ملف كامل عن حياة السيدة زينب ( ع ), نبذة كاملة عن .....
بتاريخ : 05-02-2008 الساعة : 07:32 PM
النسب الوضاح
ليس في دنيا الإسلام وغيره نسبٌ أرفع ولا أسمى من نسب السّيدة زينب سلام الله عليها، فقد تفرّعت من دوحة النبوة والإمامة، والتقت بها جميع أواصر الشرف والكرامة، فهي فرع زاكٍ من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومن الإمام عليّ عليه السّلام، وهما من أفضل ما خلق الله من بني الإنسان، فتبارك هذا النسب الوضّاح وتعالت تلك الاُسرة الكريمة التي أعزّ الله بها العرب والمسلمين وجعلها مصدر الوعي والإلهام للمسلمين على امتداد التأريخ.
إنّ الاُسرة العلوية هي أسمى اُسرة عرفها التأريخ بجهادها ونضالها وتبنّيها لحقوق الإنسان وقضايا مصيره، ومقاومتها للظلم والطغيان، فليس في اُمم العالم وشعوب الأرض مثل اُسرة العلويين في دفاعهم عن حقوق المظلومين والمضطهدين، وقد استشهد المئات منهم من أجل حرية الإنسان وكرامته.
وعلى أيّ حال فهذه لمحة موجزة عن الاُصول الكريمة التي تفرّعت منها سيّدة النساء زينب (عليها السّلام).
الجدّ
أمّا جدّ السيّدة زينب فهو سيّد الكائنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، الذي فجّر ينابيع العلم والحكمة في الأرض، وأسّس معالم الحضارة والتطوّر، وبنى مجتمعاً كريماً تسوده العدالة والقانون، وسحق خرافات الجاهلية وعاداتها ودمّر أصنامها وأوثانها، ودعى إلى توحيد الله خالق الكون وواهب الحياة، وجاء بالخير العميم لاُمّته، ولكلّ ما تسمو به من التقاليد والعادات، فما أعظم عائدته عليها وعلى البشرية جمعاء، لقد أرسله الله تعالى رحمةً للعالمين، ومنار هداية لخلقه أجمعين، فكان صلوات الله عليه كما قال الله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)(1)، فهو رحمة للناس جميعاً على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، حريصٌ على هدايتهم وإسعادهم، قال تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)(2).
لقد تشرّفت الإنسانية برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأشرقت الدنيا بدعوته، وتوطدت أركان العدالة بدينه، فهو (صلّى الله عليه وآله) القائد الملهم لقضايا الفكر والوعي في الأرض.
هذا رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ونبيّ الرحمة جدّ سيدة النساء زينب (عليها السّلام)، وقد ورثت منه خصائصه ومميزاته، والتي منها الدفاع عن الحق، ورفع كلمة الله عالية في الأرض.
الجدة
أمّا جدّة السيّدة زينب فهي أُمّ المؤمنين وسيّدة نساء النبي (صلّى الله عليه وآله) خديجة الكبرى التي نصرت الإسلام في أيام محنته وغربته، وجاهدت في سبيل الله كأعظم ما يكون الجهاد، وقد بذلت جميع ما تملكه في نصرة الإسلام، وكانت من أثرى قريش، فلم تعد بعد ثرائها العريض تملك ما تجلس عليه سوى حصيرٍ بالٍ، فكانت رضوان الله عليها من أهم الدعائم لإقامة دين الإسلام، وهي التي أمدّت النبي (صلّى الله عليه وآله) ومن كان معه طوال المدة التي اعتقلهم فيها طغاة قريش في (الشِعب)، وكانت تهوّن على النبي (صلّى الله عليه وآله) المصاعب والمصائب التي كان يعانيها من جهّال قريش وأو غادها، وكان النبي (صلّى الله عليه وآله) يشكر أياديها البيضاء، وما أسدته عليه من عظيم اللطف والفضل، فكان يذكرها دوماً بعد وفاتها ويترّحم عليها، وكان إذا ذبح شاة بعث بأطيب ما فيها إلى صديقاتها وفاءً لها، وكانت عائشة يثقل عليها ذلك، فكانت تندّد بها وتقول لرسول الله (صلّى الله عليه وآله): ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين قد أبدلك الله خيراً منها، فيرد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ويقول: (ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي حين كفر بي الناس، وواستني بمالها حين حرمني الناس، ورُزقت منها الولد وقد حرمته من غيرها)، لقد رزقه الله منها سيّدة نساء العالمين الصدّيقة فاطمة الزهراء (عليها السّلام) التي هي نفحة من روح الله تعالى.
إنّ السيّدة خديجة أسمى امرأة مجاهدة في الإسلام هي جدّة الصدّيقة زينب (عليها السّلام)، وقد ورثت صفات جدتها التي منها الاندفاع في نصرة الحقّ والذبّ عن المثل العليا، وقد ظهرت هذه الصفات بوضوح عند العقيلة، فقد وقفت إلى جانب أخيها الإمام الحسين(عليه السّلام) فهي شريكته في نهضته وجهاده، وهي التي أمدّت ثورته الجبارة الخالدة بعناصر البقاء والخلود.
الام
أمّا السيّدة زينب فهي البتول الطاهرة فاطمة الزهراء سلام الله عليها، سيدة نساء العالمين في فضلها وعفّتها وطهارتها من الزيغ والرجس، وهي بضعة من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وريحانته وأعزّ أبنائه وبناته عنده، وبلغ من عظيم حبّه لها أنّه إذا سافر جعلهــــا آخر من يودّعها لتكون صورتهـــا ماثلة أمامه، كـــما أنّه إذا قدِم من سفره كان أوّل من يستقبلها(3)، وذلك لسموّ مكانتها وعظيم شأنها، وقد عني بها عناية بالغة فغذّاها بمكرماته، وأفاض عليها أشعة من روحه التي ملأ سناها الكون، وغرس في نفسها عناصر حكمته وفضائله، فكانت صورة تحكيه ومثلاً صادقاً عنه، ويقول الرواة: أنّها كانت من أشبه الناس به هدياً وحديثاً ومنطقاً(4).
وكانت فيما أجمع عليه الرواة من أشفق الناس وأخلصهم لأبيها وأبرّهم به، فإذا رأته متأثراً أو حزيناً ذابت أسى وموجدة، ومن أمثلة ذلك ما رواه أبو نعيم بسنده عن أبي ثعلبة، قال: قَدِم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من غزاة له المسجد فصلّى فيه ركعتين - وكان يعجبه إذا قَدِم أن يدخل المسجد فيصلي فيه ركعتين- ثم خرج فأتى فاطمة (عليها السّلام) فبدأ بها قبل بيوت أزواجه فجعلت تقبّل وجهه وعينيه وتبكي، فقال لها رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (ما يبكيك؟) قالت: (أراك قد شحب لونك) فقال لها: (يا فاطمة، إنّ الله عزّ وجلّ بعث أباك بأمر لم يبق على ظهر الأرض مدر ولا شعر إلاّ أدخله به عزّاً أو ذلاً(5)، حيث سطع الليل(6).
تكريم وتعظيم
وأحاط النبي (صلّى الله عليه وآله) بضعته الطاهرة بهالة من التقديس والتكريم إظهاراً لعظيم شأنها، وسموّ مكانتها عند الله تعالى وعنده، وقد نقل الرواة عنه كوكبة من الأحاديث في ذلك منها ما يلي:
1 - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (يا فاطمة إنّ الله عزّ وجلّ يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك)(7).
2 - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): لفاطمة: (إنّ الربّ يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك)(8).
3 - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (يا فاطمة، أنّ الله ليغضب لغضبك ويرضى لرضاك)(9).
ومعنى هذه الأحاديث التي تقاربت في مؤداها أنّ لسيّدة النساء سلام الله عليها منزلة سامية عند الله، فقد أناط رضاه برضاها، وأناط غضبه بغضبها، وهذه أسمى وأرفع منزلة يصل إليها القدّيسون من عباد الله.
لقد انتهت سيّدة النساء إلى هذه المكانة عند الله تعالى، وذلك لما تتمتّع به من طاقات هائلة من الإيمان والتقوى حتى كان ذلك من عناصرها ومقوماتها.
4 - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (فاطمة بضعةٌ منّي، فمن أغضبها أغضبني)(10).
5 - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (فاطمةٌ بضعة منّي، يؤذيني ما آذاها، ويصيبني ما أصابها)(11).
6 - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (فاطمة بضعة منّي، يريبني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها)(12).
7 - قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إن فاطمة شجنة منّي، يبسطني ما يبسطها، ويقبضني ما يقضبها)(13)وحكت هذه الأحاديث بصورة واضحة أنّ من يخدش فاطمة الزهراء عليها السلام أو يسيئ إليها بأيّ لن من ألوان الإساءة، فقد واجه أباها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بذلك؛ لأنها كنفسه، وأنها بمقتضى هذه الأحاديث نسخة لا ثاني لها في فضائلها ومواهبها.
8 - روت عائشة أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال في مرضه الذي توفّي فيه لفاطمة: (يا فاطمة، ألا ترضين أن تكونِ سيّدة نساء العالمين، وسيّدة نساء هذه الأُمة، وسيّدة نساء المؤمنين)(14).
9 - روى عمران بن حصين: أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (ألا تنطلق بنا نعود فاطمة فإنها تشتكي) فقلت: بلى، فانطلقنا حتى إذا انتهينا إلى بابها فسلّم واستأذن، فقال: (أدخل أنا ومن معي) قالت: (نعم، ومن معك يا أبتاه؟ فو الله ما عليَّ إلاّ عباءة)، فقال: (اصنعي بها كذا)، فعلّمها كيف تستتر، فقالت: (والله ما على رأسي من خمار)، فأخذ ملاءة كانت عليه فقال: (اختمري بها)، ثمّ أذنت لهما فدخلا، فقال: (كيف تجدينك يا بنيّة؟) قالت: (إنّي لوجعة، وإنّه ليزدني أنّه ما لي طعام آكله)، قال: (يا بنيّة، أما ترضين إنّك سيّدة نساء العالمين) قالت: (يا أبتِ، فأين مريم ابنة عمران؟) قال: (تلك سيّدة نساء عالمها، وأنت سيّدة نساء العالمين، أما والله زوّجتك سيّداً في الدنيا والآخرة)(15).
10 - روى الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام: (أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال لفاطمة سلام الله عليها: ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء أهل الجنة، وابنيك سيّدا شباب أهل الجنة)(16).
11 - روى أنس بن مالك، أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (خير نساء العالمين أربعٌ: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد (صلّى الله عليه وآله))(17).
وكثيراً من أمثال هذه الروايات دُوِّنت في الصحاح والسنن وغيرهما وهي تشيد بفضل سيّدة النساء، وأنّ الله تعالى قد قلّدها أسمى أوسمة الشرف، وفضّلها على جميع نساء العالمين.
وهذه البتول سيّدة نساء العالمين هي أمّ السيّدة زينب سلام الله عليها، وهي التي تولّت تربيتها ونشأتها، فغذتها بمعارف الإسلام وحكمه وآدابه، وغرست في أعماق نفسها الإيمان بالله والانقطاع إليه، حتى صار ذلك من مقوماتها وذاتياتها، فكانت نسخة لا ثاني لها في فضائلها وصفاتها، فلم ير مثلها في نساء المسلمين وغيرهم في كمالها وآدابها وسائر نزعاتها.
يتبع مع الاب
التعديل الأخير تم بواسطة Dr.Zahra ; 09-02-2008 الساعة 02:26 PM.
أما أبو الصدّيقة الطاهرة زينب عليها السلام فهو الإمام أمير المؤمنين رائد الحكمة والعدالة في الإسلام، أخو النبي (صلّى الله عليه وآله) وباب مدينة علمه، ومَن كان منه بمنزلة هارون من موسى، وهو - فيما أجمع عليه الرواة - أوّل من آمن برسول الله (صلّى الله عليه وآله) واعتنق مبادئه وأهدافه، وقام إلى جانبه كأعظم قوّة ضاربة، يحمي دعوته ويصون رسالته ويخمد بسيفه نار الحروب التي أشعلتها قريش لتطفئ نور الله وتقضي على الإسلام في مهده، فوهب سلام الله عليه روحه لله تعالى، فحصد ببتّاره رؤوس الطغاة من القرشّيين وأنصارهم المشركين.
لقد كان الإمام أبرز بطل في جيوش المسلمين نازل ببسالة وصمود قوى الكفر والإلحاد، وأنزل بها الخسائر حتى فلّت وشلّت جميع فعاليتها العسكرية وباءت بالهزيمة والخسران، ولولا جهاد الإمام وكفاحه لما قام الإسلام على سوقه عبل الذراع مفتول الساعد، فما أعظم عائدته على الإسلام والمسلمين.
وكان من عظيم إيمان الإمام ونصرته للإسلام مبيته على فراش النبي (صلّى الله عليه وآله) ووقايته له بنفسه، حينما أجمعت قريش على قتله، وكانت هذه المواساة الرائعة أعظم نصر للإسلام، فقد نجا النبي (صلّى الله عليه وآله) من أقسى مؤامرة دُبّرت لاغتياله، فقد فشلت، وأنقذ الله تعالى نبيّه من تلك الوحوش الكاسرة التي أرادت أن تطفئ نور الإسلام وتعيد الظلام للأرض.
لقد صحب الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) منذ نعومة أظفاره النبي (صلّى الله عليه وآله)، وتخلّق بطباعه وأفكاره، وتغذى بحِكَمِه وعلومه، فكان باب مدينة علمه، وقد أثرت عنه من العلوم ما يبهر العقول، يقول العقاد: إنّه فتح ما يربو على ثلاثين علماً لم تكن معروفة قبله كعلم الكلام والفلسفة والقضاء والحساب وغيرها، وهو القائل: (سلوني قبل أن تفقدوني)، ولم يفه أحد بمثل هذه الكلمة غيره، وقد أخبر عن علمه وإحاطته بأسرار الكون والفضاء، فقال: (سلوني عن طرق السماء فإني أعرف بها من طرق الأرض)، كما تحدّث عن درايته بما احتوت عليه الكتب السماوية من أحكام قائلاً: (لو ثُنيت لي الوسادة لأفتيت أهل الإنجيل بإنجيلهم، وأهل الزبور بزبورهم، وأهل الفرقان بفرقانهم، وأهل القرآن بقرآنهم) لقد كان الإمام(عليه السّلام) أعظم عملاق في الميادين العلمية عرفته الإنسانية بعد النبي (صلّى الله عليه وآله)، ويدلّ على طاقاته العلمية الهائلة كتابه نهج البلاغة الذي هو من أعظم ما تملكه الإنسانية من تراثٍ بعد القرآن الكريم.
ومن مظاهر شخصيّة الإمام(عليه السّلام) زهده في الدنيا وعدم احتفائه بأيّ زينةٍ من زين الحياة فقد تقلّد الحكم وتشرفت الدولة الإسلامية بقيادته، فزهد في جميع مظاهر السلطة، وجعل الحكم وسيلة لإقامة الحقّ والعدل ونشر المساواة بين الناس، ولم يستخدم السلطة لتنفيذ رغباته، والظفر بالثراء العريض، ومن المقطوع به إنّه ليس في تأريخ الشرق العربي وغيره حاكم كالإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، قد عنى بالصالح العام، وتجرّد عن كل منفعة شخصية له، وهو القائل لابن العباس، وكان يصلح نعله الذي هو من ليف:
لقد تبنّى العدل الخالص والحقّ المحض في جميع مراحل حكمه، فالقريب والبعيد عنده سواء، والقوي عنده ضعيف حتى يأخذ منه الحق، والضعيف عنده قوي حتى يأخذ له بحقّه، وقد أوجد في أيام خلافته وعياً سياسياً أصيلاً وهو التمرّد على الظلم ومقارعة الجبابرة والطغاة، وكان أبرز من تغذّى بهذا الوعي ولده أبو الأحرار الإمام الحسين(عليه السّلام) وبطلة الإسلام ابنته سيّدة النساء زينب عليها السلام، وكوكبة من مشاهير أصحابه كحجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي وميثم التمّار وغيرهم من بُناة المجد الإسلامي الذين ثاروا على الظالمين.
وعلى أي حال، فهذا العملاق العظيم هو أبو الصدّيقة الطاهرة زينب عليها السلام، فقد غذّاها بمثله ومكوناته النفسية، وأفرغ عليها أشعة من روحه الثائرة على الظلم والطغيان، فكانت تحكيه في انطباعاته واتجاهاته، فقارعت الظالمين، وناجزت الطغاة المستبدين، وأذلت الجبابرة المتكبّرين، وألحقت بهم الخزي والدمار.
لقد وقفت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ومفخرة الإسلام إلى جانب أخيها أبي الأحرار حينما فجّر ثورته الكبرى التي هي أعظم ثورة إصلاحية عرفها التأريخ الإنساني، وقد شابهت بذلك أباها رائد العدالة الاجتماعية حينما وقف إلى جانب جدّها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) حينما اعلن دعوته الخالدة الهادفة إلى تحرير الفكر البشري من عوامل الانحطاط والتأخّر، وإنارته بالعلوم والعرفان ودفعه إلى إقامة مجتمع متوازن في سلوكه وإرادته.
لقد كانت هذه السيّدة العظيمة في سيرتها وسلوكها من أشبه الناس بأبيها الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فقد تبنّت بصورة إيجابية جميع أهدافه ومخططاته ومواقفه التي منها نصرته للإسلام في أيام محنته وغربته، وكذلك هذه السيّدة العملاقة نصرت الإسلام حينما عاد غريباً في ظل الحكم الاُموي الذي استهدف قلع جذور الإسلام ولفّ لوائه، وإعادة الحياة الجاهلية بأوثانها وأصنامها، ولكنها مع أخيها سلام الله عليها قد أفسدت مخططات الاُمويّين، وأعادت للإسلام نضارته ومجده.
جدّها لأبيها
أمّا جدُّ السيّدة الزكية زينب لأبيها فهو حامي الإسلام وبطل الجهاد المقدّس، أبو طالب (مؤمن قريش) الذي نافح عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وجاهد في سبيله كأعظم ما يكون الجهاد، ولولا حمايته للنبي وقيامه بدور مشرق في الذبّ عنه لأتت عليه قريش وقضت على الدعوة في مهدها.
لقد كان أبو طالب من أوثق المسلمين إيماناً، ومن أكثرهم إخلاصاً لدين التوحيد، وهو القائل:
ولقــــد علـــمت بأنّ دين محمّد مــــن خيــــر أديان البرية ديناً
وحكى هذا البيت إيمانه العميق بأنّ دين النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من خير أديان البرية، ولهذا اندفع كأعظم قوة ضاربة إلى حماية النبي (صلّى الله عليه وآله) وحراسته من ذئاب الاُسر القرشية التي أجمعت أن تلفّ لواء الإسلام وتطوي رسالته.
لقد وقف هذا العملاق العظيم محامياً عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهو القائل:
والله لــن يصــلوا إليك بجمعهم حتـــى أُوســــد التــــراب دفيناً
وظلّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تحت حراسة أبي طالب وحمايته، ينشر دعوته ويذيع مبادئه آمناً عزيزاً مهاباً، وقد جنّد أولاده لخدمة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وألزمهم بالذبّ عنه، فكان ولده الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) من أقوى حرسه، ومن أكثرهم دفاعاً عنه فخاض أعنف الحروب وأقساها لحمايته، ونشر مبادئه وأهدافه.
ولمّا انتقل هذا الصرح العظيم إلى حضيرة القدس حزن عليه النبي (صلّى الله عليه وآله) كأعظم ما يكون الحزن، فلقد فَقَدَ بموته المحامي والناصر، وأعزّ ما كان يحنو عليه ويعطف، وأطلق على العام الذي توفي فيه مع اُمّ المؤمنين خديجة (عام الحزن)(18)، وقد أجمعت قريش بعد موت أبي طالب على قتل النبي (صلّى الله عليه وآله)،فاضطر (صلّى الله عليه وآله) إلى الهرب من مكة في غلس الليل البهيم بعد أن ترك أخاه وابن عمّه الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) في فراشه، فرحم الله أبا طالب فما أعظم عائدته على الإسلام والمسلمين، وما أكثر ألطافه وأياديه على النبي (صلّى الله عليه وآله).
إنّ هذا العملاق العظيم هو جدّ سيّدة النساء زينب عليها السلام لأبيها، وقد ورثت منه خصائصه وذاتياته التي من أبرزها التفاني في الحق ونكران الذات.
جدّتها لأبيها
وجدّة السيّدة زينب عليها السلام لأبيها هي السيّدة الزكية فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف زوجة أبي طالب، وهي من سيّدات النساء في إيمانها وطهارتها، وقد برّت بالنبي (صلّى الله عليه وآله)، وتولت تربيته وكانت ترعاه وتعطف عليه أكثر ممّا تعطف على أبنائها، وقدّمت له أعظم الخدمات، وقد قطع (صلّى الله عليه وآله) شوطاً من حياته تحت رعاية هذه السيّدة الزكية التي ما تركت لوناً من ألوان الرعاية والبرّ إلاّ قدّمتها إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وكانت من أعزّ الناس عنده، ولمّا فجع بوفاتها ألبسها قميصه واضطجع معها في قبرها، فبهر أصحابه وقالوا له:
يا رسول الله، ما رأيناك صنعت بأحدٍ ما صنعت بهذه؟
فأخبرهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عن عظيم برّها ومعروفها قائلاً:
(إنّه لم يكن أحدٌ بعد أبي طالب أبرّ بي منها، إنّما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنة، واضطجعت معها في قبرها ليهوّن عليها)(19).
إن هذه الاُصول العملاقة التي اتّسمت بالإيمان والشرف والكرامة وبكل ما يسمو به الإنسان من القيم والمبادئ الكريمة، قد تفرّعت منها بطلة الإسلام وصانعة التأريخ السيّدة زينب عليها السلام، فقد ورثت جميع نزعات آبائها وخصائصهم وصفاتهم، حتى صارت صورة مشرقة عنهم.
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وأهلك أعدائهمأجمعين ،،،
اللهم صل على الصديقة الطاهرة فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسرالمستودع فيها عدد ما أحاط به علمك وأحصاه كتابك ،،
السلام على أم الشهيد بكربلاء
السلام على أم الملقى في الهيجاء
السلام على أم المخضّب بالدماء
السلام على أم الشهيد المحروم من الماء
السلام على أم الصريع على الرمضاء
السلام على ذات أعظم بلاء
السلام عليك يا سيدتي ومولاتي يا فاطمة الزهراء
السلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلت بفنائك
***
الله الله يااخيتي الكريمه
موضوعكم يحرر في القلب لواعج الحب وتباريح الهوى الى قبر سيدتي ومولاتي
زينب اه هذه المراه العظيمه الكبيره الصبوره
التي عانت ماعانت ولاقت مالاقت وبقت جبلا صامدا
نستلهم منه الصمود والقوه وبقت شعاعا وهاجا ينير حياتنا
اهدنا الصراط المستقيم
اخيتي الكريمه واصلي الكتابه ويلعم الله مالك جزاء ذلك
واتمنى ان تقبلوا شيءا بسيطا وهو وسام تميز موضوعكم وقد وضعته في بداية الموضوع
ليعلم الجميع ان موضوعكم مميزا جدا
ازدهرت حياة الاُسرة النبوية بالسبطين الكريمين الإمامين: الحسن والحسين (عليهما السّلام)، فكانا كالقمرين في ذلك البيت الكريم، الذي أذن الله أن يرفع ويُذكر فيه اسمه، وقد استوعبا قلب جدّهما الرسول (صلّى الله عليه وآله) مودّةً ورحمةً وحناناً، فكان يرعاهما برعايته، ويغدق عليهما بإحسانه ويفيض عليهما من مكرمات نفسه التي استوعب شذاها جميع آفاق الوجود.
لقد كان النبي (صلّى الله عليه وآله) يكنّ في دخائل نفسه أعمق الودّ لسبطيه، فكان يقول: (هما ريحانتي من الدنيا)(1).
وبلغ من عظيم حبّه لهما أنّه كان على المنبر يخطب، فأقبل الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران، وهما يمشيان ويعثران فنزل عن المنبر فحملهما، ووضعهما بين يديه وقال: (صَدَقَ الله إذ يقول: (واعلموا أما أموالكم وأولادكم فتنة)(2) لقد نظرت إلى هذين الصبيين وهما يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما)(3).
وكان يقول لسيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام): (ادعى ابني فيشمّهما، ويضمّهما إليه)(4).
وفي تلك الفترة السعيدة التي عاشتها الاُسرة النبوية وهي مترعة بالولاء والعطف من الرسول (صلّى الله عليه وآله) عَرَضَ للصدّيقة الطاهرة سيّدة نساء العالمين فاطمة (عليها السّلام) حملٌ، فأخذ النبي (صلّى الله عليه وآله) ينتظره بفارغ الصبر ليبارك به لحبيبته فاطمة، ولباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، أمّا ذلك الحمل فهو:
الوليدة المباركة
ووضعت الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السّلام) وليدتها المباركة التي لم تولد مثلها امرأة في الإسلام إيماناً وشرفاً وطهارةً وعفةً وجهاداً، وقد استقبلها أهل البيت وسائر الصحابة بمزيدٍ من الابتهاج والفرح والسرور، وأجرى الإمام أمير المؤمنين على وليدته المراسيم الشرعية، فإذّن في أُذنها اليمنى، وأقام في اليسرى.
لقد كان أوّل صوت قرع سمعها هو: (الله أكبر، لا إله إلاّ الله) وهذه الكلمات اُنشودة الأنبياء، وجوهر القيم العظيمة في الأكوان.
وانطبعت هذه الاُنشودة في أعماق قلب حفيدة الرسول فصارت عنصراً من عناصرها، ومقوماً من مقوماتها.
وجوم النبي وبكاؤه
وحينما علم النبي (صلّى الله عليه وآله) بهذه المولودة المباركة سارع إلى بيت بضعته، وهو خائر القوى حزين النفس، فأخذها ودموعه تتبلور على سحنات وجهه الكريم، وضمّها إلى صدره، وجعل يوسعها تقبيلاً، وبهرت سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) من بكاء أبيها، فانبرت قائلةً: (ما يبكيك يا أبتي؟ لا أبكى الله لك عيناً). فأجابها بصوت حزين النبرات: (يا فاطمة، اعلمي أنّ هذه البنت بعدي وبعدك سوف تنصبّ عليها المصائب والرزايا)(5).
لقد استشف النبي (صلّى الله عليه وآله) ما يجري على حفيدته من الرزايا القاصمة التي تذوب من هولها الجبال، وسوف تمتحن بما لم تمتحن به أيّ سيّدة من بنات حواء. ومن الطبيعي أنّ بضعته وباب مدينة علمه قد شاركا النبي في آلامه وأحزانه، وأقبل سلمان الفارسي الصديق الحميم للاُسرة النبوية يهنئ الإمام أمير المؤمنين بوليدته المباركة فألفاه حزيناً واجماً، وهو يتحدّث عمّا تعانيه ابنته من المآسي والخطوب(6)، وشارك سلمان أهل البيت في آلامهم وأحزانهم.
تسميتها
وحملت زهراء الرسول وليدتها المباركة إلى الإمام فأخذها وجعل يقبّلها، والتفتت إليه فقالت له:
(سمّ هذه المولودة).
فأجابها الإمام بأدبٍ وتواضعٍ: (ما كنت لأسبق رسول الله).
وعرض الإمام على النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يسمّيها، فقال: (ما كنت لأسبق ربّي).
وهبط رسول السماء على النبي، فقال له: سمّ هذه المولودة (زينب)، فقد اختار الله لها هذا الاسم.
وأخبره بما تعانيه حفيدته من أهوال الخطوب والكوارث فأغرق هو وأهل البيت في البكاء(7).
كنيتها
وكنيت الصدّيقة الطاهرة زينب بـ(اُمّ كلثوم)، وقيل: إنها تكنى بـ(اُمّ الحسن
ألقابها
أما ألقابها فإنّها تنمّ عن صفاتها الكريمة، ونزعاتها الشريفة وهي:
عقيلة بني هاشم:
و(العقيلة) هي: المرأة الكريمة على قومها، والعزيزة في بيتها، والسيّدة زينب أفضل امرأة، وأشرف سيّدة في دنيا العرب والإسلام، وكان هذا اللقب وساماً لذرّيتها فكانوا يلقّبون بـ(بني العقيلة).
العالمة:
وحفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) من السيّدات العالمات في الاُسرة النبوية، فكانت فيما يقول بعض المؤرخين: مرجعاً للسيّدات من نساء المسلمين يرجعن إليها في شؤونهن الدينية.
عابدة آل عليّ:
وكانت زينب من عابدات نساء المسلمين، فلم تترك نافلة من النوافل الإسلامية إلاّ أتت بها، ويقول بعض الرواة: إنها صلّت النوافل في أقسى ليلة وأمرّها وهي ليلة الحادي عشر من المحرم.
الكاملة:
وهي أكمل امرأة في الإسلام في فضلها وعفّتها وطهارتها من الرجس والزيغ.
الفاضلة:
وهي من أفضل نساء المسلمين في جهادها وخدمتها للإسلام، وبلائها في سبيل الله. وهذه بعض ألقابها التي تدلّل على سموّ ذاتها وعظيم شأنها.
أمّا السنة التي وُلدت فيها عقيلة آل أبي طالب، فقد اختلف المؤرخون والرواة فيها، وهذه بعض أقوالهم:
1 - السنة الخامسة من الهجرة في شهر جمادى الاُولى.
2 - السنة السادسة من الهجرة.
3 - السنة التاسعة من الهجرة، وفنّد هذا القول الشيخ جعفر نقدي، فقال: وهذا القول غير صحيح لأنّ فاطمة (عليها السّلام) توفيت بعد والدها في السنة العاشرة أو الحادية عشر على اختلاف الروايات، فإذا كانت ولادة السيّدة زينب في السنة التاسعة وهي كبرى بناتها فمتى كانت ولادة اُمّ كلثوم، ومتى حملت بالمحسن اسقطته لستة أشهر. وقال: والذي يترجّح عندنا هو أنّ ولادة زينب كانت في السنة الخامسة من الهجرة، وذكر مؤيدات اُخرى لما ذهب إليه(9).
نشأتها
نشأت الصدِّيقة الطاهرة زينب (عليها السّلام) في بيت النبوة ومهبط الوحي والتنزيل، وقد غذّتها اُمها سيّدة نساء العالمين بالعفّة والكرامة ومحاسن الأخلاق والآداب، وحفظتها القرآن، وعلّمتها أحكام الإسلام، وأفرغت عليها أشعة من مثلها وقيمها حتى صارت صورة صادقة عنها.
لقد قطعت شوطاً من طفولتها في بيت الشرف والكرامة والرحمة والمودة، فقد شاهدت أباها الإمام أمير المؤمنين (عليها السّلام) يشارك اُمّها زهراء الرسول في شؤون البيت، ويعينها في مهامه، ولم تتردّد في أجواء البيت أية كلمة من مرّ القول وهجره، وشاهدت جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) يغدق عليهم بفيض من تكريمه وتبجيله وعطفه وحنانه، كما شاهدت الانتصارات الباهرة التي أحرزها الإسلام في الميادين العسكرية، والقضاء على خصومه القرشيّين وأتباعهم من عبدة الأوثان والأصنام، فقد ساد الإسلام، وارتفعت كلمة الله عاليةً في الأرض، ودخل الناس في دين الله أفواجاً أفواجاً.
لقد ظفرت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بأروع وأسمى ألوان التربية الإسلامية، فقد شاهدت أخاها الإمام الحسين يعظّم أخاه الإمام الحسن(عليه السّلام) ويبجّله، فلم يتكلّم بكلمة قاسية معه، ولم يرفع صوته عليه ولم يجلس إلى جانبه، وشاهدت أخوتها من أبيها، وهم يعظمون أخويها الحسن والحسين، ويقدّمون لهما آيات التكريم والتبجيل، وكانت هي بالذات موضع احترام اخوتها، فكانت إذا زارت أخاها الإمام الحسين(عليه السّلام) قام لها إجلالاً وإكباراً وأجلسها في مكانه، وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة قبر جدّها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خرج معها أبوها الإمام أمير المؤمنين وأخوها الحسنان، ويبادر الإمام أمير المؤمنين إلى إخماد ضوء القناديل التي على المرقد المعظّم، فسأله الإمام الحسن(عليه السّلام) عن ذلك، فقال له: (أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك الحوراء)(10).
لقد اُحيطت عقيلة بني هاشم بهالة من التعظيم والتبجيل من أبيها وأخوتها، فهي حفيدة النبي (صلّى الله عليه وآله)، ووريثة مُثُله وقيمه وآدابه، كما كانت لها المكانة الرفيعة عند العلماء والرواة، فكانوا إذا رووا حديثاً عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) في أيام الحكم الاُموي، يقولون: روى أبو زينب، ولم يقولوا: (روى أبو الحسنين)، وذلك اشاده بفضلها وعظيم منزلتها.
قدراتها العلمية
كانت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) في فجر الصبا آيةً في ذكائها وعبقريتها، فقد حفظت القرآن الكريم، كما حفظت أحاديث جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) فيما يتعلّق بأحكام الدين وقواعد التربية واُصول الأخلاق، وقد حفظت الخطاب التأريخي الخالد الذي ألقته اُمّها سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) في (الجامع النبوي) احتجاجاً على أبي بكر لتقمّصه للخلافة، ومصادرته لـ(فدك) التي أنحلها إيّاها أبوها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وقد روت خطبة اًمّها التي ألقتها على السيّدات من نساء المسلمين حينما عُدنها في مرضها الذي توفّيت فيه، كما روت عنها كوكبة من الأحاديث.
قد بهر الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) من شدّة ذكائها، فقد قالت له: (أتحبّنا يا أبتاه).
فأسرع الإمام قائلاً: (وكيف لا اُحبكم وأنتم ثمرة فؤادي).
وعجب الإمام(عليه السّلام) من فطنتها، فقد أجابته جواب العالم المنيب إلى الله تعالى، وكان من فضلها واعتصامها بالله تعالى أنّها قالت: (من أراد أن لا يكون الخلق شفعاؤه إلى الله فليحمده، ألم تسمع إلى قوله: سمع الله لمن حمده، فخف الله لقدرته عليك، واستح منه لقربه منك)(12).
وممّا يدلّ على مزيد فضلها أنّها كانت تنوب عن أخيها الإمام الحسين في حال غيابه فيرجع إليها المسلمون في المسائل الشرعية، ونظراً لسعة معارفها كان الإمام زين العابدين(عليه السّلام) يروي عنها، وكذلك كان يروي عنها عبد الله بن جعفر، والسيّدة فاطمة بنت الإمام الحسين، ولمّا كانت في الكوفة في أيام أبيها كان لها مجلس خاص تزدحم عليها السيّدات فكانت تلقي عليهن محاضرات في تفسير القرآن الكريم، كما كانت المرجع الأعلى للسيّدات من نساء المسلمين، فكنّ يأخذن منها أحكام الدين وتعاليمه وآدابه، ويكفي للتدليل على فضلها أنّ ابن عباس حبر الاُمّة كان يسألها عن بعض المسائل التي لا يهتدي لحلّها، كما روى عنها كوكبة من الأخبار، وكان يعتزّ بالرواية عنها، ويقول: (حدّثتنا عقيلتنا زينب بنت علي)، وقد روى عنها الخطاب التأريخي الذي ألقته اُمّها سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) في جامع أبيها (صلّى الله عليه وآله)، وقد نابت عن ابن أخيها الإمام زين العابدين(عليه السّلام) في أيام مرضه، فكانت تجيب عمّا يرد عليه من المسائل الشرعية، وقد قال(عليه السّلام) في حقها:
(إنها عالمة غير معلّمة)، وكانت ألمع خطيبة في الإسلام، فقد هزّت العواطف، وقلبت الرأي العام وجنّدته للثورة على الحكم الاُموي، وذلك في خطبها التأريخية الخالدة التي ألقتها في الكوفة ودمشق، وهي تدلّل على مدى ثرواتها الثقافية والأدبية.
لقد نشأت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) في بيت الوحي ومركز العلم والفضل، فنهلت من نمير علوم جدّها وأبيها وأخويها، فكانت من أجل العالمات، ومن أكثرهن إحاطة بشؤون الشريعة وأحكام الدين.
ولما تقدّمت سيدة النساء زينب في السنّ انبرى الأشراف والوجوه إلى خطبتها، والتشرّف بالاقتران بها، فامتنع الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) من إجابتهم، وتقدّم لخطبتها فتىً من أنبل فتيان بني هاشم وأحبّهم إلى الإمام وأقربهم إليه، وهو ابن أخيه: عبد الله بن جعفر، من أعلام النبلاء والكرماء في دنيا العرب والإسلام، فأجابه الإمام إلى ذلك ورحّب به، ونعرض - بإيجاز- إلى بعض شؤونه.
أبوه جعفر:
أما جعفر فقد كان - فيما يقول الرواة -: من أشبه الناس خلقاً وخُلقاً بالنبي (صلّى الله عليه وآله)(13). يقول فيه أبو هريرة: ما احتذى النعال ولا ركب المطايا، ولا وطئ التراب بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أفضل من جعفر بن أبي طالب(14). وهو من السابقين للإسلام وقد رآه أبوه طالب يصلّي مع أخيه الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) خلف النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال له: صل جناح ابن عمّك، وصلِّ عن يساره، وكان علي يصلّي عن يمينه)(15). وله هجرتان إلى الحبشة، وهجرة إلى المدينة(16).
وكان من أبرّ الناس بالفقراء والضعفاء، وقد برّ بأبي هريرة وأحسن إليه أيام بؤسه وفقره، وقد تحدّث عن ذلك، قال: كنت لألصق بطني بالحصباء من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية وهي معي كي ينقلب بي فيطعمني، وكان أبرّ الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب كان ينقلب فيطعمنا ما كان في بيته حتى كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء فنشقّها فنلعق ما فيها(17).
وقدم إلى المدينة من هجرته إلى الحبشة فاستبشر به رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وفرح فقد صادف قدومه فتح خيبر، فقال (صلّى الله عليه وآله): (ما أدري بأيّهما أنا أشد فرحاً أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر..)(18).
واختطّ له النبي (صلّى الله عليه وآله) داراً إلى جنب المسجد، وكان أثيراً عنده، لا لأنه ابن عمه فحسب، وإنما لإيمانه الوثيق وتفانيه في نشر كلمة الإسلام، وإشاعة مبادئه وأحكامه..بعثه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في جيش إلى مؤتة في السنة الثامنة من الهجرة فاستشهد فيها، ويقول الرواة: إنّ اللواء كان بيده اليمنى فقطعت، فرفعه بيده اليسرى، فلمّا قطعت رفعه بيديه، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (وإن الله عزّ وجلّ أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء)(19).
ولهذا لقّب بـ(ذي الجناحين) وبـ(الطيار).
وحزن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على جعفر، فقصد داره ليواسي زوجته وأبناءه بمصائبهم الأليم، فقال لزوجته أسماء: (ائتيني ببني جعفر)، فأتته بهم، فجعل يوسعهم تقبيلاً ودموعه تتبلور على سحنات وجهه الكريم، وفهمت أسماء نبأ شهادة زوجها فقالت لهيا رسول الله، أبَلَغك عن جعفر وأصحابه شيء).
فأجابها بنبراتٍ تقطرأسىً وحزناً قائلاًنعم اُصيب هذا اليوم).
وأخذت أسماء تنوح على زوجها، وأقبلت السيّدات من نساء المسلمين يعزينها بمصابها الأليم، وأمر النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يصنع طعام لآل جعفر(20) وأقبلت سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السّلام) على أسماء تعزّيها وهي باكية العين، وقد رفعت صوتها قائلة: (وا عماه).
وطفق رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: (على مثل جعفر فلتبك البواكي)(21).
لقد كانت شهادة جعفر من أقسى النكبات على النبي (صلّى الله عليه وآله)، فقد فَقَدَ بشهادته أعزّ أبناء عمومته وأخلصهم إليه.
الاُم أسماء:
أمّا اُم عبد الله فهي السيّدة الشريفة أسماء بنت عميس، وهي من السابقات إلى اعتناق الإسلام، هاجرت مع زوجها الشهيد الخالد جعفر الطيار إلى الحبشة، وقد ولدت فيها عبد الله وعوناً ومحمداً، ثم هاجرت إلى المدينة، ولما استشهد جعفر تزوّجها أبو بكر فولدت له محمداً، وهو من أعلام الإسلام، ثم توفي أبو بكر فتزوّجها الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فولدت له يحيى(22)، وقد أخلصت لأهل البيت (عليهم السّلام) فكانت من حزبهم، ولها علاقة وثيقة مع سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السّلام)، فقد قامت بخدمتها، وقد عهدت إليها في مرضها أن لا تدخل عليها عائشة بنت أبي بكر، فجاءت عائشة لها فمنعتها أسماء، فاغتاظت وشكتها إلى أبي بكر فعاتبها، فأخبرته بعدم رضاء الزهراء في زيارتها(23).
لقد كانت أسماء من خيرة نساء المسلمين في عفّتها وطهارتها وولائها لأهل بيت النبوة، كما كانت من الروايات للحديث، ويقول المؤرخون: إنها روت عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ستين حديثاً.
وعلى أيّ حال، فإن أسماء حينما تزوّجها الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) قامت بخدمة الحسنين وأختهما زينب (عليها السّلام)، وصارت لهم اُمّاً رؤوماً، ترعاهم كما ترعى أبناءها، لأنهم البقية الباقية من ذرية رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد أخلصوا لها كأعظم ما يكون الإخلاص وشكروا لها رعايتها وعطفها.
عبد الله:
ونعود للحديث عن عبد الله بن جعفر، فقد كان فذاً من أفذاذ الإسلام وسيّداً من سادات بني هاشم، يقول فيه معاوية: هو أهلٌ لكلّ شرفٍ، والله ما سبقه أحدٌ إلى شرف إلاّ وسبقه(24).
وكان يُسمى (بحر الجود)(25)، ويقال: لم يكن في الإسلام أسخى منه(26)، مدحه نصيب فأجزل له في العطاء، فقيل له: تعطي لهذا الأسود مثل هذا فقال: إن كان أسود فشعره أبيض، ولقد استحق بما قال أكثر مما نال، وهل أعطيناه إلاّ ما يبلى، وأعطانا مدحاً يروى، وثناءً يبقى(27). وعوتب على كثرة برّه وإحسانه إلى الناس، فقال: إن الله عوّدني عادة، وعوّدت الناس عادة، فأخاف إن قطعتها قطعت عني(28).
وأنشد:
لســـــت أخشـــــــــى قلة العدم مـــــا اتـــــقيـــــــــت الله فــي كرمي
ونقل الرواة بوادر كثيرة من كرمه وسخائه، وقد وسع الله عليه لدعاء النبي (صلّى الله عليه وآله) له فكان من أثرى أهل المدينة، ومضافاً إلى سخائه فقد كان من ذوي الفضيلة، فقد روى عن عمه الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) وعن الحسن والحسين (عليهما السّلام).
أبناؤه:
وُرزق هذا السيّد الجليل من سيدة النساء زينب (عليها السّلام) كوكبة من السادة الأجلاء وهم:
1- عون:
وكان من أبرز فتيان بني هاشم في فضله وكماله، صحب خاله الإمام الحسين عليه السّلام، حينما هاجر من يثرب إلى العراق، ولازمه في رحلته، فلما كان يوم العاشر من المحرم، اليوم الخالد في دنيا الأحزان، تقدم إلى الشهادة بين يدي خاله، فبرز إلى حومة الحرب وهو يرتجز:
إن تـــــنكروني فــــــأنا ابــن جعفر شهـــــيد صـــدق في الجنان أزهر
يطيـــــر فـــــيها بــــــجـناح أخضر كفــــى بــــــهذا شــرفـاً من محشر(30)
لقد عرّف نفسه - بهذا الرجز - فقد انتسب إلى جده الشهيد العظيم جعفر، الذي قطعت يداه في سبيل الإسلام، ويكفيه بذلك شـــــرفاً وفخراً، وجعل الفتى يقاتل الأبطال غير حافل بتلك الوحوش الكاسرة، فحمل عليه وغد خبيث هو عبد الله الطائي فقتله(31)، ورثاه سليمان بن قنة بقوله:
وانـــــدبي إن بــــكيت عـــــوناً أخــــاه ليـــــس فـــــــــــــــيما يــــــنوبهـم بـــخـذول
فــــلعمري لــــقد أصــــبت ذوي القـــر بـــى فكـــــبى عـــلى الـمصاب الطويل(32)
2- علي الزينبي.
3- محمد.
4- عباس.
5- السيّدة اُمّ كلثوم(33):
وبلغت هذه السيّدة مبلغ النساء، وكانت فريدة في جمالها وعفافها واحترامها عند أهلها وعامة بني هاشم، وأراد معاوية أن يتقرّب إلى بني هاشم ويعزّز مكانته في نفوس المسلمين، في أن يخطبها لولده يزيد، فكتب إلى واليه على يثرب مروان بن الحكم كتاباً جاء فيه:
أمّا بعد: فأنّ أمير المؤمنين أحب أن يرد الإلفة، ويسلّ السخيمة، ويصل الرحم، فإذا وصل إليك كتابي، فاخطب إلى عبد الله بن جعفر ابنته اُمّ كلثوم على يزيد ابن أمير المؤمنين، وارغب إليه في الصداق..
وظنّ معاوية أنّ سلطته المزيفة، وما يبذله من الأموال الطائلة تغري السادة العلويين الذين تربّوا على الكرامة والشرف، وكل ما يسمو الإنسان، ولم يعلم أن سلطته وأمواله لا تساوي عندهم قلامة أظفر.
ولمّا انتهى كتاب معاوية إلى مروان خاف جانب الإمام الحسين، لأنّه يعلم أنّه يفسد عليه الأمر، وسافر الحسين، فاغتنم مروان فرصة سفره فبادر مسرعاً إلى عبد الله بن جعفر، فعرض عليه كتاب معاوية، وجعل يحبّذ له الأمر، ويطالبه بالإسراع فيه لأنّ في ذلك إصلاحاً لذات البين، واجتماعاً للكلمة ولم يخف عن عبد الله الأمر، فقال لمروان: إنّ خالها الحسين في ينبع(34). وليس لي من سبيل أن أقدم على هذا الأمر من دون أخذ رأيه وموافقته.
ولمّا رجع الإمام الحسين(عليه السّلام) إلى يثرب خفّ إليه عبد الله بن جعفر مسرعاً، فعرض عليه الأمر، وما أجاب به مروان، فالتاع الإمام الحسين(عليه السّلام) من (ذلك) إذ كيف تكون ابنة أخته عند فاجر بني أمية، حفيد أبي سفيان، فانطلق الإمام(عليه السّلام) إلى شقيقته زينب (عليها السّلام) وأمرها بإحضار ابنتها اُمّ كلثوم فلمّا مثلث أمامه، قال لها: إن ابن عمّك القاسم بن محمد بن جعفر أحقّ بك، ولعلك ترغبين في كثرة الصداق.
واستجابت الفتاة لرأي خالها، ورحّبت أمّها العقيلة بذلك، ورضي أبوها عبد الله برغبة الإمام الحسين، وقدم لها الإمام مهراً كثيراً.
وكتم الإمام الأمر، فلما كانت ليلة الزواج أقام دعوة عامة فيها جمهرة كبيرة من أبناء المدينة، وكان من جملة المدعوين: مروان، وقد ظنّ أنّه دعي لتلبية ما رغب فيه معاوية من زواج السيّدة اُمّ كلثوم بابنه يزيد، فقام خطيباً فأثنى على معاوية وما قصده من جمع الكلمة وصلة الرحم، ولمّا أنهى كلامه قام الإمام الحسين (عليه السّلام) فأعلن أنه زوّج السيّدة اُمّ كلثوم بابن عمّها القاسم بن محمد بن جعفر.
ولمّا سمع مروان تميز غيظاً وغضباً، وفقد صوابه، فقد أفشل الإمام رغبته، فرفع عقيرته قائلاً: أغدراً يا حسين(35).
وخرج مروان يتعثّر بأذياله، وانتهى الأمر إلى معاوية، فحقد على الحسين، وساءه ذلك، فقد فشلت محاولاته في خداع العلويين، وخداع المسلمين بمصاهرة ولده للاُسرة النبوية.