كحصيلة للإعداد المميز الذي حظي به الإمام (ع) من لدن استاذه الرسول (ص) ، فقد طبعت شخصية الإمام علي (ع) بشخصية المصطفى (ص) في جميع مقوماته: عبادة و فكرا و مواقف.
يسلك سبيله، يقتفي سنته و يقفوا أثره، و من أجدر بتجسيد سنة الرسول (ص) كاملة في دنيا الواقع سوى علي (ع) الذي صنع رسول الله (ص) شخصيته و شكل جميع عناصرها و طبعها بالطابع الإلهي منذ نعومة أظفاره؟
و إذا نعقد الحديث عن عبادة الإمام (ع) و وسائل تعلقه بالله سبحانه، فسنعرض شواهد منها، لندرك السمو الشاهق الذي بلغه الإمام (ع) في مضمار الانشداد إلى الله و استلهام منهج الرسول (ص) المطهر في هذا المضمار:
صلاة و ضراعة
فلكثرة تعاهده لأمر الصلاة و التضرع إلى الله تعالى، يشير عروة بن الزبير في حديث له عن أبي الدرداء قال:
«شهدت علي بن أبي طالب بشويحطات النجار ، و قد اعتزل عن مواليه، و اختفى ممن يليه، و استتر بمغيلات النخل، فافتقدته، و بعد علي مكانه، فقلت: لحق بمنزله، فإذا أنا بصوت حزين و نغم شجي، و هو يقول: (إلهي كم من موبقة حلمت عن مقابلتها بنقمتك، و كم من جريرة تكرمت عن كشفها بكرمك.
إلهي!إن طال في عصيانك عمري، و عظم في الصحف ذنبي، فما أنا مؤمل غير غفرانك، و لا أنا براج غير رضوانك).
فشغلني الصوت، و اقتفيت الأثر، فإذا هو علي بن أبي طالب (ع) بعينه، فاستترت له و أخملت الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغابر، ثم فرغ إلى الدعاء و البكاء و البث و الشكوى، فكان مما ناجى به الله تعالى أن قال: (إلهي!افكر في عفوك، فتهون علي خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك، فتعظم علي بليتي).
ثم قال: (آه إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها، و أنت محصيها، فتقول: خذوه، فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته، و لا تنفعه قبيلته و لا يرحمه الملأ إذا اذن فيه بالنداء). ثم قال: (آه من نار تنضج الأكباد و الكلى، آه من نار نزاعة للشوى، آه من لهبات لظى).
قال أبو الدرداء، ثم أمعن في البكاء، فلم أسمع له حسا، و لا حركة.
فقلت غلب عليه النوم لطول السهر، أو قظه لصلاة الفجر، فأتيته، فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحركته، فلم يتحرك، و زويته فلم ينزو فقلت: إنا لله و إنا إليه راجعون، مات و الله علي بن أبي طالب، فأتيت منزله مبادرا أنعاه إليهم.
فقالت فاطمة (ع) : (يا أبا الدرداء ما كان من شأنه و ما قصته؟).
فأخبرتها الخبر فقالت: (هي و الله ـ يا أبا الدرداء ـ الغشية التي تأخذه من خشية الله).
ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه، فأفاق، و نظر إلي و أنا أبكي فقال: (مما بكاؤك يا أبا الدرداء؟).
فقلت مما أراه تنزله بنفسك.
فقال: (يا أبا الدرداء!فكيف لو رأيتني، و دعي بي إلى الحساب، و أيقن أهل الجرائم بالعذاب، و احتوشتني ملائكة غلاظ و زبانية فظاظ، فوقفت بين يدي الملك الجبار، قد اسلمني الأحباء و رفضني أهل الدنيا، لكنت أشد رحمة لي بين يدي من لا تخفى عليه خافية) فقال أبو الدرداء: فو الله ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله (ص) » .
هذا شاهد من شواهد تعلق الإمام (ع) بالله تعالى و شدة انشداده إليه و رهبته منه و يبدو أن هذا ديدن علي (ع) كما يتجلى من قول الزهراء (ع) لأبي الدرداء: (هي و الله الغشية التي تأخذه من خشية الله) و هذه مزيته عند التوجه إلى الله تعالى في صلاته و ضراعته، الأمر الذي ألفه أهل البيت في علي (ع) و من أجل ذلك لم يفزعوا حين أنبأهم أبو الدرداء بموته ـ كما ظن هو ـ بل استفسروا عما رأى، فأعلمته الصديقة (ع) أن ما رآه هو المألوف من علي (ع) كل آن حين تأخذه الغشية لله تبارك و تعالى أثناء قيام الليل.
و لكثرة قيامة للعبادة ليلا يحدثنا عبد الأعلى عن نوف البكالي قال: «بت ليلة عند أمير المؤمنين (ع) فكان يصلي الليل كله، و يخرج ساعة بعد ساعة، فينظر إلى السماء، و يتلو القرآن، فمر ـ بي بعد هدوء من الليل فقال: (يا نوف أراقد أنت أم رامق؟).
قلت: بل رامق أرمقك ببصري يا أمير المؤمنين.
قال: يا نوف!طوبى للزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة، اولئك قوم اتخذوا الأرض بساطا، و ترابها فراشا، و ماءها طيبا، و القرآن شعارا، و الدعاء دثارا، ثم قرضوا الدنيا قرضا على منهاج المسيح) » .
و هكذا كان علي (ع) في شدة تعلقه بالله، و عظيم تمسكه بمنهج الأنبياء (ع)، إنه ترجمة صادقة لعبادة محمد رسول الله (ص) و زهد المسيح (ع) .. أرأيت كيف يندك وجوده على عتبة الخضوع لله و الإستكانة له و طلب رضوانه؟
و حول التزامه بقيام صلاة الليل طول عمره الشريف، يروي لنا أبو يعلى ـ في المسند ـ عنه (ع) قال: « (ما تركت صلاة الليل منذ سمعت قول النبي (ص) : صلاة الليل نور)
فقال ابن الكواء : و لا ليلة الهرير !؟قال (ع) : (و لا ليلة الهرير) » .
توجه و رهبة
لعظيم إقباله على الله تعالى يشير القشيري في تفسيره: «إنه كان إذا حضر وقت الصلاة تلون و تزلزل، فقيل له: ما لك؟
فيقول: (جاء وقت أمانة عرضها الله تعالى على السماوات و الأرض و الجبال، فأبين أن يحملنها و حملها الانسان على ضعفه، فلا أدري أحسن إذا حمل أم لا) » .
فعن سليمان بن المغيرة، عن امه، قالت: «سألت ام سعيد سرية علي (ع) عن صلاة علي (ع) في شهر رمضان، فقالت: رمضان و شوال سواء، يحيي الليل كله» .
عبادة الشاكرين
و لقد عظم المعبود عز و جل في نفس الإمام (ع) فصارت عبادته تعبيرا عن الحب له و الشوق إليه، و استشعار أهليته للعبادة دون سواه، و من أجل ذلك كان علي (ع) لا يعبد الله خوفا من عذابه، و لا طمعا في جنته و لا فيما أعده من نعيم للمتقين، و إنما سما الإمام (ع) في علاقته بالله تعالى إلى أعلى الدرجات اسوة باستاذه الرسول (ص).
و قد كشف الإمام (ع) عن جوهر علاقته بالله تعالى و طبيعتها بقوله: «إلهي!ما عبدتك خوفا من عقابك و لا طمعا في ثوابك، و لكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك» ... فأعظم به من يقين، و أكرم به من إيمان!!
و لقد حدد الإمام (ع) ألوان العبادة في كلمة خالدة:
«إن قوما عبدوا الله رغبة، فتلك عبادة التجار، و إن قوما عبدوا الله رهبة، فتلك عبادة العبيد، و إن قوما عبدوا الله شكرا، فتلك عبادة الأحرار» .
و كانت عبادته (ع) من النوع الأخير، حيث تصدر حصيلة للشعور بأهلية المعبود و استحقاقه لها ... أما إيقاف العبادة على حصول الثواب فحسب، فهي عبادة من وصفهم الإمام (ع) بالتجار، الذين يبتغون الثمن و ينتظرون التعويض، و شتان بين هدف الشاكرين، و هدف التجار في ميزان الله تعالى و حسابه.
______________________
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
منقول من موقع المعصومون الاربعة عشر