه قوله تعالى :
( إِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيْمٌ ) [ فصلت : 34 ] .
ثانياً :
ومن آيات حِلمه ( عليه السلام ) أنه اجتاز على جماعة من أعدائه ، كان فيهم ابن هَيّاج ، فأمر بعض أتباعه أن يتعلق بِلِجَام بَغْلَة الإمام ( عليه السلام ) ، ويَدّعي أنها لَه ، ففعل ذلك ، وعرف الإمام ( عليه السلام ) غايته ، فنزل عن البَغلة وأعطاها له .
وقد أعطى الإمام ( عليه السلام ) بذلك مَثَلاً أعلى للحلم وسِعَة النفس .
وكان ( عليه السلام ) يوصي أبناءه بالتَحَلّي بهذه الصفة الكريمة ، فقد قال ( عليه السلام ) لهم :
( يَا بني ، أوصيكم بوصية مَن حَفظَها انتَفَع بها ، إذا أتاكم آتٍ ، فأسمع أحدَكم في الأذن اليُمنى مَكروهاً ، ثم تَحوَّل إلى اليسرى فاعتذَرَ لَكم وقال : إِني لم أَقُلْ شيئاً ، فَاقبلُوا عُذرَه ) .
شهادة الإمام الكاظم ( عليه السلام )
عاصر الإمام الكاظم ( عليه السلام ) خلال فترة إمامته أربعة من الخلفاء العباسيين وهم : المنصور ، المهدي ، الهادي ، الرشيد .
وقد زخرت هذه الفترة بالأحداث والوقائع التاريخية الخطيرة ، وكان من أبرز تلك الوقائع هي الثورات والسجن والملاحقات والقتل الفردي والجماعي لآل علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) ، وبني عمومتهم من الطالبِيّين .
فالولاة يحكمون ويعبثون ويتصرفون كيف شاءوا ما زالوا محافظين على طاعة الخليفة .
لأن المطلوب هو الولاء للخليفة العباسي لا بَسط العدل وإقامة أحكام الإسلام ، وفي مثل هذه الأوضاع كان طبيعياً أن ينال الإمام ( عليه السلام ) الظلم والسجن والاضطهاد .
فأمر الرشيد بنقل الإمام من سجن الفضل إلى سجن السندي بن شاهك ، والأخير كان شريراً لم تدخل الرحمة إلى قلبه ، وقد تَنكّر لجميع القِيَم .
فكان لا يؤمن بالآخرة ولا يرجو لله وقاراً ، فقابل الإمام ( عليه السلام ) بكل قسوة وجفاء ، فَضَيّق عليه في مأكله ومشربه ، وكَبّله بالقيود
ويقول الرواة : إنه قَيّده ( عليه السلام ) بثلاثين رطلاً من الحديد .
وأقبل الإمام ( عليه السلام ) على عادته على العبادة ، فكان في أغلب أوقاته يصلي لربه ، ويقرأ كتاب الله ، ويُمجّده ويَحمُده على أنْ فَرّغه لعبادته .
كتابه إلى هارون :
وأرسل الإمام ( عليه السلام ) رسالة إلى هارون الرشيد أعرب فيها عن نقمته عليه ، وهذا هو نَصّها :
( إِنّه لن يَنقضي عَنّي يوم من البلاء حَتى ينقضي عَنك يوم من الرّخَاء حتى نَفنَى جميعاً إلى يومٍ ليس فيه انقضاء ، وهُناك يَخسرُ المُبطلون ) .
وحكت هذه الرسالة ما أَلمّ بالإمام ( عليه السلام ) من الأسى في السجن ، وأنه سيحاكم الطاغية هارون الرشيد أمام الله تعالى في يوم يخسر فيه المبطلون .
شهادته ( عليه السلام ) :
عهد هارون إلى السندي باغتيال الإمام ( عليه السلام ) ، فَدُسّ له سُمّاً فاتكاً في رطب ، وأجبره السندي على تناوله .
فأكل ( عليه السلام ) مِنهُ رطبات يسيرة ، فقال له السندي : زِد على ذلك .
فَرَمَقَهُ الإمام ( عليه السلام ) بَطَرْفِه وقال له : ( حَسبُكَ ، قد بَلغتُ ما تحتاجُ إليه ) .
وتفاعل السم في بدنه ( عليه السلام ) ، وأخذ يعاني الآلام القاسية ، وقد حفت به الشرطة القُساة .
ولازَمه السندي ، وكان يُسمِعُه مُرَّ الكلام وأقساه ، ومَنعَ عنه جميع الإسعافات لِيُعَجّل له النهاية المَحتومة .
ولما ثقل حاله ( عليه السلام ) وأشرف على النهاية ، استدعى المُسيّب بن زهرة ، وقال له :
( إني على ما عَرّفتُك من الرحيل إلى الله عزَّ وجلَّ ، فإذا دَعوتُ بِشُربة من ماءٍ فَشربتُها ورأيتني قد انتَفَختُ واصفَرَّ لوني واحمَرَّ واخضَرَّ ، وَأتَلَوَّنُ ألواناً ، فأخبر الطاغية بوفاتي ) .
فقال المُسيَّب : فلم أزلْ أراقب وَعده ، حتى دعا ( عليه السلام ) بشربة فَشربَها ، ثم استدعاني فقال :
( يا مُسيَّب ، إن هذا الرِّجس السِّندي بن شَاهك سَيزعم أنه يتولَّى غسلي ودفني ، وهيهات هيهات أن يكون ذلك أبداً ، فإذا حُمِلت إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فَألحِدُوني بها ) .
قال المُسيَّب : ثم رأيتُ شخصاً أشبه الأشخاص به جالساً إلى جانبه ، وكان عهدي بسيِّدي الرضا ( عليه السلام ) وهو غلام ، فأردت أن أسأله ، فصاح بي سيدي الكاظم ( عليه السلام ) وقال : ( أَليسَ قَد نَهَيتُك ؟! ) .
ثم إنه غاب ذلك الشخص ، وجئتُ إلى الإمام ( عليه السلام ) فإذا به جثة هامدة قد فارق الحياة ، فانتهيت بالخبر إلى الرشيد .
وكانت شهادته ( عليه السلام ) في ( 25 ) رجب من سنة ( 183 هـ ) .
فخرج الناس على اختلاف طبقاتهم لتشييع جثمان إمام المسلمين وسيد المتقين والعابدين ، وخرجَت الشيعة وهي تلطم الصدور ، وتذرف الدموع ، وخرجت السيدات من نسائهم وَهُنَّ يَندبْنَ الإمام ( عليه السلام ) ويرفَعْنَ أصواتَهُنَّ بالنياحَة عليه ( عليه السلام ) .
وسارت مواكب التشييع في شوارع بغداد ، وهي تردد أهازيج اللوعة والحزن .
وسارت المواكب متجهة إلى محلة باب التبن وقد ساد عليها الحزن ، حتى انتهت إلى مقابر قريش في بغداد .
فَحُفِر للجثمان العظيم قبر ، فواروه فيه وانصرف المشيعون وهم يعددون فضائله ( عليه السلام ) ، ويَذكُرون بمزيد من اللَّوعة الخسارةَ التي مُني بها المسلمون .
فَتَحيَّات من الله على تلك الروح العظيمة ، التي ملأت الدنيا بفضائلها وآثارها ومآثرها .
جود الإمام الكاظم ( عليه السلام ) وإغاثته للملهوفين
كان الإمام الكاظم ( عليه السلام ) من أندى الناس كَفاً ، ومن أكثرهم عطاء للبائسين والمحرومين .
ومن الجدير بالذكر أنه ( عليه السلام ) كان يتطلّب الكتمان وعدم ذيوع ما يعطيه ، مبتغياً بذلك الأجر عند الله تعالى .
ويقول الرواة : أنه ( عليه السلام ) كان يخرج في غَلَسِ الليل البهيم ، فيوصل البؤساء والضعفاء وهم لا يعلمون من أي جهة تَصِلهم هذه المَبَرّة .
وكانت صلاته لهم تتراوح ما بين المائتين دينار إلى الأربعمائة دينار ، وكان أهله يقولون : عَجَباً لمن جاءته صرار موسى ( عليه السلام ) وهو يشتكي القلة والفقر .
وقد حفلت كتب التاريخ ببوادر كثيرة من الحاجة والسؤال ، ويجمع المترجمون له أنه ( عليه السلام ) كان يرى أنّ أحسَنَ صرفٍ للمال هو ما يَردّ به جوعُ جائع أو يكسو به عارياً .
إغاثته ( عليه السلام ) للملهوفين :
ومن أبرز ذاتيّات الإمام الكاظم ( عليه السلام ) إغاثته للملهوفين وإنقاذهم مما أَلَمّ بهم من مِحَن الأيام وخطوبها ، وكانت هذه الظاهرة من أحبّ الأمور إليه .
وقد أفتى شيعته بجواز الدخول في حكومة هارون بشرط الإحسان إلى الناس ، وقد شاعت عنه هذه الفتوى : ( كَفّارَةُ عَمَل السّلطان الإحسان إلى الإخوان ) .
ويقول الرواة : إن شخصاً من أهالي الري كانت عليه أموال طائلة لحكومة الري ، وقد عَجز عن تَسديدها ، وخاف من الحكومة أن تصادر أمواله ، وتُنزِل به العقوبة الصارمة .
فسأل عن الحاكم فأخبروه أنه من شيعة الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ، فسافر إلى المدينة .
فلما انتهى إليها تَشرّف بمقابلة الإمام ( عليه السلام ) وشكا إليه حالَه وَضِيقَ مجالِه .
فاستجاب ( عليه السلام ) بالوقت له ، وكتب إلى حاكم الري رسالة جاء فيها بعد البسملة :
( اِعلَم أن لله تحت عرشه ظِلالاً يسكنه إلا من أسدَى إلى أخيه معروفاً ، أو نَفّس عنه كُربة ، أو أدخل على قلبه سروراً ، وهذا أخوك والسلام ) .
وأخذ الرسالة ، وبعد أدائه لفريضة الحج اتجهَ صَوبَ وطنه ، فلما انتهى إليه مضى إلى الحاكم ليلاً ، فطرق باب بيته ، فخرج غلامه فقال له : من أنت ؟
فقال : رسولُ الصابر موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) .
فَهرع إلى مولاه فأخبره بذلك ، فخرج حافي القدمين مستقبلاً له ، فعانقه وَقبَّل ما بين عَينيه ، وطفق يسأله بلهفة عن حال الإمام ( عليه السلام ) وهو يجيبه .
ثم ناوله رسالة الإمام ( عليه السلام ) ، فأخذها بإكبارٍ وقَبّلَها ، فلما قرأها استدعى بأمواله وثيابه فقاسمه في جميعها ، وأعطاه قيمة ما لا يَقبلُ القسمة ، وهو يقول له : يا أخي ، هل سَرَرتُك ؟
وسارع الرجل قائلاً : أي والله ، وزدتَ على ذلك .
ثم استدعى الحاكم السجِل ، فَشَطب على جميع الديون التي على الرجل وأعطاه براءة منها .
فخرج وقد غَمَرَتْهُ موجات من الفرح والسرور ، ورأى أن يجازي إحسانه بإحسان ، فيمضي إلى بيت الله الحرام ويدعوا له ، ويخبر الإمام ( عليه السلام ) بما أسداه عليه من المعروف .
ولما أقبل مَوسم الحج سافر إلى بيت الله الحرام ، ولما انتهى إليه دعا للرجل بإخلاص ، وأخبر الإمام ( عليه السلام ) بما أسداه حاكم الري من الإحسان إليه .
فَسُرَّ الإمام ( عليه السلام ) بذلك سروراً بالغاً ، والتفت إليه الرجل قائلاً : يا مولاي ، هل سَرَّكَ ذلك ؟
فقال الإمام ( عليه السلام ) :
( أي والله ، لقد سَرَّني ، وسَرَّ أمير المؤمنين ، والله لقد سَرَّ جَدي رسول الله ، ولقد سر الله تعالى ) .
سجن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ومحاولة اغتياله
ألقى أزلام الخليفة القبض على الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ، وأرسلوه مُقيداً إلى البصرة ، وقد وَكّل حسان السري بحراسته ، والمحافظة عليه .
وفي الطريق التقى به عبد الله بن مرحوم الأزدي ، فدفع له الإمام ( عليه السلام ) كُتُباً ، وأمره بإيصالها إلى ولي عهده الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، وعَرّفه بأنه ( عليه السلام ) الإمام من بعده .
وسارت القافلة تطوي البيداء ، حتى انتهت إلى البصرة – وذلك قبل التروية بيوم – .
فسلَّم حسّانُ الإمامَ ( عليه السلام ) إلى عيسى بن جعفر ، فحبسه في بيت من بيوت المحبس ، وأقفل عليه أبواب السجن .
وكان عيسى لا يفتحها إلا في حالتين ، إحداهما خروجه ( عليه السلام ) إلى الطهور ، والأخرى لإدخال الطعام إليه ( عليه السلام ) .
وأقبل الإمام ( عليه السلام ) على العبادة والطاعة ، فكان يصوم في النهار ويقوم في الليل ، ويقضي عامة وقته في الصلاة ، والسجود ، والدعاء ، وقراءة القرآن .
واعتبرَ تَفرّغَه للعبادة من نِعَم الله تعالى عليه ، فكما يقول ( عليه السلام ) :
( اللَّهم إنك تعلمُ أني كنتُ أسألك أن تُفرِّغَني لعبادتك ، اللَّهُم وقد فعلتَ ، فَلَكَ الحمدُ ) .
الإيعاز لعيسى باغتياله :
وأوعز هارون الرشيد إلى عيسى بن جعفر عامِلهُ على البصرة باغتيال الإمام ( عليه السلام ) ، وثقل الأمر على عيسى .
فاستشار خَوَاصّه بذلك ، فمنعوه وخَوّفوه من عاقبة الأمر ، فاستجابَ لهم ، ورفع رسالة إلى هارون ، جاء فيها :
( يا أمير المؤمنين ، كُتِب إليّ في هذا الرجل ، وقد اختبرتُه طولَ مَقامِه بِمَن حبستُهُ مَعه عَيْناً عليه ، لينظروا حيلته وأمره وطويته ، ممن له المعرفة والدراية ، ويجري من الإنسان مجرى الدم .
فلم يكن منه سُوءٌ قط ، ولم يذكر أمير المؤمنين إلا بخير ، ولم يكن عنده تَطلّع إلى ولدية ، ولا خروج ، ولا شيء من أمر الدنيا .
ولا دعا قط على أمير المؤمنين ، ولا على أحد من الناس ، ولا يدعو إلا بالمغفرة والرحمة له ولجميع المسلمين من ملازمته للصيام والصلاة والعبادة ، فإن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني من أمره ، أو ينفّذ من يتسلّمه مِني ، وإلا سَرّحت سبيله ، فإني منه في غاية الحرج ) .
ودلت هذه الرسالة على خوف عيسى من الإقدام على اغتيال الإمام ( عليه السلام ) ، وقد بقي في سجنه سنة كاملة .
سجنه في بغداد :
واستجاب الرشيد لطلب عامله عيسى ، فأمره بحمل الإمام ( عليه السلام ) إلى بغداد ، فَحُمِل إليها تحفّ به الشرطة والحرس .
ولما انتهى إليها أمر الرشيد بحبسه ( عليه السلام ) عند الفضل بن الربيع ، فأخذ الفضل وحبسه في بيته ، ولم يحبسه في السجون العامة ، وذلك لسمو مكانة الإمام ( عليه السلام ) ، وعظم شخصيته ، فخاف من حدوث الفتنة واضطراب الرأي العام .
واقبل الإمام ( عليه السلام ) على العبادة والطاعة ، وقد بهر الفضل بعبادته ، فقد روى عبد الله القزويني قال : دخلتُ على الفضل بن الربيع ، وهو جالس على سطح داره فقال لي : أُدنُ مني .
فَدنوتُ حتى حَاذَيتُه ، ثم قال لي : اشرفْ على الدار .
فأشرفتُ على الدار ، فقال لي الفضل : ما ترى في البيت ؟
فقلت : أرى ثوباً مطروحاً .
فقال الفضل : انظر حسناً .
فتأملت ونظرتُ مليّاً فقلتُ : رجل ساجد .
فقال الفضل : هل تعرفه ؟
فقلتُ : لا .
فقال : هذا مولاك .
فقلت : من مولاي ؟
فقال : تتجاهلُ عَلَيّ ؟
فقلت : ما أتجاهل ، ولكن لا أعرف لي مولى .
فقال : هذا أبو الحسن موسى بن جعفر .
وكان عبد الله ممن يدين بإمامته ( عليه السلام ) .
وأخذ الفضل يحدثني عن عبادته قائلاً : إني أَتَفَقّده الليل والنهار ، فلم أجده في وقت من الأوقات إلا على الحال التي أُخبِرُك بها : إنه يصلي الفجر ، فَيُعقب ساعة في دبر صلاته إلى أن تطلع الشمس ، ثم يسجد سجدة فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس .
وقد وكّل من يترصد له الزوال ، فلستُ أدري متى يقول الغلام : قد زالت الشمس ، إذ يَثِبُ فيبتدئ بالصلاة من غير أن يجدد الوضوء ، فاعلم أنه لم يَنَم في سجوده ولا أغفى .
فلا يزال كذلك إلى أن يفرغ من صلاة العصر ، فإذا صلى العصر سَجَد سجدة فلا يزال في صلاته وتعقيبه إلى أن يصلي العتمة .
فإذا صلى العتمة افطر على شِوىً يُؤتَى به ، ثم يجدد الوضوء ثم يسجد ، ثم يرفع رأسه فينام نومة خفيفة .
ثم يقوم فَيُجدد الوضوء ثم يقوم ، فلا يزال يصلي حتى يطلع الفجر ، فلستُ أدري متى يقول الغلام : إن الفجر قد طلع ، إذ قد وَثِبَ هو لصلاة الفجر .
فهذا دأبه منذُ حَولٍ لي .
فهكذا كان الإمام ( عليه السلام ) ، قد طبع على قلبه حُبّ الله تعالى ، وهام بعبادته وطاعته .
ولما رأى عبد الله الفضل للإمام حَذّره من أن يستجيب لهارون باغتياله قائلاً له :
اتّقِ الله ، ولا تُحدث في أمرِهِ حَدَثاً يكون منه زوال النعمة ، فقد تعلم أنه لم يفعل أحدٌ سوءاً إلا كانت نعمتُهُ زائلة .
فانبرى الفضل يؤيد ما قاله عبد الله قائلاً : قد أرسلوا إِليّ غير مَرّة يأمرونني بقتله ( عليه السلام ) فلم أُجِبهِم إلى ذلك .
فقد خاف الفضلُ من نقمة الله وعذابه في الدنيا والآخرة إن اغتال الإمام ( عليه السلام ) ، وأعرض عن ذلك .
أجمع الرواة على أن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) كان من أعظم الناس طاعة لله ومن أكثرهم عبادة له .
وكانت له ثَـفَنات من كثرة السجود لله كما كانت لِجدِّه الإمام السجاد ( عليه السلام ) حتى لُقِّب ( عليه السلام ) بذي الثـفنات .
وكان من مظاهر عبادته ( عليه السلام ) أنه إذا وقف مُصلّياً بين يدي الخالق العظيم أرسل ما في عينيه من دموع وخَفقَ قلبُه ، وكذلك إذا ناجى ( عليه السلام ) ربَّه أو دعاه .
ويقول الرواة : إنه ( عليه السلام ) كان يصلي نوافل الليل ، ويَصِلُها بصلاة الصبح ، ثم يعقب حتى تطلع الشمس .
ويَخُرّ لله ساجداً ، فلا يرفع رأسه من الدعاء والتمجيد لله حتى يقرب زوال الشمس .
وكان من مظاهر الطاعة عنده ( عليه السلام ) أنه دخل مسجد جَدِّه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في أول الليل فسجد ( عليه السلام ) سجدة واحدة ، وهو يقول بِنَبْراتٍ تَقطر خوفاً من الله :
( عَظُم الذنبُ عندي فليحسن العفو من عندك ، يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة ) .
وجعل ( عليه السلام ) يُردّد هذا الدعاء بإنابة وإخلاص وبكاء حتى أصبح الصباح .
وحينما أودعَهُ الطاغية الظالم هارون الرشيد العباسي في ظُلُمات السجون تفرغ ( عليه السلام ) للعبادة ، وشكر الله على ذلك قائلاً :
( اللَّهُم إني طالما كنت أسألك أن تُفرّغني لعبادتك ، وقد استجبتَ لي ، فَلَك الحمدُ على ذلك ) .
وكان الطاغية هارون يشرف من أعلى قصره على السجن ، فَيُبصر ثوباً مطروحاً في مكان خاص لم يتغير عن موضعه ، وعجب من ذلك ، وراح يقول للربيع : ما ذاك الثوب الذي أراهُ كلَّ يوم في ذلك الموضع ؟
فأجابه الربيع قائلاً : يا أمير المؤمنين ، ما ذاك بثوب ، وإنما هو موسى بن جعفر ، له في كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال .
وبهر الطاغية وقال : أما إنّ هذا من رهبان بني هاشم .
وسارَعَ الربيع طالباً منه أن يطلقَ سراحَ الإمام ( عليه السلام ) ولا يضيق عليه في سِجنه قائلاً :
يا أمير المؤمنين ، مَالَكَ قد ضيقتَ عليه في الحَبس ؟
وسارع هارون قائلاً : هيهات ، لا بُدَّ من ذلك .
مدرسة الامام الكاظم (عليه السلام)
الإمام الكاظم (عليه السلام) هو سليل النبوة، ووارث علوم أهل البيت (عليهم السلام) في عصره وعلى الرغم من الظرف السياسي الحرج وتضييق الحكّام عليه إلا أنه لم يترك مسؤوليته العلمية، ولم يتخلّ عن تصحيح المسار الإسلامي بكل ما حوى من علوم ومعارف واتجاهات. فتصدى هو وتلامذته لتيارات الإلحاد والزندقة لتثبيت أركان التوحيد، وتنقية مدارات العقيدة، وايجاد رؤية عقائدية أصيلة تشع بروح التوحيد، وتثبت في اعماق النفس والعقل.
كما أغنى مدرسة الفقه بحديثه ورواياته وتفسيره، وكان بهذه المنهجية يثبّت أركان الإسلام ، ويعمّق أصول التفسير الإسلامي، ويُنقّي مناهج الفقه والتشريع، فحفظ بذلك مدرسة اهل البيت (عليهم السلام) واغنى عطاءها وأنمى ثمارها، ولقد ذكرت كتب الرجال وتراجم الرواة والمعنيين بالحديث أن أكثر من ثلاثمائة راوٍ رووا عن موسى بن جعفر (عليه السلام). ويذكر التاريخ العلمي بفخر كوكبة من تلامذته كما يذكر للكثير منهم كتباً ومؤلفات علمية ثريّة.
ذكر الزمخشري في ربيع الأبرار: إن هارون كان يقول لموسى بن جعفر: يا أبا الحسن خذ فدكاً حتى أردّها عليك، فيأبى، حتى ألحّ عليه فقال: «لا آخذها إلا بحدودها» قال: وما حدودها؟ قال: «يا أمير المؤمنين، إن حدّدتها لم تردّها»، قال: بحقّ جدّك إلا فعلت، قال: «أما الحدّ الأول فعدن»، فتغيّر وجه الرشيد وقال: هيه، قال: «والحدّ الثاني سمرقند»، فاربدّ وجهه، قال:«والحدّ الثالث أفريقيا» فاسودّ وجهه وقال: هيه، قال: «والرابع سيف البحر ممّا يلي الخزر وأرمينية»، قال الرشيد: فلم يبق لنا شيء، قال موسى(ع): «قد أعلمتك أنّي إن حدّدتها لم تردّها». فعند ذلك عزم على قتله.
نص الإمام الكاظم ( عليه السلام ) على إمامة الرضا ( عليه السلام )
نصّب الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ولده الإمام الرضا ( عليه السلام ) علماً لشيعته ، ومرجعاً لأمته ، وقد خرجت من السجن عِدة ألواح كُتب فيها :
( عَهدي إلى وَلَدي الأكبر ) .
وقد أهتمّ الإمام الكاظم ( عليه السلام ) بتعيين ولدِه الرضا ( عليه السلام ) إماماً من بعده ، وعهد بذلك إلى جَمْهَرَة كبيرة من أعلام شيعته ، كان من بينهم :
1 - محمد بن إسماعيل الهاشمي قال : دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) وقد اشتكى شكاة شديدة ، فقلت له : أسأل الله أن لا يريناه - أي : لا يرينا فَقدَك - فإلى من ؟
فقال ( عليه السلام ) :
( إلى ابني عَلي ، فَكتابُهُ كِتابي ، وهو وَصِيّي وخَليفَتي من بعدي ) .
2 - علي بن يقطين قال : كنتُ عند موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) وعنده علي ابنه ، فقال : ( يا علي ، هذا ابني سَيّد وُلدِي ، وقد نَحلتُه كُنيتي ) .
وكان في المجلس هشام بن سالم ، فضرب على جبهته وقال : إنا لله ، نعَى والله إليك نفسه .
3 - نعيم بن قابوس ، قال : قال أبو الحسن ( عليه السلام ) :
( علي ابني أكبرُ وُلدِي ، وأسمَعُهم لقولي ، وأطوعُهم لأمري ، ينظر في كتاب الجَفر والجامعة ، ولا ينظر فيهما إلا نبيّ أو وصي نبيّ ) .
4 - داود بن كثير الرقي ، قال : قلت لموسى الكاظم ( عليه السلام ) : جُعلت فداك ، إني قد كبرتُ ، وكبر سِني ، فخذ بيدي وأنقذني من النار ، من صاحبُنا بعدك ؟
فأشار ( عليه السلام ) إلى ابنه أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) ، وقال :
( هذا صاحبُكُم بعدي ) .
5 - سليمان بن حفص المروزي ، قال : دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) وأنا أريد أن أسألُه عن الحجة على الناس بعده .
فلما نظر إلي ابتَدَأَنِي وقال :
( يا سُليمان ، إن عليّاً ابني ووصيّي ، والحُجة على الناس بعدي ، وهو أفضل وُلدي ، فان بقيتَ بعدي فاشهد له بذلك عند شيعتي وأهل ولايتي المُستخبرِينَ عن خليفَتي بعدي ) .
6 - قال عبد الله الهاشمي : كُنّا عند قبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) نحو ستين رَجُلاً مِنا ومن موالينا ، إذ أقبل موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) وَيَد علي ابنه في يده ، فقال ( عليه السلام ) : ( أتَدرون مَن أنا ) ؟
فقلنا : أنت سَيدُنا وكبيرُنا .
فقال ( عليه السلام ) : ( سَمّوني وانسبُوني ) .
فقلنا : أنت موسى بن جعفر بن محمد ( عليهم السلام ) .
فقال ( عليه السلام ) : من هذا – وأشار إلى ابنه – ؟
قلنا : هو علي بن موسى بن جعفر ( عليهم السلام ) .
فقال ( عليه السلام ) :
( فاشهدوا أنه وكيلي في حياتي ، وَوَصيّي بعد موتي ) .
7 - عبد الله بن مرحوم قال : خرجتُ من البصرة أريد المدينة ، فلما صرتُ في بعض الطريق لقيتُ أبا إبراهيم وهو يذهب به ( عليه السلام ) إلى البصرة .
فأرسل ( عليه السلام ) إلي ، فدخلت عليه ، فدفع ( عليه السلام ) إليّ كُتُباً ، وأمرني أن أوصلها إلى المدينة .
فقلت : إلى من أدفعها ، جعلت فداك ؟
فقال ( عليه السلام ) :
( إلى علي ابني ، فإنه وصيّي ، والقَيّم بأمري ، وخير بني ) .
8 - عبد الله بن الحرث ، قال : بعثَ إلينا موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) ، فَجَمّعَنا ثم قال : ( أتدرون لِمَ جَمّعتُكُم ) ؟
فقلنا : لا .
فقال ( عليه السلام ) : ( اشهدوا إنّ عليّاً ابني هذا وصيّي ، والقَيّم بأمري ، وخليفتي من بعدي ، من كان له عندي دَين فليأخذه من ابني هذا ، ومن كانت له عندي عِدّة فَليَستَنْجِزُها منه ، ومَن لم يكن له بُدّ من لقائي فلا يَلقَني إلا بكتابِه ) .
رحم الله الرضا محمد السيد الشيرازي الذي كان بحق علما من اعلام آل محمد وحامي من حماتها الذي كان يصد عن شيعة آل محمد افواج افكار الجهل والضلالة ولكن انا لله وانا اليه راجعون بفقده ولعلي اجد نفسي موفقا حينما اذكر البيت المشهور للسيد حيدر الحلي حينما يصف فتية بني هاشم بقولة
عهدي بهم قصر الاعمار شأنهم لا يهرمون وللهيابة الهرم
فما لي غير باب ارتجيه فنعم المرتجى جد الجــــــــواد
رمتني النائبات بكل سهم ونار في الحشى يكوي فؤادي
اسير هواكم امسى وحيدا يعيش بغربة في كل نــــــــادي
اردد ذكركم حزننا وشوقا وابكي كلما نادى المنـــــــــادي
اعظم الله اجوركم بمصابنا بالامام الكاظم عليه السلام
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف
نعزي العالم الأسلامي والمراجع العظام وجميع الامة الاسلامية باستشهاد سيدي ومولاي باب الحوائج موسى بن جعفر عليه السلام