تعد الفترة التي قضيتها في معمل الفريد فوزيدلز من اكثر فترات حياتي غرابة. فأنا أميل بطبيعتي الى التأمل والعطالة أكثر من ميلي إلى العمل، على الرغم من أن مصاعبي المالية المستمرة كانت تجبرني بين الحين والآخر على قبول مثل هذه الوظائف. فالذي يجنى من التأمل أقل مما تأتي به العطالة. ومرة أخرى ألمت بي أحدى هذه النكسات، الأمر الذي دفعني إلى التوجه إلى أحد مكاتب التشغيل. فأرسلت برفقة سبعة من رفقاء الشقاء إلى معمل فوزيدلز، حيث كان علينا أن نخضع لإأختبار كفاءة. منظر المصنع وحده كان يوحي بعدم الإرتياح، إذ أنه كان مبنياً من الآجر الزجاجي ونفوري من المباني والغرف المنيرة لا يقل عن نفوري من العمل نفسه. والأمر الذي زاد من عدم أرتياحي هو تقديم طعام الأفطار لنا على الفور في المقصف المنير المزين بشكل بهيج. وأحضرت لنا نادلات جميلات البيض والقهوة وشرائح الخبز، أما عصير البرتقال فكان موضوعاً بدوارق مثيرة للشهية. وضغطت أسماك الزينة الذهبية وجوهها المنتفخة على جدران حوض تربية الأسماك ذي اللون الأخضر الفاتح. كانت النادلات مبتهجات لدرجة الإنفجار سعادةً. قوة الإرادة وحدها هي التي كانت تمنعهن من الدندنة بإستمرار، فكانت تلك النادلات مترعاة بالأغاني غير المغناة كدجاج ببيض غير موضوع بعد. وشعرت فوراً بما لم يبد لرفاقي أنهم قد أحسوا به ربما، فقد بدا لي أن هذا الأفطار هو أحد أجزاء الأمتحان، فبدأت المضغ بإنغماس و بوعي تام لإنسان يعلم تمام العلم بأنه يزود جسمه بمواد مليئه بالفائدة. ففعلت ما لا أقوم عادة بفعله ً حتى تحت أعتى الظروف. فقد شربت عصير البرتقال ومعدتي فارغة وتركت القهوة والبيضة في مكانهما مع جزء كبير من شرائح الخبز. ونهضت وسرت كمتململاً جيئة وذهباً.
وبهذا كنت أول من يدخل إلى غرفة الأختبار، حيث كانت أوراق الأسئلة موضوعة سلفاً على المناضد المثيرة. كانت الجدران مدهونة بلون أخضر يسحر المهوسيين بالآثاث ولا يجعل على شفاههم سوى كلمة "مثير". لم يكن هنالك ثمة أحد في الغرفة، ولكني كنت على يقين من أنني كنت مراقباً. الأمر الذي دفعني للتصرف كما يتصرف المتململ عندما يكون غير مراقباً. أخرجت محفظة قلمي الحبر من جيبي بنفاذ صبر، وقمت بفتحه وجلست إلى أقرب منضدة قريبة مني. فأدنيت ورقة الأسئلة مني كما يسحب الغضوب فواتير المنزل.
السؤال الأول. هل تعتقد أن من الصحيح ان يكون للإنسان ذراعين وساقين وعينين وأذنين؟ هنا جنيت أولى ثمار تأملي. فكتبت من غير تردد: "حتى أربعة أذرع وسيقان وآذان سوف لا تكفي فما يتمتع به الإنسان يدعو للبؤس." السؤال الثاني: كم هاتفاً يمكنك أن تستخدم في الوقت ذاته؟ وهنا كان الجواب سهلاً كحل معادلة من الدرجة الأولى. "إذا كانت هناك سبعة هواتف فحسب" واضفت كاتباً: "سأشعر بنفاذ الصبر. ولا أشعر بوطأة العمل بشكل تام إلا مع الهاتف التاسع." السؤال الثالث: "ماذا تفعل بعد إنتهاء العمل؟". فكان جوابي: كلمة "أنتهاء العمل" غريبة علي، بعد أن قمت بشطبها من قاموس حياتي في عيد ميلادي الخامس عشر، إذ كان العمل مقدماً عندي على كل شيء. وحصلت على الوظيفة. وبالفعل لم أشعر بوطأة العمل مع هذه الهواتف. كنت أنادي في حاكياتها: "أتخذ الأجراء المناسب فوراً." أو "قم بفعل شيئاً ما!". ولا بد أن يحدث شيء ما- سيحدث شيء ما – حدث شيء ما – كان ينبغي أن يحدث شيء ما. وكنت أستعمل في الغالب صيغة الأمر وهو ما كان يبدو لي مناسبأ لجو العمل. كانت استراحات الغداء مثيرة للاهتمام، إذ كنا نأكل في مقصف الأطعمة المليئة بالفيتامينات محاطين ببهجة كامنة. كان معمل فوزيدلز يغص بالناس المهووسين بسرد قصص حياتهم كما يحلوا للشخصيات المهمة ان تفعل. فقصص حياتهم أهم لديهم من حياتهم نفسها. ولا يحتاج المرء سوى لضغطة زر حتى يبدأون الحديث بإخلاص. كان نائب فوزيدلز يدعى بروشك، وقد حصل أن كسب بدوره شهرة معينة لانه عندما كان طالباً كان يعيل سبعة أطفال وزوجة مشلولة من خلال عمله ليلاً. وفي الوقت ذاته كان يفوم بأداره ممثليات تجارية بنجاح وعلى ألرغم من ذلك نجح في أتجياز إمتحانيين بدرجة امتياز. وعندما سأله المراسلون عن الوقت الذي ينام فيه أجاب: "النوم خطيئة!". أما سكرتيرة فوزيدلز تعيل رجلاً مشلولاً وأربعة أطفال من خلال الدعاره. وكتبت أطروحة دكتوراه في علم النفس والجغرافية في الوقت ذاته وربت كلاب الرعي وأشتهرت كمغنية في أحدى النوادي الليلية بإسم "فامب 7". أما فوزيدلز نفسه فقد كان من أولئك الذين يواجهون صعوبة في الإستيقاض باكراً ولكنه كان صارماً في التعامل. يفكرون بعبارة "يجب أن أتصرف" وهم يربطون حزام معطف الإستحمام بحيوية. "يجب أن أتصرف"، يفكرون وهم يحلقون ذقونهم وينظرون بفخر إلى شعر ذقونهم الذي يغسلونه ممتزجاً برغوة الحلاقة عن أدوات الحلاقة. بقايا الشعر هذه هي أول ضحايا همتهم. وحتى الأفعال الأكثر خصوصية كانت تثير الأرتياح عند هؤلاء: خرير الماء والورق المستهلك. حدث شيء ما. يأكل الخبز، ويكسر رأس البيضة. حتى أن أقل الأفعال أهمية كانت تبدو عند فوزيدلز كحدث ما: وضع القبعة وتزرير المعطف بحيوية كبيرة والقبلة التي يطبعها على وجه زوجته. كل هذه كانت أفعالاً. وعندما كان يدخل مكتبه، كان يقول لسكرتيرته محيياً: "لابد أن يحدث شيء ما". وكانت تجيبه بروح مبتهجة: "سيحدث شيء ما". ثم يتنقل فوزيدلز من قسم الى أخر وينادي بعبارته البهيجه "لابد ان يحدث شئ ما" وكان الجميع يجيبونه بالقول "سيحدث شئ ما". حتى انا كنت اجيبه بالعبارة ذاتها عندما يدخل غرفتي: "سيحدث شئ ما".
وخلال الأسبوع الأول زدت من عدد الهواتف المستخدمه الى احد عشر، وخلال الأسبوع الثاني الى ثلاثة عشر هاتفا. مايشعرني بالمتعه هو بحثي صباحاً عن صيغ امر جديده اثناء جلوسي في عربه الترام وجعل الفعل "يحدث" اكثر اثارة من خلال الصيغ الزمنيه و ألاجناس المختلفه اضافة الى الصيغه الواقعيه وصيغة الاحترام. وطوال يومين متتالين كنت لا أقول سوى " كان لابد من حدوث شئ ما" لأني وجدتها جميله جدا. وطوال يومين اخرين لم أقل سوى عبارة " ماكان ينبغي لهذا ان يحدث". وهنا بدأت اشعر بوطأة العمل بالفعل عند حدوث شئ ما. وفي صباح يوم ثلاثاء ولم اكن متهيئا بعد و دخل فوزيدلز الى غرفتي مسرعأ ونادى بعبارته "لابد من أن يحدث شئ ما". ولكن شئ غامض على وجه منعني من الاجابة ببهجه بعبارة "سيحدث شئ ما"، كما كانت تنص التعليمات. وترددت لفترة اكثر مما ينبغي. لأن فوزيدلز الذي كان نادراً ما يصرخ صاح بي:"اجب كما تنص التعليمات" فاجبت بصوت منخفض ممانعا مثل طفل يجبر على قول"انا طفل سئ". وبجهد كبير نطقت عبارة "سيحدث شئ ما". وما ان تلفضت بهذه العباره حتى حدث شئ ما بالفعل: فقد سقط فوزيدلز ارضأ وانقلب اثناء سفوطه جانبا وتمدد امام الباب المفتوح. وعلمت حينها وما تأكد لي عندما اقبلت ببطئ حول طاولتي على الرجل المضطجع: كان ميتاً. هززت رأسي مبتعدا عنه ومشيت عبر الدهليز صوب غرفة بوشك ودخلت من غير ان اطرق الباب.
. كان بوشك جالساً الى طاولة الكتابة وممسكاً سماعة الهاتف باحدى يديه واضعاً القلم في فمه ويدون الملاحضات في احد الدفاتر مستخدماً ماكنه حياكه بقدميه الحافيتين. كان يساهم بهذه الطريقة في إكمال إكسائه لعائلته. "قلت بصوت منخفض "لقد حدث شئ ما". أخرج بوشك القلم من فمه ووضع سماعتي الهاتف جانباً وخلص ابهام قدمه من ماكنة الحياكة مترددا وسألني "ما لذي حدث"؟ . قلت له لقد مات السيد فوزيدلز. قال بروشك "كلا" اجبته "بالطبع اصطحبني" اجاب بروشك "كلا هذا مستحيل" ولكنه دس قدميه في حذائه وتبعني عبر الممر. عندما وقفنا عند جثه فوزيدلز قال "كلا،كلا،كلا" ولم اعارضه. وبحذر قلبت فوزيدلز على ضهره وأغمضت عينيه ونظرت اليه متأملاً. شعرت بالعطف نحوه.وللمرة الاولى ادركت انني لم اكرهه قط. بدا على وجهه شئ ما كما يبدو على وجوه الاطفال الذين يرفضون بالحاح عن ايمانهم بوجود بابا نويل على الرغم من ان حجج رفاقهم في العب قد تبدو مفنعه. "كلا" فال بروشك، اجبته بصوت منخفض"لابد من حدوث شئ ما" قال بروشك "نعم،لابد ان يحدث شئ ما". وحدث شئ ما: دفن فوزيدلز وكلفت بحمل الأكليل من الزهور ألأصطناعيه خلف نعشه. لأنني لم أكن اتمتع بميل للتأمل والعطله فحسب، بل بهيئه ووجه يناسب البدلات السوداء ويبدو انني كنت ابدو رائعاً وانا أحمل أكليل ألزهور أألصطناعيه بيدي واسير خلف نعش فوزيدلز. فقد حصلت على عرض من أحد مؤسسات ألدفن ألمرموقه كحزين محترف هناك. قال لي مدير المؤسسه: "أنت حزين بالولاده"، وأضاف قائلا "ستحصل على الملابس. وجهك...يبدو رائعاً. أعلمت بروشك بان جزء من قدراتي غير مستغل رغم الهواتف الثلاثة عشر بحجة انني لاأشعر بوطأة العمل هناك. وبعيد مشاركتي في أحدى الجنازات علمت انني انتمي الى هذه المهنه وهذا هو المكان المخصص لي. أقف متأملا خلف النعش في الكنيسه التي تقام فيها مراسيم الجنازه ممسكاً بيدي أكليل ألزهور المتواضع بينما يعزف هيندلز مقطوعة "لارغو". وهي مقطوعه لا تحضى بالأهتمام الكافي. أما المقهى ألموجود في المقبره يعد مكاني المفضل، أقضي وقتي هناك في الفترات بين ظهوري الوظيفي. وأحياناً كنت أسير خلف نعوش لا أمر بالسير خلفها كما كنت أشتري أكاليل ألورد من جيبي ألخاص وألتحق بموظف ألرعاية ألاجتماعيه ألذي يسير خلف نعش احد ألمشردين. ومن وفت لأخر كنت أزور قبر فوزيدلز فأنا أدين له في نهاية ألأمر لأكتشافي لوظيفتي ألحقيقيه، وضيفة’ تتطلب ألتأمل وألعطالة واجبي ولم يخطر ببالي ألا متأخراً في أنني لم اكن أهتم مطلقا بالمواد ألتي ينتجها معمل فوزيدلز. أعتقد انه كان يتنج ألصابون.
* ولد الكاتب الألماني هاينرش بول في مدينة كولونيا عام 1917 وبعد ان تنقل بين كثير من المهن الصغيرة المختلفة، أشترك في الحرب العالمية الثانية كجندي في مقتبل العمر، أذ كان عليه ان يرى بعينيه فظاعها الأمر الذي أضطره الى تصوير مأساة الحرب وما بعدها في الكثير من الأعمال القصصية والروائية من بينها:
- كان القطار في موعده
- أين كنت يا آدم ؟
- خبز السنوات المبكرة
- ولم يقل كلمة
** مترجم عراقي يقيم في ألمانيا ويعد أطروحة دكتوراه في فقه اللغة الألمانية. ........... راق لي ..... تحياتي اخوكم سيد علي الموسوي
بعض الكتاب قلمهم ثقيل في الصياغة
وهذا الكاتب منهم
على كل حال تمت القرائة وشكراً لجهودك
اخي الفاضل سيد علي
وتحيه طيبه لك مني..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :::::الحمد والشكر لله ولكم ووفقنا الله وآياكم لمراضيه واسعدني هطولكم المبارك الكريم ونشكر سعة صدركم ورجاحة عقلكم النير وروعة مشاركتكم . نعم سيدتي الفاضلة اتفق معكم بالرأي . لاكن من وجهةتنا كقُراء . الا اننا نعيش في عالم تغيرت به اغلب الاشياء وهناك من يجدون ويجتهدون ليشمل التغير بكل ما يعنيه الادب العربي والعالمي ويرفضون التقليد منذ القدم وحتى يومنا هذا ومن ضمن المشمولات بالتجديد هو الشعر القصة النثر والفن ووووووااااللللخخخخخ . اما الشعر فلهم جُل اهتمامهم وجعلوه نصب اعينهم لانها تعبر عن المشاعر الكامنه بنفس الشاعر لا بمزاج الاخرين . والحديث يطول شرحهُ . عموما اعتبروهه نزهة دقائق في عالم القصة ابو دم ثقيل ههههههههههه:p:p:p:p:p فحتما يوجد حرف او جملة او كلمة اراد القاص ايصالها باسلوب او باخر وعذرا اخذتُ من وقتكم الثمين يااختي الفاضلة . ونحن في خدمة اهلنه الطيبين . اخوكم سيد علي الموسوي