وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
ظاهر سؤالكم التسليم بدلالة الآية على نجاسة المشركين كقدر متيقن وإنما السؤال عن دلالتها على مطلق الكافر لا خصوص المشركين ، الا أن دلالتها على نجاسة المشركين أصلاً محل كلام فضلاً عما هو أكثر من ذلك
والكلام يقع في مقامين :
المقام الأول / في دلالة الآية على نجاسة المشركين
المقام الثاني / على تقدير دلالتها على نجاسة المشركين فهل يمكن أن يستفاد منها نجاسة مطلق الكافر ؟
أما المقام الأول فاستدل جملة من الفقهاء بالآية على نجاسة المشركين بتقريب أن ( النَجَس ) بمعنى النجاسة المصطلح عليها عند المتشرعة أي النجاسة العينية الشرعية الاعتبارية أو قل النجاسة الحكمية بالمعنى الفقهي
هذا ولكن نوقش في الاستدلال بها بعدة مناقشات أهمها أن كون النجس بهذا المعنى ليس واضحاً ولا أقل من احتمال أن يكون المقصود معنى آخر فيندفع الاستدلال كأن يكون المقصود النجاسة المعنوية أي نجاسة الشرك أو يكون المراد النجاسة بالمعنى اللغوي أي القذر المادي والوسخ ، قال في مسالك الأفهام ج12 ص65 ( وفيه نظر ، لأن النجس كما يطلق على النجاسة المعروفة شرعا ، يطلق على المستقذر ) وقال السيد الشهيد في شرح العروة الوثقى ج3 ص257 ( فقد يستشكل على الاستدلال بالآية الكريمة بأن لفظة النجاسة يمكن حملها على معناها الحقيقي اللغوي ، أي القذارة فلا تعطى إلا الطعن في المشركين بالقذارة والوساخة ، ولا موجب لحملها على الفرد الاعتباري من القذارة المدعاة في المقام ) وقال السيد الخوئي قده ( إن النجس عند المتشرعة وإن كان بالمعنى المصطلح عليه إلَّا أنه لم يثبت كونه بهذا المعنى في الآية المباركة ، لجواز أن لا تثبت النجاسة بهذا المعنى الاصطلاحي على شيء من الأعيان النجسة في زمان نزول الآية أصلًا ، وذلك للتدرّج في بيان الأحكام ، بل الظاهر أنه في الآية المباركة بالمعنى اللغوي وهو القذارة وأي قذارة أعظم وأشد من قذارة الشرك . وهذا المعنى هو المناسب للمنع عن قربهم من المسجد الحرام ، حيث إن النجس بالمعنى المصطلح عليه لا مانع من دخوله المسجد الحرام فيما إذا لم يستلزم هتكه فلا حرمة في دخول الكفار والمشركين المسجد من جهة نجاستهم بهذا المعنى ، وهذا بخلاف النجس بمعنى القذر لأن القذارة الكفرية مبغوضة عند الله سبحانه والكافر عدو الله وهو يعبد غيره فكيف يرضى صاحب البيت بدخول عدوّه بيته ، بل وكيف يناسب دخول الكافر بيتاً يعبد فيه صاحبه وهو يعبد غيره ) شرح العروة الوثقى - كتاب الطهارة ج2 ص43
وربما أجاب المستدلون بالآية على النجاسة الاعتبارية عن هذه المناقشة بأنه بعد التسليم بعدم انحصار معنى الرجس بالنجاسة بالمعنى المصطلح الا أن كون مراد الآية هذا المعنى تحديداً يمكن استفادته من القرائن واستبعاد إرادة المعنيين الآخرين أي النجاسة المعنوية واللغوية ، قال في الجواهر ج6 ص43 ( ويدل عليه مضافا إلى ذلك قوله تعالى : " إنما المشركون نجس " المتمم دلالتها حيث تضمنت لفظ النجس الذي لم يعلم إرادة المعنى الاصطلاحي منه ، أو اختصت بالمشرك بظهور إرادة الاصطلاحي هنا ولو بالقرائن الكثيرة التي منها تفريع عدم قربهم المساجد الذي لا يتجه إلا عليه ، على أن النجاسة اللغوية مع منع تحققها في المترفين منهم ليست من الوظائف الربانية ، واحتمال إرادة الخبث الباطني من النجاسة كما اختاره بعض الناس ممن لا نصيب له في مذاق الفقه تبعا للعامة العمياء ضروري الفساد ، مع أنها ليست من المعاني المعهودة المعروفة للفظ النجاسة )
أو يجاب بإمكان التمسك بإطلاق كلمة نجس فبعد التسليم بعدم انحصارها بالمعنى الاصطلاحي وأنها تحتمل معنى آخر كالقذر أو النجاسة المعنوية يقال الآية مطلقة ولا داعي لحصرها بأحد معاني النجاسة حتى يقال أنه لا دليل على إرادة المعنى الاصطلاحي دون غيره ، فإطلاق لفظ نجس وعدم تقييده بمعنى معين ظاهر في إرادة جميع المعاني فالمشركون نجس بجميع معاني النجاسة بما في ذلك المعنى الاصطلاحي فيتجه الاستدلال بالآية على نجاسة المشركين الشرعية
وأجيب عنه بما حاصله أن معاني النجاسة ليست أفراداً لحقيقة واحدة حتى يقال بالإطلاق بل هي معانٍ وحقائق متباينة وأنحاء متعددة من النجاسة وبعبارة واضحة هي ليس أفراداً لمعنى واحد حتى يتجه القول بالإطلاق بل معانٍ متعددة .
النتيجة / أن دلالة الآية على نجاسة المشركين متوقفة على ظهور لفظة ( نجس ) في النجاسة بالمعنى الاصطلاحي وهذا محل كلام .
المقام الثاني / دلالة الآية على نجاسة مطلق الكافر وإن لم يكن مشركاً كأهل الكتاب
ذهب الى ذلك جماعة من الفقهاء قال العلامة في منتهى المطلب ج3 ص222 ( الكفّار أنجاس وهو مذهب علمائنا أجمع سواء كانوا أهل كتاب أو حربيين أو مرتدّين وعلى أيّ صنف كانوا خلافا للجمهور ، لنا : قوله تعالى « انَّما الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ » ) وفي الذكرى للشهيد الأول ج1 ص115 في تعداد أعيان النجاسات ( العاشر : الكافر ، أصليا ، أو مرتدا ، أو منتحل الاسلام جاحدا لبعض ضرورياته كالخوارج والغلاة ، لقوله تعالى " انما المشركون نجس " ) وظاهر العبارة نجاسة حتى المحكوم بكفره من منتحلي الإسلام ، وقال في الجواهر كما تقدم ( ويدل عليه مضافا إلى ذلك قوله تعالى : " إنما المشركون نجس " ) الى غير ذلك
بتقريب أن المراد من المشرك ( ما يعمّ عبّاد الأصنام وغيرهم من اليهود والنصارى لأنّهم مشركون أيضا لقوله تعالى « وقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله وقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ الله » إلى قوله « سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ » ) مسالك الأفهام الى آيات الأحكام ج1 ص100
أو بتقريب ( أن المراد بالمشرك مطلق من كفر بالله العظيم أو بأنبيائه أو بأوليائه أو بآياته بدليل قوله تعالى : يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما أنزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء الآية فإن ظاهر هذه الآية أن الله تعالى قد سمى عدم الايمان بما أنزله شركا لأن قوله إن الله لا يغفر الخ وقع في قبال يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما أنزلنا مصدقا لما معكم الخ ) كتاب الطهارة - السيد الكلبايكاني ج1 ص300
أو بتقريب عدم القول بالفصل وعدم قائل بالاختصاص بعد التسليم باختصاص الآية بالمشركين ، قال في الرياض ج2 ص357 ( " إنما المشركون نجس " المتمم دلالتها حيث اختصت بالمشرك ..... بعدم القائل بالتخصيص ) الى غير ذلك من التقريبات
ونوقش الاستدلال بالآية على نجاسة مطلق الكافر بمناقشتين :
المناقشة الأولى / ما تقدم من توقف الاستدلال بها على ظهور لفظ نجس في النجاسة بالمعنى المصطلح عليه ومع احتمال إرادة غير ذلك لا يتم الاستدلال بها على نجاسة المشركين فضلاً عن نجاسة مطلق الكافر ، قال في المستند ( والاستدلال عليها بقوله عز شأنه : " إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام " بالتعدي إلى غير المشرك ، بعدم القول بالتخصيص غير تام ، لعدم ثبوت إرادة المعنى الاصطلاحي من لفظ " نجس " في زمن الخطاب ، ودعوى
تبادره منه فيه غير مسموعة ) مستند الشيعة - المحقق النراقي ج1 ص196
فالاستدلال بالآية على نجاسة مطلق الكافر متوقف على دلالتها على نجاسة المشركين ، ومن منع منه هناك لا بد أن يمنع منه هنا أيضاً .
المناقشة الثانية / عدم التسليم بظهور لفظ المشركين في مطلق الكافر ، فحتى لو سلمنا أن لفظ نجس ظاهر في النجاسة بالمعنى الاصطلاحي فغاية ما يلزم من ذلك دلالة الآية على نجاسة المشركين لا مطلق الكافر لعدم صدق لفظ المشرك على مطلق الكافر ، قال السيد الخوانساري في جامع المدارك ج1 ص201 ( ونوقش بعدم صدق المشرك على نحو الحقيقة على جميع أصناف الكافر ..... هذا مع أن المتبادر من الآية مشركوا أهل مكة كما يشهد به القرائن )
وقال السيد الخوئي ( أن الشرك له مراتب متعددة لا يخلو منها غير المعصومين وقليل من المؤمنين ومعه كيف يمكن الحكم بنجاسة المشرك بما له من المراتب المتعددة ؟ فإن لازمه الحكم بنجاسة المسلم المرائي في عمله ، حيث إنّ الرياء في العمل من الشرك وهذا كما ترى لا يمكن الالتزام به فلا مناص من أن يراد بالمشرك مرتبة خاصة منه وهي ما يقابل أهل الكتاب ) شرح العروة الوثقى - كتاب الطهارة ج2 ص43 ، ثم استدل على أن المراد من المشرك ما يقابل أهل الكتاب لا الأعم منه باختلاف أحكامهما فلكل من المشرك وأهل الكتاب أحكاماً تخصّه ومعه كيف يمكن أن يقال إن المراد من المشركين في الآية أعم من أهل الكتاب .
وعلى تقدير شمول لفظ المشرك لأهل الكتاب وصدق كونهم مشركين لا يلزم من ذلك شمول حكم المشركين بالنجاسة - لو تم - لأهل الكتاب قال السيد السبزواري رحمه الله ( وقد استدل على نجاسة الكتابي بوجوه : الأول : ما تقدم من قوله تعالى " إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ " وفيه : أنّ صدق المشرك عليه في الجملة مسلَّم ، قال تعالى " اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ الله وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ " فيستفاد منها أن مطلق اتخاذ الرب من دون اللَّه تعالى شرك ، ولكن كون مثل هذا الصدق موجبا للنجاسة ممنوع ، وإلا فقد قال تعالى " وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ " وقد أُطلق المشرك في الأخبار على المرائي وغيره ، مع أنّه قد فصل اللَّه تعالى بين أهل الكتاب وبين المشركين ، والتفصيل قاطع للشركة قال تعالى : " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ " ) مهذب الأحكام ج1 ص357
والحاصل / أن الاستدلال بالآية على نجاسة مطلق الكافر يتوقف على أمرين :
الأمر الأول / ظهور لفظ نجس في النجاسة بالمعنى الشرعي .
الأمر الثاني / إمكانية التعدي من مورد الآية أي المشركون الى مطلق الكافر وظهور لفظ " المشركين " في مطلق الكافر .
فمع استظهار هذين الأمرين وتماميتهما يتم الاستدلال بالآية على نجاسة مطلق الكافر والا فلا .
وفقكم الله تعالى