|
مشرف المنتدى الثقافي
|
رقم العضوية : 68149
|
الإنتساب : Sep 2011
|
المشاركات : 6,625
|
بمعدل : 1.38 يوميا
|
|
|
|
المنتدى :
المنتدى الثقافي
عشق الجنين.. بقلم:
بتاريخ : 26-09-2011 الساعة : 09:02 PM
هذه القصة حقيقية توثق لجزء من مآسي وظلامات الكرد الشيعة أو ما يسمونهم بالفيليون في مندلي في العراق وهم يقذفون خارج الوطن عام 1980 بدون اية جريرة سوى انتمائهم لمذهب أهل البيت
قصة : عشق الجنين
بقلم : جعفر ملا عبد المندلاوي
قبل سرد المأساة الخاصة بعائلة (أبو سليمان) قارئي العزيز ، أنقلك الى أجواء مدينة ( مندلي ) لتستشعر عمق الجريمة ، فعلى مدى سنوات متجذرة في اعماق سحيقة في التاريخ ، كانت بلدة مندلي تغفو بوداعتها المعهودة على حكايات آباءنا وجداتنا وهم يقصون علينا حكايات شعبية ، تنقلنا الى خيالات بعيدة تشبه حكايات ألف ليلة وليلة ، ونحن متجمعون على شكل نصف دائري حول حفيرة داخل البيت ، توضع فيها بعض الحطب يتم إشعالها في ليالي الشتاء ، فلم نكن نعرف آنذاك المدافئ النفطية أو الكهربائية أو الغازية أو الزيتية الموجودة الآن ، لعدم وجود الطاقة الكهربائية ، فكنا نلتف حول هذا الموقد بشوق ودفء قبل أن تغفو أجفاننا ونتسلل واحداً بعد الآخر الى الفراش ، هناك تداعب أجفان مدينتنا وجدائلها نسمات البساتين المفعمة بضوع الورد وطعم الرمان المندلاوي ( رمان بلدة مندلي طعمه حلو طيب هني ) ، وحفيف سعفات النخيل ، وتنهض مع خيوط الفجر ، تتمطى تدغدغها زغاريد البلابل وهي تزقزق في فناءات البيوت والأزقة وبين أوراق الشجر ، بات هذا الهدوء والوداعة والسكون جزءاً منها لا تفارقها ، وعلى هذا تطبع الناس في هذه البلدة بميزات مشتركة ، ولكن هذا الهدوء الملائكي المستل من عمقها الحضاري أغاض الطواغيت فبثوا في جسدها الرعب والإرباك !! وإليك جزء من الحكاية .
الكثير منا شاهد بعينه تلك الغيمة السوداء التي غطت المدينة وبثت الخوف والقلق والتوجس من القذف نحو المجهول ، كل الناس ، فلا يعرف أحدٌ مَن الضحية غداً ، جاره ، أم قريبه ، أم صديقه ، وربما هو الهدف ولا يدري !؟ فالأيام حُبلى بالاحداث ، وكل شيء ممكن إحتماله وربما تُلقى بالعراء خارج الحدود بلا مأوى يلفك الخوف والرعب والجوع والبرد ، فالطبيعة والليل والجبال والحيوانات المفترسة كلها تشكل بمجموعها مصدر خوف عظيم ، وأنت لا تدري الى أين تذهب ، فأنت تسير الى مصير مجهول .
كعادته في بكوره ، حمل الأب أغراضه ومتاع عمله ، وتوجه الى السوق عله يجد ما يسد به رمق اطفاله الخمسة والسادس الذي ينتظرونه ليحل ضيفاً عليهم اليوم أو يوم غد ، وما يدري ما يخبئه له الدهر ، فقد داهم عناصر الشرطة ومعهم عجلة عسكرية مكشوفة ( إيفا ) دار هذا المسكين ورموا بالأطفال في العجلة ، وحاولوا دفع الزوجة ( أم سليمان ) في العجلة ولكن الجارة الطيبة ( أم حكيم ) لما رأت أن جارتها على وشك الوضع !! تكلمت مع المفرزة ليؤخروا التهجير ولو لبضع ساعات فلربما تلد بعد ساعة أو ساعتين ، وعبثاً حاولت أن تحرك فيهم أي شعور بالغيرة أو شهامة ليتركوها ، ولو هذه الليلة فقط لوضعها الصعب !! ورفضوا بشدة ودفعوها نحو العجلة بقساوتهم المعهودة التي لم ترحم ذلك الجنين على الأقل ، مما أغاض هذا الموقف الحاجة ( أم حكيم ) ، فأتت بهراوة لتضربهم بها على فعلتهم الشنيعة لأنهم لم يراعوا أية قيمة إنسانية لهذه المرأة المسكينة التي أبكت الصخر ، لكن الناس منعوها بعد مشادة كلامية معهم حتى هددوها بأن يأخذوها هي كذلك معهم فتركت أمرها وأمرهم الى الله الواحد القهار .
إحتبسوا العائلة في العجلة المكشوفة وإتجهت صوب السوق قوة من الشرطة لجلب الأب الذي يعمل بكل جدٍ وكل همةٍ كي يأتي آخر النهار بلقمة طعام يسد بها جوع أطفاله وزوجته ، لكنه وهو منهمك بعمله وإذا بالزمرة قد ضيقوا عليه وإقتادوه وهو لا يدري بالصدمة التي تنتظره !! فبادروه : أنت أبو سليمان ؟ فأجابهم : نعم ولكن ما المشكلة ؟ فلم يجبه أحد وإقتادوه بشدة لا يعلم الى أين ! فعصف في ذهنه صراعاً لا يدري يخرج منه ولا يستطيع معه جمع أفكاره ويلمم بقايا ذاكرته ، وفجأة وصل الى بيته فشاهد الكارثة ! زوجته تبكي وتصارع آلام الوضع ، وأطفاله يبكون ويصرخون وينادون بحيرة المظلومين أبي ... أبي ... إنقذنا ، ولا يدرون أن أباهم سيكون معهم حيث لا حيلة له أمام هذا الطغيان ،، وقبل أن يجيبهم أبوهم أو ينطق ببنت شفة دفعوه الى جوف العجلة بلا رأفة وما تمكن من فعل شيء ،، أيبكي لأطفاله ويهدئ من روعهم ؟! أم لزوجته ليشاطرها الآلام ؟ أم لنفسه ؟! أم للمصير المجهول الذي ينتظرهم ؟! أم للظلم الذي حل بهم بلا ذنب أو جريرة سوى إرتباطهم بهذا الوطن الذي أحبوه !! وبين آهات وصراخات الأطفال ( سليمان ، داود ، خالد ، رسول ، مريم ) وأنين الأم إنطلقت العجلة بسرعة لتقذف بهم خارج سور الوطن حيث لا يُسعفهم إلا أصوات الحيوانات المفترسة التي وجدت في كهوف الجبال مأوى لها وفحيح الأفاعي وسكون موحش وظلام مخيف يلف المكان ، فضلاً عن الاودية المتعرجة والمنحدرات التي لا يدري السائر فيها أين تؤدي به ، كل هذا يجعل آهات الأطفال وصراخاتهم تذوب في حلكة الليل البهيم وتنتهي في حنايا الوديان !
تصل العجلة العسكرية المكشوفة الى حافة الحدود وتنزل العائلة المنكوبة ، تحتضن العراء ، وتلوذ بتلاوة بعض آيات القران الكريم ، لكن القدر يلاحقهم ، فيسقط الجنين على رمال الحدود بين آهات الأم المسكينة وحيرة الأب وإندهاش الأولاد ، فيسقط الجنين ميتاً في ذلك الجو المرعب معلناً رفضه مغادرة الوطن ، ولا من مُسعف أو مغيث إلا الله سبحانه وتعالى دليل المتحيرين وغياث المستغيثين ، ويُدفَن في تربةٍ عُجِنَت منها طينته ، وأُشرب حبها قبل أن يرها ، شاء الله تبارك وتعالى أن يُدفَن هذا الجنين في وطنه ، أو ربما إستشعر الجنين برياح الإغتراب قد هبت على والديه وأخوته فأعلن رفضه مغادرة الوطن قهراً وبهذه الكيفية .
الجزء الأخير من المأساة ينقلها لنا شاهد عيان ( جاسم ) إبن المحلة الذي جن جنونه وقد أبلغوه إن حبيبته وحلم حياته هي الأخرى مع عائلتها قذفوهم خارج أسوار الوطن ، كان الخبر مثل الصاعقة على مسامعه ، وعبثاً حاول أن يعرف أين هم ؟ وأي طريق سلكوا ؟ فتأمل للحظات ، ثم إستقل دراجته النارية ، فسألوه : أين تريد ؟ قال : إما أعود بحبيبتي أو أبقى معها فلا طاقة لي على فراقها !! فيمد ببصره الى امام ، فيدير بقوة عتلة الوقود لتنطلق الدراجة بسرعة فائقة صوب الشرق ، وقبل أن يتسلل عبر الطرق الميسمية للبحث عن شقيقة فؤاده يلتقي بـ ( أبي سليمان ) ، ويشاهد كيف أن ( أم سليمان ) بعد أن فقدت جنينها ، تلفظ أنفاسها الأخيرة وتفارق روحها بدنها شاكية الى بارئها ألوان الظلم التي رأتها ، آخرها أن تقضي وهي في أرض الغربة!!!
وفي بيتهم الذي تركوه ورائهم خالياً إلا من ذكريات تشبثت بأجزاء المكان ، ثمة صورة لمأساة أخرى لتكتمل الجريمة ، فهناك رأوا الجيران إن الأجهزة القمعية بعرض أثاث البيت المتواضع جداً للمزاد العلني ، إيغالاً في الجريمة ، لكن الأصدقاء والجيران كانوا أوفياء لأبي سليمان إذ إشتروا تلك الأثاث وإحتفظوا بها عسى أن يعود يوماً ما أبو سليمان وعائلته يوما ما !!
فهل عاد أبو سليمان وعائلته ؟ أم قضى هو الأخر هناك في بلاد الغربة ؟ لا ندري أين حل بهم الدهر الآن ؟ ربما لو إلتقيتَ أحدهم لنقل لك المأساة بشكل آخر ، ولربما كان لسان حاله يقول : المعروف لدى المجتمعات أن ولاتها تعمل جاهدة لتحمي أبناءها وتدفع عنهم السوء وتوفر لهم الأمان بكل جهدها ، وتدفع عنهم نوائب الدهر وعادياتها ، بينما صرنا وولاتنا يقذفون بنا خارج وطننا ويسلبونا هويتنا وحريتنا ومستقبلنا ووأدوا الإبتسامة البريئة فوق شفاه الصغار ، لعمري هذا أمر عجيب ! والله من ورائهم محيط ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ؟!!.
|
|
|
|
|