تعاهدوا أمر الصلاة وحافظوا عليها، واستكثروا منها، وتقربوا بها، فإنها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً(1)، ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سئلوا: (ما سلككم في سقر(2) قالوا لم نك من المصلين) وإنها لتحتُّ الذنوب حتّ الورق، وتطلقها إطلاق الربق(3)، وشبهها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالحمة(4) تكون على باب الرجل، فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مراتٍ فما عسى أن يبقى عليه من الدرن؟
وقد عرف حقها رجالٌ من المؤمنين الذين لا تشغلهم عنها زينة متاع، ولا قرة عينٍ من ولدٍ ولا مالٍ، يقول الله سبحانه: (رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) نصباً(5) بالصلاة بعد التبشير له بالجنة لقول الله سبحانه: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) فكان يأمر أهله ويصبّرُ عليها نفسه.
ثم إن الزكاة جعلت مع الصلاة قرباناً(6) لأهل الإسلام، فمن أعطاها طيّب النفس بها، فإنها تُجعل له كفارةً، ومن النار حجازاً ووقايةً(7)، فلا يتبعنّها أحدٌ نفسه، ولا يكثرنّ عليها لهفه(8)، فإنّ من أعطاها، غير طيب النفس بها، يرجو بها ما هو أفضل منها، فهو جاهلٌ بالسنة، مغبون الأجر(9)، ضالُّ العمل، طويل الندم.
ثم أداء الأمانة، فقد خاب(10) من ليس من أهلها، إنها عرضت على السماوات(11) المبنية، والأرضين المدحوةِ(12)، والجبال ذات الطول المنصوبة، فلا أطول، ولا أعرض، ولا أعلى، ولا أعظم منها، ولو امتنع شيءٌ بطولٍ، أو عرضٍ، أو قوةٍ، أو عزٍّ، لامتنعن، ولكن أشفقن(13) من العقوبة، وعقلن ما جهل من هو أضعف منهن وهو الإنسان (إنه كان ظلوماً جهولاً).
إن الله سبحانه وتعالى لا يخفى عليه ما العباد مقترفون(14) في ليلهم ونهارهم، لطُف به خبراً(15)، وأحاط به علماً، أعضاؤكم شهوده، وجوارحكم جنوده، وضمائركم عيونه، وخلواتكم عيانه(16).
الهوامش
1 - تعاهدوا أمر الصلاة وحافظوا عليها…: تعهدت - الشيء: ترددت إليه وأصلحته. وحافظوا عليها: أدوها بأوقاتها. فإنها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً: واجبة مفروضة.
2 - سقر: من أسماء جهنّم.
3 - حتّ الرجل الورق من الشجر: أسقطه. والمراد: أنها تذهب بالذنوب. وتطلقها: تفكها. والربق: جمع ربقة، الحلقة في الحبل يشد بها الحيوان. والمراد أنها تفك المسلم من وثاق الذنوب وتبعاتها.
4 - الحمة...: كل عين فيها ماء حار ينبع، يستشفى بها من المرض. والدرن: الوسخ.
5 - نصباً: تعباً، والمراد: كثرة صلاته حتى نزل عليه قوله: (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)20/2. قال قتادة كان يصلي الليل كله ويعلق صدره بحبل حتى لا يغلبه النوم، فأمره الله سبحانه بأن يخفف على نفسه، وذكر أنه ما أنزل عليه الوحي ليتعب كل هذا التعب.
6 - القربان: كل ما يتقرب به إلى الله سبحانه.
7 - طيب النفس بها...: سمحت بها نفسه وارتاحت. والكفارة: هي التي تكفّر الذنب وتمحوه وتستره. حجازاً ووقاية: من النار.
8 - فلا يتبعنّها أحد نفسه...: لا تكن نفسه متعلقة بها، غير طيبة بإخراجها. ولا يكثرن عليها لهفه: لا يتحسّر على دفعها.
11 - إنها عرضت على السماوات: يشير إلى قوله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال...) 33/72. والمراد من عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال. هم أهلها، أي عرضناها على سكان السماوات من الملائكة، وعلى سكان الأرض والجبال من الجنّ والإنس.
12 - المدحوة: المبسوطة (والأرض بعد ذلك دحاها) 79 / 30.
13 - أشفقن: خفن وحذرن. والمراد: خاف أهلها وحذروا من حملها.
14 - مقترفون: مكتسبون.
15 - لطف به خبراً: هو اللطيف الخبير بعباده. ومعنى اللطيف: من كان فعله في اللطف بحيث لا يهتدي إليه غيره. وقال الشارح الخوئي: أراد به علمه بخفيات أفعال العباد، وخبريَّته بها... وتسميته باللطيف من جهة علمه بالشيء اللطيف مثل البعوضة وأخفى منها، وموضع النشوء منها، والعقل، والشهوة للفساد، والحدب على نسلها، ونقلها الطعام والشراب إلى أولادها في المفاوز والأودية والقفار. والخبير: أي عالم بكنه الشيء، ومطلع على حقيقته. والمراد: أنه عالم بشؤون عباده، مطلع على جزئياتها.
16 - أعضاؤكم شهوده (يوم تشهدُ عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) 24