|
شيعي حسيني
|
رقم العضوية : 26242
|
الإنتساب : Nov 2008
|
المشاركات : 9,071
|
بمعدل : 1.56 يوميا
|
|
|
|
المنتدى :
المنتدى الثقافي
ليلة فـي حياة ممرض.. بقلم :
بتاريخ : 19-07-2012 الساعة : 04:39 PM
بسـم الله الرحمن الرحيم
والسـلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
المقدمة
يتميز البشر بسرعة اطلاق الأحكام وأخذ المواقف السلبية اتجاه بعضهم البعض
من دون أي اساس، فقط لأن هذا الشخص ينتمي الى فئة معينة أو لأن لون
بشرته هكذا أو لأنه يعمل في المجال الفلاني !.
لن اخوض في مسألة الطوائف والتعصب العرقي بل سأتناول قضية المهنْ وكيف
تهتز الآكتاف بلا مبالاة وتنصرف الأنظار عن شخصٍ لأنه خباز او نجار أو
ممرض ..الخ
بينما تلهث الأنفـس وتتسع الأحداق إعجاباً لأن آخرَ مهندس أو دكتور. الأحترام
والتقدير وحتى الثقة حصراً على اصحاب المهن الرفيعة ، ولكن الأقدار تتدخل
دوماً لتعُلم البشر الأنحناء للأجدر والأكفأ وتمحو التصنيفات..
الساعة 1:00 بعد منتصف الليل
امام الشجرةِ العملاقة في باحـة المستشفى الأمامية وقف سـالم بكل هــدوء يحتسيّ كوباً
من القهوة. درجة الحرارة تقارب الخمسة مئوية مع ذلك لم يكترث بالمرور بخزانتهِ
الخاصة في غرفة الممرضين للأرتداء معطفة قبل الخروج. لقد انهى لتو خياطة جُرحِ
شابٍ آتى لقسم الطواريء وهو في حالٍ حرجة نتيجة تعرضة لسطو المسلح، وبما أنه
كان آخر الحالات أراد الأنفراد بنفسة لدقائق بعيداً عن اجواء المشفى . احياناً يشعر
بالتشبع الى درجة الضيق فرؤية الألآم والمعاناة الساعةَ تلو الساعة يرهق النفس ويشد
الأعصاب. حالهُ اشبه بالأسفنجة المُثقلةِ بالماء. امتصت وامتصت ولابد أن تعُصر. داعبة
شفتاه ابتسامة صغيرة عندما فكر:
" في حاجتهِ للعصر " ، في تلك اللحظة سقطتْ ورقة ٌصغيرة جافة في كوبهِ الفارغ.
تأملها لبرهة ومن ثم راحت نظراته تحـوم فـوق الجـدع الضخم لشجرة والفروع المتشعبة
المُمتدةِ نحو السماء بكل كبرياء.
تمتم بصوتٍ منخفض :
" هكذا ستنتهي أن ابديتَ ضعفاً فكما استغنت هذه العملاقة
عن أوراقها المُصفرة الواهنة وستستبدلها بأُخرى يانعة قوية
فبمقدور الأدارة تسريحك وبكل سهولة"..
حقيقة ًهـو انسانٌ يعشق التحدي ولديه أرادة من حديد ، ويتمتعُ بروح المبادرة والأهتمام
لهذا تخصص في طب الطوارىء و اختار أن يكون في غرفة الطوارىء بالذات. لازال
يتذكر كيف اشتعل قلبه حماساً اثناء حديث الدكتور المُحاضر حول هذه الغرفة عندما كان
يتلقى تدريبة في المعهد قال بالحرف :
" عندما تدخل غرفة الطواريء ستشاهد حالات لم ولن تخطر على بالك ان
تراها يوماً. توقع أي شيء وفي أي وقت، مختلف أنواع الأمراض والحوادث
تتراوح مابين البسيطة والمعقدة. لا مجال للروتين فيها وهنا يكمن التشويق و
التحدي. ان كنت تملك القوة والمهارة وسرعة البديهة والتجاوب الفوري فهي
مكانك"...
اشرقتْ الأبتسامة ُفي مُحياه من جديد واحس بالنشاط فجأة . لقد عملت الذكـرى على
تبديد الكآبة التي سيطرتْ على كيانة ، فما اجملها من أيام قضها في التدرُب و
تحصيل العلم. كان يهمُّ بالمغادرة عندما تناهى الى مسامعهِ صوت أنين خافت. توقف
و اطرق برأسه محاولا ًتقصي مصدر الصوت ولكن لا شيء!
تابع مسيره متجهاً نحو الممر المؤدي الى مدخل الطواريء واذا بحركة تجذب انتباهة
عند بوابة المستشفى.
- يا آلهي!
قالها وراح يركض مُسرعاً كالبرق. عندما وصل الى السيدة الممددة على الأرض تناول
معصمها مباشرةً لجس النبض. اطرافها كاـنت باردة ووجهها شديد الشحـوب، نبضها
سريع وتنفسها كذلك نتيجة الحُمى التي تعانيها. بعد ان عاينها وتأكد من عدم وجود أي
كسور اخرج هاتفة الخليوي طالباً قسم الطواريء . ما ان اجابوه حتى شرع يخبرهم
بشكلٍ عملي ودقيق بوضع الحاله :
" لدي سيدة حامل تشكو من ارتفعٍ في درجة الحرارة ونقصٍ في السوائل
وهي شبه غائبة عن الوعي . احضروا اللوح النقال الى بوابةِ المستشفى
الأمامية في الحال، ولتكن غرفة الولادة على اُهبتْ الأستعداد اتوقع ان تلد
الليلة".
الساعة 3:15 صباحاً
فتحت احلام عينيها لتجد قناع الأكسجين يظلل وجهها وانبوب المحلول المُغذي موصولٌ
بذراعها وقابسٌ صغير حول سبابتها يمتد منه سلكٌ الى جهازٍ غريب، وقف امامه شابٌ
ملامحه لا تبُشر بالخير!. ازاحتْ القناع وقالت بصوتٍ مُتعبَ واهنْ :
- لما أنت عابسٌ هكذا.. هل سأموت؟!
ما ان سمع سالم صوتها حتى استدار وقد تغيرت معالمه كـُلٍّ وكأنه لم يكن متجهماً منذ ُ
ثوانْ أجابها والسرور بادٍ في عينيه :
- سيدتي اولا ًالحمد لله على سلامتك ثانياً الأعمار بيد لله
ثالثاً وأخيراً بالرغم من ان هذا الزي يثبتُ أنيّ لستُ
بمنجم، اتنبأ لك بعمر مديد
الأوجاع التي كانت تعانيها مزعجة مع ذلك وجدت الأبتسامة طريقها الى شفتيها بفضل
لطف هذا الأنسان واهتمامة . نظرت أليه بإمتنان وراحت تريد اعادة القناع ألى مكانه و
لكنه أوقفها قائلا ً:
- ارغب في قياس درجة حرارتك لذلك دعيه جانباً
بعد دقائق عاد يقول وهو ينظر الى الميزان :
- الحمى زالت وحرارتك مستقرة والحمد لله
حول بصره ناحيتها وأكمل :
- و الآن أود معرفة كيف وصلتي الى هنا سيدتي وأين
هو زوجك؟
ترددهـا كان واضحاً وهكذا هم المرضى لا يطيقـون الخـوض في آحـاديث طويلـة و
لكن ماعساه يفعل هو بحاجة للمعلومات لوضعها في ملفها الخاص لذلك تابع بنبرة
هادئة مُحفزة :
- هل تعلمين انكِ في المرحلة الأولى من المخاض؟
أومأت برأسها وتنهدت بثقل من ثم ردت قائلة :
- اعلم ... زوجي مسافر في عمل ولقد آتيت الى هنا ماشيه،
فأنا اسكن على مقربةٍ من المستشفى..
عندما اصابتني الحمى قبل ايام اعتقدت أنها ستزول
بالحبوب التي استخدمها عادة ًلخفض الحرارة ولكن لم اشعر
بالتحسن وإزداد الأمر سوءً عندما ابتدأتُ اشعر بألالآم
الولادة..
رمقها بنظرة متعاطفه وقال :
- لا ألومك سيدتي فهذا شائع بين الناس ولكنه خطأ فالأفضل
مراجعة الطبيب دوماً.. اخبريني هل هذه ولادتك الأولى؟
لاحظ سالم الألم الممزوج بالخوف في عينيها عندما هزت رأسها بالنفيّ . كان على وشك
أن يسألها عن ابنها أين يكون في هذه الوقت وهي راقده هنا ألا ان دخول الممرضة نجلاء
على حين غره وعلامة القلق باديه على ملامحها استرعى انتباهة وجعلهُ يغض النظر عن
السؤال. اقتربت منه وقالت :
- سالم .. الدكتورة سميرة اخصائية النساء والولادة ليست
على لائحة المناوبين لهذه الليلة حاولنا الأتصال بها ولكن
من دون جدوى، وهذا يعني انك انت من سيتولى المهمة..
- أنــا !!
- مستحيل
احست نجلاء برغبة في الضحك فقد كان زمِيلها مصعُوقاً والسيدة كذلك ولكن الموقف لا
يحتمل الضحك لذلك تركت سالم يلملم نفسهُ المبعثرة إثر الصدمة وتوجهت نحو السيدة
وقالت تطمأنها :
- سيدتي الممرض سالم من اكفأ الممرضين هنا ولقد
تلقى تدريباً على حالات الولادة الطارئه ستكونين في
أيدٍ أمينة.
- مستحيل
قالتها من جديد وهي تتابع :
- لن افقد طفلي مُجدداً الطبيب الذي اشرف على ولادتي كان
"الأكفأ "على حد قولهم كذلك ولكن خسرته.. خسرتُ طفليّ
الطبيب لم ينجح فهل سينجح الممرض؟!
ما أن انهت جملتها حتى نزلت دمعة على خدها، تبعتها صرخة مزقت هدوء المكان.
لقد ابتدأ المخاض ولا مجال للتردد والخوف وحتى النقاش. استجمع سالم قواه و
اسرع نحو السيدة . رفع غطاء السرير ومن ثم تطلع الى زميلتة قائلا ً بجد:
- السائل الآمنيوسانتيسز ابتدأ بالنزول الى غرفة الولادة فوراً.
الساعة 4:00 صباحاً
لم يتوقف سالم عن التضرع الى الله منذ خروجهم من قسم الطوارىء الى ان انتهو
في غرفة الولادة واثناء تجهيز المريضة. انضمت أليهم الممرضة مريم مما زادهُ
ثباتاً واشعره بالراحة، فنجلاء ومريم رائعتان في عملهما و بالأمكان الأعتماد
عليهما في اقسى الضروف. انهى سالم تعقيم يديه ولبس القفازات والكمامة. نظر
الى السيدة احلام التي كانت تتأوه تارة وتصرخ تارة ًاخرى وقال وهو يجلس
مُقابل السرير :
- سيدتي كوني قوية وتحمليّ قليلا ًستنجبين طفلا ًسليماً
معافا بإذن الواحد الأحد، والآن اريد منك ان تدفعي بقوة
وتتنفسي بإنتظام فهذا افضل للجنين
أومـأت برأسها والدمع يترقرق في عينيها وبدأت بتنفيد تعليماته ناسيه إعتراضها.
عندما رآى سالم رأس الطفل يخرج احس بفرحة عارمة مصحوبة برهبة لا توصف
نحو هذه المعجزة الربانية فهتف مُشجعاً :
- احسنتِ سيدتي واصلي
كانت يده اليسرى اسفل الرأس واليمنى الى جانبه تسنده اثناء الخروج ، وما أن
ظهرت الأكتاف حتى املها قليلا ًوبحذر، فسحبُها بشكل ٍطولي مستقيم قد يؤذي الأم.
هذا ماتعلمه اثناء التدريب. رويداً رويداً صار معظم جسم الطفل بين راحت يديه و
مع آخر صرخة سحبه سالم ووضعه فوق الطاولة المُهيأه لستقبالة. هرعت نجلاء
تمسح الدم والسائل من على وجه الطفل وما أن انتهت حتى تعال صوت بكائه في
الأرجاء. كان لصوتِ بكائه عذوبة ووقعٌ جميل في آذان من حوله. تبسم سالم وقال
مُخاطباً الصغير:
- اسمح لي سأفصلك عن أمك
قطع الحبل السري وترك نجلاء تتولى تنظيفة ولفه . نادى زميلته مريم وأعطاها
بعض التعليمات بشأن السيدة احلام وأوصاها أن لا تنسى حقنها بمحلول دكستروز
لتعويضها عن كمية الدم التي فقدتها. لقد انجز مهمته على اكمل وجه بفضل ٍمن
المولى ولم يبقى له شيء يفعله هنا. كان مُتجهاً نحو الباب عندما اوقفته السيدة
أحلام قائلة :
- ممرض سالم
إستدار ناحيتها ورفع حاجبه مستفسراً. العبرات كانت تغسل وجنتيها ولكن عيناها
تتلألأن سعادةً همست :
- شكراً.. شكراً جزيلا ًلك
ابتسمت عيناه لها وأومأ برأسه توارى بعدها خلف الباب.
الساعة 6:30 صباحاً
في السيارة واثناء العودة الى منزلة رن الهاتف الخليوي لسالم. لم يكن في وضع ٍ يسمح
له بالرد، وآخر مايحتاجة هو تبادل الآحاديث في هذه الساعة المبكرة من الصباح والتعب
والأرهاق يتملكانه. تجاهل رنينه مرة وثنتان ولكن على مايبدو أن المتصل مُصر. تناول
الهاتف بضجر ورد :
- آلــو .. نعم .. اجل انا الممرض سالم هل من خدمة؟!
زال الأنزعاج عن مُحياة ليغمرةُ شعورٌ دافىءُ رقيقْ. كان الرجل في الطرف الآخر يشكره
بشكلٍ محموم ويثني على صنيعه وماقام به اتجاه زوجتة ويخبرهُ بأنه لن ينسى معروفة
ابد الدهر وانه سيسمي المولود على اسمه.
توقف الرجل قليلا ًمما اتاح لسالم فرصة الرد فشرع يقول:
- سيدي لم اقم ألا بواجبي وماتمليه عليّ مهنتيّ وضميري
وانا ممتن للطفك وكرمك.. ولا......
قاطعه الرجل مُعترضاً وراح يمدحه ويشكره مُجدداً ويدعو له ولم ينهيِّ المكالمة ألا بعد
أخد وعدٍ من سالم ان يحضر عقيقة المولود ويكون في ضيافتهِ.
- بطل الساعة!
قالها سالم بسخرية عندما وضع الهاتف وضحك بخفة. راح بعدها يفكر كيف أن الأنسان
بمجهودة واثباته لنفسه وقدراتة بإمكانه أن يغير نظرة وموقف الأخرين منه. لن ينسى
هذه الليلة وربما هناك ليالٍ أخرى بإنتظاره مستقبلاً سيكون لها بصمة في نفسه وذاكرتة
وكذلك مهنته، ففي غرفة الطوارىء :
"any thing can happen"
- انتهى -
|
|
|
|
|