إن التعليم بنظر الإمام علي (عليه السلام)، لا يقوم على التلقين، ولا يعتمد على الكمية بقدر اعتماده على الكيفية كما سبق وأوضحنا فهو في جملته يستند إلى المناظرة والمناقشة.
لقد أحاط المتعلم بجو تعبق فيه روح الحرية والنشاط، فمكان الدرس (الجامع يومذاك)، ليس سجناً تمارس فيه شتى أنواع الإرهاب والتنكيل، بل هو منتزهاً يرتاده المتعلمون بشوق، تحدوهم إليه العلاقة الأخوية الصادقة بين العالِم والمتعلم. فالانفعالات الحادة الناجمة عن الجو التعليمي المتسم بالرهبة، تعرقل العملية التربوية وتترك المتعلم عرضة لكثير من الاضطرابات والعقد النفسية لأن الانفعال (ضرب من السلوك تعمّ آثاره الإنسان كله نفساً وجسماً، يحدث أثناءه تغيرات في داخل الجسم وخارجه، فتؤدي إلى إعطائه صورة معينة) (1). وإذا كانت للانفعالات الحادة هذه التغيرات التي تؤثر سلباً على شخصية المتعلم، فإن الحد منها يكمن في إيجاد جو من التعليم يكفل له قسطاً وافياً من الرغبة والطمأنينة والانفعالات الهادئة التي تساعد على تأدية وظائفه العقلية بنظام وتنسيق، فكأن هناك شبه تناقض بين التعليم والانفعال.
لقد دعا (عليه السلام) إلى تربية سمحة تبتعد عن الضغط والإكراه، لأن الطفولة تختلف في مفاهيمها واهتماماتها عن الرجولة، وما ينجم عنها من أخطاء ينبغي أن لا نقيسها بمقياس الرجل البالغ، فهي تتصرف بوحي من ذاتها التي لا تعرف الحدود والموانع، وأي تصد لها بالعنف إنما هو إحراج لها وقمع لرغباتها. يقول (دي نوي): (فمن المهم حقاً ألا نحكم على ذنب يقترفه الولد بالنظر إلى نتائجه. فالذنب عند الولد خطير لذاته ـ مطلقاً لا نسبياً ـ لأن ذلك قد تقرر على هذا الوجه. وخفة الذنب المطلقة وحدها قادرة على تعويد الطفل نظاماً خلقياً لا سبيل إلى التقدم بدونه ويختلف هذا المعيار لدى البالغين) (2).
إن الشطط في العقاب أمر غير مرغوب فيه في التربية لأنه يورث الكسل ويحمل على الكذب والخبث والتظاهر بغير ما في النفس خوفاً من القهر ومن شأن الاستمرار على ذلك أن يؤدي إلى اعتياد المتعلم على ذلك، فتكسل نفسه عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل. لذلك فلا ينبغي للعقاب أن يتبع الذنب مباشرة قبل التعرف على الدوافع الكامنة وراءه حتى لا يكون عن ظلم وذلك بعدم إتاحة الفرصة للولد كي يدافع عن نفسه ويبرر خطأه أو يقدم اعتذاره لهذا: (لا تتبع الذنب العقوبة، واجعل بينهما وقتاً للاعتذار) (3). كما قال الإمام (عليه السلام) فالتربية التي يسودها التوتر والانفعال يستبعدها (عليه السلام) بل ويرى فيها هدراً لكرامة الإنسان وإفساداً لمعاني الإنسانية لديه وإضعافاً لقواه العقلية والخلقية وإماتة لقيم الألفة والمحبة والتعاون في نفسه، لذلك فهو يحذر منها ويقول: (أحذروا الكلام في مجالس الخوف، فإن الخوف يذهل العقل الذي منه نستمد، ويشغله بحراسة النفس عن حراسة المذهب الذي نروم نصرته وأحذر الغضب ممن يحملك عليه، فإن مميت للخواطر مانع من التثبت أحذر من تبغضه فإن بغضك له يدعوك إلى الضجر به، وقليل الغضب كثير في أذى النفس والعقل، والضجر مضيق للصدر، مضعف لقوى العقل. أحذر المحافل التي لا إنصاف لأهلها في التسوية بينك وبين خصمك في الإقبال والاستماع ولا أدب لهم يمنعهم من جور الحكم لك وعليك. وأحذر حين تظهر العصبية لخصمك بالاعتراض عليك وتشييد قوله وحجته، فإن ذلك يهيج العصبية والاعتراض على هذا الوجه يخلق الكلام ويذهب بهجة المعاني، وأحذر كلام من لا يفهم عنك فإنه يضجرك، وأحذر استصغار الخصم، فإنه يمنع من التحفظ، ورب صغير غلب كبيراً) (4)