ألفتْ عيناه الدار وتلك الآثار الشاخصة على الحيطان المحتفَّة بمواضع الشقوق والإعوجاج، والفناء الممتد الرهيب النافل تحت صمت الأتربة وبقايا النباتات النامية على الأسقف والنوافذ، بمشاعرٍ حاميةٍ سبرتْ في أغواره شتَّى الصور والوجوه، فطاف بخياله ما أدبر وولى، وعاثتْ فيه الذكريات، فوهن صبره بما ينوء به، وانتابته صنوفٌ شتَّى من الكآبة المتجلية على ملامحه بوضوحٍ بيِّنٍ، فأطرق صامتًا. وزوجه التي لم يخفَ عنها ذلك، صمتتْ هي الأخرى، وأحسَّتْ بحرارة الغيظ تلجم لسانه الصمت، فلم تبادره الحديث.
تبدَّى وجهه معتمًا غائرًا وهو يشخص عيناه في الآثار والذكريات التي لم تزل تقطن في جنبات وأروقة هاته الدار التي عفى عنها الزمن، وحالتْ إلى مستودعٍ للأحداث الراحلة وصدى أنفاس من كانوا يقطنونها منذ أمدٍ بعيدٍ.
- "هنا كان أبي يجلس تحت النافذة ... وهنا كانت أمي تحلب ماعزتها ... وهنا كنَّا نلعب أنا وإخوتي"
- "عجبًا لتغيّر الزمن!!"
- "كم هي رائعة تلك الأيام!! ... مازلتُ أذكرها ... لم تغب عن عقلي رغم السنين"
- "ولكن للزمن أحكامه وصروفه ... لا حيلة لنا للكفِّ عما يجيء به الزمن"
- "لعنة الله تصيبهم جميعًا ... سيعرضون هاته الدار للمزاد عمَّا قريب"
- "كان الله في عوننا"
- "أخبرتهم أن يتريَّثوا قليلاً ريثما أجمع لهم المال وأنقدهم أيَّاه ... ولكن ..."
- "صبرًا بما نزل علينا"
- "المصرف!! ... المصرف!! ... لعنات الله عليهم جميعًا"
لوهلةٍ خاطفة، ران صمتٌ قصيرٌ في أرجاء وأقاصي الدار. تتوالى الأحداث منذرةً بعاصفةٍ هوجاء تدنو رويدًا، رويدًا، لتبعث في أوصاله هواجس شتَّى تقضم الراحة من عقله، وتدفع الجنون لينصب رايته وسط فوضى المصاعب ومبعث القلائق. لقد حدَّثته نفسه بريبة ما يحدث. جاءته وثيقة من المحكمة صباح أحد الأيام، لتخطره بوجوب الإمتثال أمام المحكمة للدعوة المقامة ضده. ممن؟! من ذات المصرف الذي استقبله مديره بابتسامةٍ وحفاوة وهو يردد بين فينةٍ وأخرى على مسامعه: "عادةً، أنت لا تتأخر في دفع القسط المتوجب عليك دفعه، ونظرًا لظروفك الراهنة سننظر إلى ما هو خيرٌ لك ... لا داعي للقلق". كان وقع كلماته آنذاك موطئ الطمأنينة والسكينة. إلا أن تلك الوثيقة التي استلمها صباح ذلك اليوم، حالت السكينة إلى هدوءٍ ينذر بعاصفةٍ وشيكة.
- "قال لي أن اطمئنّ ... لقد سمعته جيِّدًا وهو يلفظها"
- "عجبًا لأمرهم!!"
- "لم أكن أعلم ما يخفى في صدورهم ... سيطرقون الآن جميع الأبواب حتى يحصلوا على هاته الأرض مهما كلفهم ذلك من ثمن"
- "لو لم ترهن الأرض لديهم لما ابتغوا إليها سبيلاً!!"
- "قولي لي، وهل كنتُ أملك خيارًا آخرًا غير الرهن؟! ... كنَّا في أمسِّ الحاجة إلى النقود وقتذاك، وإذا لم أرهن إلى المصرف كل ما لدي، لما قاموا بإقراضي أبدًا"
إن الذكريات التي أبت أن تمحى من على الأشياء والشخوص، لتقف حائلاً بينه وبين فقده للدار، ويا لقسوة الأيام إذا ما نزلتْ على المرء شدَّةً لم تسعها طاقته!. وإنِّ مجرى الأحداث لتمضي إلى ذات السبيل الذي تاه فيه، ليحلَّ ظلام اليأس سريعًا، ويخفت صوت النجاة والإستنجاد، أمام صدى أنفاس المصرف الكبير.
- "لا تفكّر في الدار الآن ... لا تنسى، إن المعضلة لن تتوقف عند بيع الرهن ... سيطالبونك بسداد باقي المستحقات التي تفوق قيمة الرهن بكثير"
حينها، تفجرتْ ينابيع الغضب من فيه، نافثةً شرر ما بجعبتها من ضيق ذات السعة والحال؛ فلزمتْ على أثرها الزوجة الصمت، وناءتْ بما تحمل في طيَّاتها إلى ظلال السكوت من قيظ غضبه المتصاعد.
- "فليطالبوا بتقطيعي وبيع لحم جسدي حتى يسددوا باقي المستحقات!!"
وخيَّم الصمت مرةً أخرى. صمتٌ ثقيلٌ ما يني أن يكيلهما ثقلٌ آخر يرزح على أكتافهما. كلاهما غارقٌ في التدبر في ذات الشأن: المصرف، ذلك الظلّ القاتم الذي أمسى يقتفي أثرهما ويراودهما بين فينةٍ وأخرى، ليبدو اتساعًا لفجوةٍ ستبتلع كل جميلٍ تتشح به الحياة. إنَّ الهواجس والظنون لا تفتأ أن تعود عنوةً إلى عقله لتلقمه علقم القلق والترقب للقادم من وراء سطوةٍ جائرة تمتدُّ من يد ذلك المصرف الكبير، ذي البنيان المرصوص، فيحفر الخوف أخاديده على ملامحه ووجنتيه، وتحت جفنيه المكللة بالتعب والإرهاق.
- "لقد تقدم الوقت وطال مكوثنا ... قم بإغلاق الأبواب حتى ننصرف من هنا، لتذهب في الصباح الباكر إلى المصرف وتسلمهم مفاتيح الدار"
- "اغلقي أنت الدار ... سأنتظرك في الخارج"
اندفع إلى الخارج وهو لا يلوى على فعل شيء. كانت الذكريات تبوء بحملها، لتدفعه إلى رحلة الجنون المشرأبة بحزنٍ عميق سحيق المدى، حيث لا شمس ستشرق، ليتبدد الظلام ويحلّ النور والضياء في الآفاق من جديد.