خطبة الامام زين العابدين في الشام
الخطبة مكتوبه ، مع اختلاف بسيط عن الخطبة المسموعة لاختلاف الرويات ::
ذكرت التواريخ أن يزيد هيّأ مجلساً عاماً في المسجد الأموي وأحضر علي بن الحسين عليهما الصلاة والسلام، وأمر خطيبه أن يصعد المنبر ويذم الحسن والحسين وأباهما (عليهم السلام) ففعل الخطيب ذلك بلا ارعواء وبالغ في ذم أمير المؤمنين والحسن والحسين صلوات الله عليهم كما بالغ في مدح معاوية ويزيد والعائلة الأموية، فصاح به علي بن الحسين (عليه السلام): ويلك أيها الخاطب، اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق فتبوأ مقعدك من النار، ثم قال علي بن الحسين عليهما السلام ليزيد اتئذن لي أن أصعد هذه الأعواد فأتكلم بكلمات لله فيهن رضا ولهؤلاء الجلساء فيهن أجر وثواب، فأبى يزيد عليه ذلك فقال الناس ليزيد ائذن له فليصعد المنبر فلعلنا نسمع منه شيئاً فقال: أنه إن صعد لم ينزل إلا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان!!
قالوا: وما قدر ما يحسن هذا الفتى.
فقال: أنه من أهل بيت قد زقوا العلم زقا!!
فلم يزالوا به حتى أذن له فصعد المنبر.
فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله واله سلم وخطب خطبة أبكى منها العيون وأوجل منها القلوب.
وقال: أيها الناس أحذركم من الدنيا وما فيها، فإنها دار زوال وانتقال، تنتقل بأهلها من حال إلى حال قد أفنت القرون الخالية، والأمم الماضية الذين كانوا أطول منكم أعماراً وأكثر منكم آثاراً، أفنتهم أيدي الزمان، واحتوت عليهم الأفاعي والديدان، أفنتهم الدنيا فكأنهم لا كانوا لها أهلاً ولا سكاناً، قد أكل التراب لحومهم، وأزال محاسنهم، وبدد أوصالهم وشمائلهم، وغير ألوانهم وطحنتهم أيدي الزمان.
أفتطمعون بعدهم بالبقاء؟ هيهات هيهات!
لا بد لكم من اللحوق بهم، فتداركوا ما بقي من أعماركم بصالح الأعمال وكأني بكم وقد نقلتم من قصوركم إلى قبوركم فرقين غير مسرورين، فكم والله من قريح قد استكملت عليه الحسرات، حيث لا يقال نادم ولا يغاث ظالم.
قد وجدوا ما أسلفوا، وأحضروا ما تزودوا، ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً.
فهم في منازل البلوى همود، وفي عساكر الموتى خمود، ينتظرون صيحة القيامة، وحلول يوم الطامة (ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى)
.(5).
ثم قال: أيها الناس أعطينا ستاً وفضلنا بسبع، أعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين وفضلنا بأن منا النبي المختار محمداً (صلى الله عليه وآله) ومنا الصديق ومنا الطيار ومنا أسد الله وأسد رسوله، ومنا سبطا هذه الأمة ومنا مهدي هذه الأمة، ثم قال: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي، أيها الناس، أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الزكاة بأطراف الرداء، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى، أنا ابن خير من انتعل واحتفى، أنا ابن خير من طاف وسعى، أنا ابن خير من حج ولبى، أنا ابن من حمل على البراق في الهواء، أنا ابن من أسريَ به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أنا ابن من بلغ به جبرائيل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلى بملائكة السماء مثنى مثنى، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى، أنا ابن محمد المصطفى، أنا ابن علي المرتضى، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا لا إله إلا الله، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) بسيفين وطعن برمحين وهاجر الهجرتين وبايع البيعتين، وقاتل ببدر وحنين، ولم يكفر بالله طرفة عين، أنا ابن صالح المؤمنين، ووارث النبيين، وقامع الملحدين، ويعسوب المسلمين ونور المجاهدين، وزين العابدين، وتاج البكائين، وأصبر الصابرين، وأفضــل القائمين من آل طه وياسين رسول رب العالمين، أنا ابن المؤيد بجبرائيل المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين وقاتل المارقين والناكثين والقاسطين والمجاهد أعدائه الناصبين وأفخر من مشى من قريش أجمعين وأول من أجاب واستجاب لله ولرسوله من المؤمنين وأول السابقين وقاصم المعتدين ومبيد المشركين وسهم من مرامي الله على المنافقين ولسان حكمة العابدين وناصر دين الله، وولي أمر الله وبستان حكمة الله وغيبة علمه سمح سخي بهي بهلول زكي أبطحي رضي مقدام همام صابر صوام مهذب قوام، قاطع الأصلاب ومفرق الأحزاب أربطهم عناناً وأثبتهم جناناً وأمضاهم عزيمة وأشدهم شكيمة، أسد باسل يطحنهم في الحروب، إذا ازدلفت الأسنة وقربت الأعنة يذروهم ذرو الريح الهشيم ليث الحجاز، وكبش العراق مكي مدني خيفي عقبي بدري أحدي، شجري مهاجري، من العرب سيدها، ومن الوغى ليثها، وإرث المشعرين وأبو السبطين الحسن والحسين ذاك جدي علي بن أبي طالب.
ثم قال: أنا ابن سيدة النساء، أنا ابن خديجة الكبرى.
أنا ابن المقتول ظلماً.
أنا ابن محزوز الرأس من القفا.
أنا ابن العطشان حتى قضى.
أنا ابن طريح كربلاء.
أنا ابن مسلوب العمامة والرداء.
أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء.
أنا ابن من ناحت عليه الجن في الأرض والطير في الهواء.
أنا ابن من رأسه على السنان يهدى.
أنا ابن من حرمه من العراق إلى الشام تسبى.
فلم يزل يقول: أنا، أنا، حتى ضج الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد أن تكون فتنة، فأمر المؤذن فقطع عليه الكلام.
فلما قال المؤذن: الله أكبر.
قال علي بن الحسين: لا شيء أكبر من الله، كبرت كبيراً لا يقاس.
فلما قال المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله.
قال علي بن الحسين: شهد بها شعري وبشري وعظمي ولحمي ودمي.
فلما قال المؤذن: أشهد أن محمداً رسول الله.
إلتفت من فوق المنبر إلى يزيد وقال: محمداً هذا جدي أم جدك يا يزيد؟
فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت وكفرت، وإن قلت: إنه جدي فلم قتلت عترته.
فنزل زين العابدين من المنبر، هذا وقد تفرق من كان في المسجد، والتفوا حول الإمام زين العابدين(6).
ولما خشي يزيد الفتنة وانقلاب الأمر، عجل بإخراج الإمام زين العابدين والعيال من الشام إلى وطنهم ومقرهم، ومكنهم مما يريدون.
نسألكم الدعاء