كريمة أهل البيت - فاطمة بنت الإمام موسى الكاظم عليه السّلام
السيّدة فاطمة بنت الإمام موسى الكاظم عليه السّلام، وهي أخت الإمام الرضا عليه السّلام لأمّه، كما يذكر الطبريّ الإماميّ(1)، وهي المرأة الجليلة « تُكْتَم »، والتي كانت لها قصّة في اقترانها بالإمام الكاظم سلام الله عليه(2). وقد عُرفت هذه السيّدة المكرَّمة بعقلها ودينها وإعظامها لمولاتها حميدة المصفّاة أمّ الإمام الكاظم عليه السّلام فضلاً عن إجلالها لأهل البيت النبويّ.
ولا شكّ.. أنّ للأمّ أثَرَها البالغ في نشأة الأبناء، حيث تغرس فيهم ـ إضافة إلى الحنان ـ طباعاً وقيماً أخلاقيّة خاصّة، وكان من الشرف السامي الذي حظيت به « تُكتَم » أن كانت زوجةً صالحة لإمام هو موسى بن جعفر عليه السّلام، وأمّاً طيّبة لإمام هو عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام، وكذا أمّاً للسيّدة الفاضلة فاطمة المعصومة عليها السّلام.
البيت الطاهر
في بيتٍ.. هو مَهبطُ الملائكة، يفوح منه عبير القرآن وعطر العبادة ونفح الذِّكر. وفي بيتٍ.. مغمورٍ بالتقوى والإيمان والأدب والعفّة، في بيت الإمام موسى الكاظم عليه السّلام بالمدينة المنوّرة، وفي غُرّة ذي القعدة من سنة 173 هجريّة وُلدت السيّدة فاطمة المعصومة عليها السّلام(3).
وإذا كانت هذه البنت قد حظيت بهذه السعادة، أن تكون وليدة إمام في بيت عصمة و طهارة وعبادة، فإنّها قد عاشت سنواتٍ مفارِقةً ذلك الأبَ الرؤوف، حيث أودعَتْه سلطاتُ بني العبّاس في غياهب السجون وظُلَم المطامير، فبقيت الطفلة تحنّ إلى أبيها وتنتظره مع أخواتها الفواطم.. علّه يعود إليهن ليرتشفن حنانه بعد ظمأٍ طويل.
وكانت السلوى من هذا المصاب أن عكف الأخ الحنون عليٌّ الرضا صلوات الله عليه على عيال أبيه، فسقى الجميعَ رأفةً ورحمة، وكان لفاطمة المعصومة عليها السّلام عُلْقةٌ خاصّة بأخيها تشابه عُلْقة السيّدة زينب الكبرى عليها السّلام بأخيها الإمام الحسين سلامُ الله عليه.
أكاليل الشرف
أقرّ الناس أنّ البيت النبويّ الطاهر أنجب أشخاصاً.. كلٌّ منهم يصحّ أن يُعرَّف بأنّه مثالٌ كريمٌ وصورةٌ نورانيّة ومفخرة سامقة، في الإيمان والهداية والنقاء والرفعة والخُلق الحميد. حتّى اقترن بهم أكثر من لقبٍ سامٍ أطلقه الناس عليهم؛ إعجاباً وإقراراً وإجلالاً لهؤلاء الذين ينتسبون في مزاياهم وفضائلهم إلى أشرف الخَلْق محمّدٍ المصطفى الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ومن هؤلاء الأكارم.. السيّدة فاطمة بنت الإمام موسى الكاظم عليهما السّلام، فقد عُرفت بألقاب ثلاثة: كريمة أهل البيت، وأخت الرضا، والمعصومة. والأخير من ألقابها هو الذي غلب على تسميتها؛ لطهارتها ونقائها وعبادتها، ولقول أخيها الإمام عليّ الرضا عليه السّلام فيها: مَن زار المعصومة بـ « قُمّ »، كان كمَن زارني(4).
أمّا لقب أخت الرضا، وهو كرامة أخرى لهذه السيّدة الفاضلة، فلعلّه لأمرين: الأوّل ـ خلوّ البيت غالباً من أبيها الكاظم عليه السّلام، والثاني ـ تعلّق هذه الأخت الطيّبة بأخيها وإمامها الرؤوف عليّ الرضا سلام الله عليه. وربّما اشتهرت بين الناس لَهْفتُها عليها السّلام على أخيها بعد أن استدعاه المأمون العبّاسيّ إلى « مرُو » بخراسان، فأصبح فؤادها مستوحشاً أشدَّ الاستيحاش وقد خلا الدار من شخصه، ومشتاقاً إلى لُقياه أشدّ الاشتياق وهي التي تربّت في كنَفِه ورُويت من عطفه وحنانه.
وقد رُويَ أنّ هذه السيّدة لم تُطِقْ فراق أخيها، فشدّت الرحالَ إليه تقصد لقاءه، فحال الأجَل في طريقها إليه دون ذلك، فكان مَثْواها في قمّ، لتكون هذه البلدة عشَّ آل محمّد صلّى الله عليه وآله فيما بعد.
ا
لمآسي والآلام
بعد انتظار طويلٍ مرير.. يصل الخبر بشهادة الأب الطيّب الطاهر، الوليّ الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام، فتكون الفاجعة في بيت الإمام، وتختنق باللوعة صدور ذويه، ومنهم السيّدة فاطمة المعصومة عليها السّلام، فتطوي أيّاماً حزينةً كئيبة، وهي ترى محراب أبيها قد خلا منه، وقد انقطع ذلك الذِّكْر المتهجّد آناءَ الليل وأطرافَ النهار، فيستبدّ بهذه السيّدة ألمٌ مُمِضّ.
وتتوالى المصائب.. فتُهتَك حرمة البيت النبويّ بأمرٍ من المأمون، وتنفيذٍ أحمق من الجلوديّ الذي هجمَ على دار الإمام الكاظم عليه السّلام بخيله يريد أن يسلب ما على النساء من حُلل، ولا يترك على واحدةٍ منهنّ إلاّ ثوباً واحداً. فيمنع الإمام الرضا عليه السّلام من دخول أحدٍ على العيال والنساء، حيث يجعلهنّ كلَّهنّ في غرفةٍ واحدة ـ والسيّدة المعصومة معهنّ ـ ويجمع للجلوديّ كلَّ ما يريده وقد أصرّ على اقتحام البيت، فيقول له الإمام الرضا عليه السّلام: أنا أُسلّبهن لك، وأحلف لك أن لا أدَعَ عليهنّ شيئاً إلاّ أخذتُه(5).
وتمضي أشهرٌ.. فيُستدعى الإمام الرضا عليه السّلام مِن مدينة جدّه صلّى الله عليه وآله، هو وأخوه إسماعيل، وعمّه محمّد بن جعفر، وعليّ بن الحسين بن زيد، وابن الأرقط، ومجموعة ممّن كان قد خرج على المأمون، يَقْدم بهم رجاءُ بن الضحّاك إلى « مَرُو » ويُدخلهم على المأمون لعشرٍ خلون من جُمادى الآخِرة سنة 200 هجرية، وقد أُخِذ بهم على طريق البصرة ـ الأهواز.. في المفاوز والصحارى؛ لئلاّ يرى الناس الإمامَ الرضا عليه السّلام فيحتجّوا ويعترضوا على إشخاصه.
وقبل خروجه عليه السّلام.. كان الوداع مُرّاً، حتّى علا البكاء والنحيب من النساء والبنات ـ ومِن بينهن السيّدة المعصومة ـ لفراق وليّهنّ عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام، فهو ينأى عنهم ويودّعهم إلى غير رجعة، وقد قال: أما إنّي لا أرجع إلى عيالي أبدا(6).
ويبقى بيت الإمام الكاظم عليه السّلام.. يُسمعَ منه بكاء الثكالى، وعويل الأيتام والأرامل، ونحيب الحيارى، ومن بينهم كانت فاطمة المعصومة تشاطر أهلها دموعاً وزفراتٍ حَرّى، فالعيون عبرى، والقلوب ملأى بالحزن والأسى.
الرحيل.. ثمّ الرحيل
تطول أيّام الفراق وإن قَصُرت، وتُشقي القلوبَ وإن صَبَرت.. فأخٌ مثْلُ الإمام الرضا عليه السّلام لا يُطاق فراقه، فلابدّ من شدّ الرِّحال إليه أينما كان. فتبدأ هجرة الأخت الموالية المخلصة فاطمة المعصومة عليها السّلام إلى أخيها من المدينة المنوّرة نحو طوس.
وليست الهجرة مسألة جديدة في حياة أهل البيت وأولادهم ومُواليهم، وقد شتّتهم الأُمويّون والعبّاسيّون في بقاع الأرض، حتّى أنّ أبا الفَرَج الإصفهانيّ كتب ( مقاتل الطالبيّين ) لبيان ذلك، وكتب المسعوديّ أيضاً ( حدائق الأذهان في أخبار أهل بيت النبيّ وتفرّقهم في البلدان ).. وحتّى قال الشاعر الموالي دِعبل بن عليٍّ الخزاعيّ:
لا أضحك اللهُ سِنَّ الدهرِ إن ْضحِكتْ وآلُ أحمدَ مظلومونَ قد قُهِروا
مُشَرّدون نُفُوا عـن عُـقْر دارِهمُ كأنّهم قد جَنَوا ما ليس يُغتَفَرُ
يخرج ركْبُ السيّدة المعصومة مع بعض إخوتها، ويخرج ركبٌ آخر باتّجاه طوس أيضاً.. أحدهما يسلك طريق الريّ وساوة، والآخر يأخذ بطريق شيراز وعلى رأسه إخوةُ الإمام الرضا عليه السّلام أحمد ومحمّد وحسين، وضمَّ هذا الركبُ عدداً كبيراً من بني أعمامهم وأولادهم وأقاربهم وبنيهم.. يريدون اللقاء بإمامهم الرضا عليه السّلام.
ولمّا وصل خبر القافلة إلى المأمون ـ وقد حُفّ الناس بالركب ـ أصابتْه هواجس القلق والريبة، فأمر ولاته بإرجاع هذا الركب إلى المدينة، فجهّز حاكم شيراز جيشاً جرّاراً، قطعوا عليهم الطريق. ثمّ انتهى الأمر إلى معركة دامية، قُتل فيها عدد كبير، وتفرّق الجمع.. وكان من بين الشهداء أحمد بن الإمام الكاظم عليه السّلام الذي عُرف بـ « شاه چراغ » فيما بعد لكرامةٍ ظهرت له، ومزاره مشهود في مدينة شيراز. واستُشهد أيضاً حسين بن الإمام الكاظم عليه السّلام، وله مزاره المعروف أيضاً، ويُدعى هناك بالسيّد « علاء الدين حسين ».
أمّا ركْب السيدة فاطمة المعصومة عليها السّلام.. فقد ضمّ اثنين وعشرين علويّاً، كان من بينهم إخوتها: هارون وفضل وجعفر وهادي وقاسم، وبعضَ أولاد إخوتها وبعضَ الخدم. فأرسل المأمون شرطتَه إليهم وقتل وشرّد كلَّ من في تلك القافلة، كلّ ذلك أمام عين السيّدة المعصومة التي جارَتْ عمّتَها زينب عليها السّلام بشيءٍ من مصائبها في طفّ كربلاء.
وقد جلّت المصيبة، فسألت: كم بيننا وبين قمّ ؟ قالوا: عشرة فراسخ. فقالت: إحملوني إليها (7).
هذا.. بعد أن يذكر المؤرّخون أنّ المأمون قتل ستّةً من أولاد الإمام الكاظم عليه السّلام في هذه الوقائع، بل سبعة إذا أُضيف إليهم حمزةُ بن موسى عليه السّلام. ويكتب بعضهم: إنّ كثيراً من العلويّين كانوا قد قصدوا خراسان أيّام تولّي الإمام الرضا عليه السّلام ولايةَ العهد، لكنّ أكثرهم لم يصل؛ بسبب شهادة الإمام عليه السّلام، وأمرِ المأمون الحكّامَ وأمراءَ البلاد بقتل كلّ علويٍّ أو القبض عليه.. حتّى قيل إنّ السيّدة فاطمة المعصومة ـ لما وصلت ساوة ـ قد دُسّ إليها السمّ، فلم تلبث إلاّ أيّاماً قليلة حتّى استُشهدت(8).
الاستقبال إلى المثوى
ما أن وصل خبر السيّدة المعصومة عليها السّلام إلى « قمّ » حتّى خرج أشراف البلدة لاستقبالها، يتقدّمهم موسى بن خزرج الأشعريّ، الذي أخذ بزمام ناقتها وأنزلها في منزله يضمُّها إلى بناته وعياله، لكنّ السيّدة المعصومة كان قد استبدّ بها الألم والأسى، فحُمّت ولازمت فراش المرض أيّاماً قلائل، وعينها ترقب لقاء أخيها عليِّ بن موسى الرضا عليه السّلام، إلاّ أنّ الأجل عاجلها دون ذلك.
غُسّلت السيّدة الطاهرة وكُفِّنت، وحُملت إلى مثواها الأخير في مقبرة « بابلان »، فكان الاختلاف فيمَن يُنزِل هذه السيّدة إلى سرداب قبرها.. حتّى اتّفقوا على خادمٍ صالح كبير السنّ يُقال له « قادر »، إلاّ أن الأمر كان قبل ذلك، حين شُوهد راكبان مُقْبِلان من جانب الرملة وعليهما لثام، فلمّا قَرُبا من الجنازة نزلا السرداب وأنزلا الجَنازة ودفناها فيه، ثمّ خرجا ولم يكلِّما أحداً، وركِبا وذهبا ولم يَدْرِ أحدٌ مَن هُما!(9)
وتمضي السنوات، ويشمخ للسيّدة فاطمة المعصومة بنت الإمام الكاظم عليه وعليها السّلام قبرٌ منيف، وقبّة سامقة، وتلوذ بها قبور العلويّات، ويُحيط بها صحن واسع وحرم مبارك، ويفدها من أقطار الدنيا العلماء والفضلاء، وتحجّ إليها قلوب العارفين والأولياء، ويتشرّف بزيارتها جميعُ المحبّين والمُوالين والشرفاء.
1 ـ دلائل الإمامة 309
2 ـ يراجع: عيون أخبار الرضا عليه السّلام للشيخ الصدوق 14:1 ، 17 / ح 2 ، 4.
3 ـ مستدرك سفينة البحار للشيخ علي النمازي الشاهرودي 257:8.
4 ـ ناسخ التواريخ، للمؤرّخ عباس قُلي خان سپهر ( ت 1297 هـ ) 337:7.
5 ـ عيون أخبار الرضا عليه السّلام 161:2 / ح 24 ـ الباب 40.
6 ـ عيون أخبار الرضا عليه السّلام 218:2 / ح 28 ـ الباب 47.
7 ـ ترجمة تاريخ قمّ.. الكتاب لحسن بن محمد بن حسن القمّي ( من علماء القرن الرابع الهجريّ )، والترجمة لحسن بن عليّ بن حسن بن عبدالملك القمّي ( ت 806 هـ ) ص 213.
8 ـ يراجع: قيام سادات علوي للكاتب علي أكبر تشييد 160 ـ 168.
9 ـ ترجمة تاريخ قمّ 213 ـ 214.