كرمه وجوده :
إنّ السخاء الحقيقي هو بذل الخير بداعيالخير، وبذل الإحسان بداعي الإحسان، وقد تجلّت هذه الصفة الرفيعة بأجلى مظاهرهاوأسمى معانيها في الإمام أبي محمد الحسن المجتبى(عليه السلام) حتى لُقّب بكريم أهلالبيت .
فقدكان لا يعرف للمال قيمةً سوى ما يردّ به جوع جائع، أو يكسو به عارياً، أو يغيث بهملهوفاً، أو يفي به دين غارم ، وقد كانت له جفان واسعة أعدّها للضيوف، ويقال: إنّهما قال لسائل «لا» قَطّ.
وقيلله : لأىّ شيء لا نراك تردّ سائلاً ؟ فأجاب : «إنّي لله سائل وفيه راغب، وأنا أستحيأن أكون سائلاً وأردّ سائلاً ، وإنّ الله عوّدني عادةً أن يفيض نعمه عليَّ ،وعوّدته أن أفيض نعمه على الناس، فأخشى إن قطعت العادة أن يمنعني العادة»[12] .
واجتاز (عليه السلام) يوماً على غلام أسود بين يديه رغيف يأكل منه لقمةويدفع لكلب كان عنده لقمة اُخرى ، فقال له الإمام : ما حملك على ذلك؟ فقال الغلام : إنّي لأستحي أن آكل ولا اُطعمه .
وهنارأى الإمام فيه خصلة حميدة، فأحبّ أن يجازيه على جميل صنعه، فقال له : لا تبرح منمكانك، ثم انطلق فاشتراه من مولاه، واشترى الحائط (البستان) الذي هو فيه، وأعتقهوملّكه إيّاه[13] .
ورويأنّ جارية حيّته بطاقة من ريحان، فقال (عليه السلام) لها : أنت حرّة لوجه الله،فلامه أنس على ذلك ، فأجابه(عليه السلام) : «أدّبنا الله فقال تعالى : (وإذاحُيّيتم بتحيّة فحيّوا بأحسن منها)[14] وكان أحسن منهاإعتاقها»[15].
ومنمكارم أخلاقه أنّه ما اشترى من أحد حائطاً ثمّ افتقر البائع إلاّ ردّه عليه وأردفهبالثمن معه .
وجاءه فقير يشكو حاله ولم يكن عنده شيء في ذلك اليوم فعزّ عليه الأمرواستحى من ردّه، فقال (عليه السلام) له : إنّي أدلّك على شيء يحصل لك منه الخير ،فقال الفقير يا ابن رسول الله ما هو؟ قال (عليه السلام) : اذهب الى الخليفة، فإنّابنته قد توفيت وانقطع عليها، وما سمع من أحد تعزيةً بليغة، فعزّه بهذه الكلماتيحصل لك منه الخير، قال: يا ابن رسول الله حفّظني إيّاها، قال (عليه السلام): قل له : «الحمد لله الذي سترها بجلوسك على قبرها، ولم يهتكها بجلوسها على قبرك»، وحفظالفقير هذه الكلمات وجاء الى الخليفة فعزّاه بها، فذهب عنه حزنه وأمر له بجائزة، ثمقال له : أكلامك هذا؟ فقال : لا، وإنّما هو كلام الإمام الحسن ، قال الخليفة : صدقتفإنّه معدن الكلام الفصيح، وأمر له بجائزةاُخرى[16].
لقدكان (عليه السلام) يمنح الفقراء برّه قبل أن يبوحوا بحوائجهم ويذكروا مديحهم، لئلايظهر عليهم ذلّ السؤال[17].
تواضعه وزهده :
إنّ التواضع دليل على كمال النفس وسموّهاوشرفها ، والتواضع لا يزيد العبد إلاّ رفعةً وعظمةً، وقد حذا الإمام الحسن (عليهالسلام) حذو جدّه وأبيه في أخلاقه الكريمة، وقد أثبت التاريخ بوادر كثيرة تشير الىسموّ الإمام في هذا الخلق الرفيع، نشير الى شيء منها :
أ ـاجتاز الإمام على جماعة من الفقراء قد وضعوا على الأرض كسيرات وهم قعود يلتقطونهاويأكلونها ، فقالوا له: هلمّ يابن بنت رسول الله الى الغذاء، فنزل(عليه السلام) وقال : «إنّ الله لا يحبّ المستكبرين»، وجعل يأكل معهم حتى اكتفوا والزاد على حالهببركته، ثم دعاهم الى ضيافته وأطعمهم وكساهم[18].
ب ـومرّ (عليه السلام) على صبيان يتناولون الطعام، فدعوه لمشاركتهم فأجابهم الى ذلك،ثم حملهم الى منزله فمنحهم برّه ومعروفه، وقال : «اليد لهم لأنّهم لم يجدوا غير ماأطعموني، ونحن نجد ما أعطيناهم»[19] .
ورفضالإمام جميع ملاذّ الحياة ومباهجها متّجهاً الى الدار الآخرة التي أعدّها اللهللمتّقين من عباده، فمن أهمّ مظاهر زهده : زهده في الملك طلباً لمرضاة الله،ويتجلّى ذلك إذا لاحظنا مدى حرص معاوية على الملك واستعماله لكلّ الأساليباللاأخلاقية للوصول الى السلطة، بينما نجد الإمام الحسن (عليه السلام) يتنازل عنالملك حينما لا يراه يحقّق شيئاً سوى إراقة دماءالمسلمين.
ومنجملة مظاهر زهده أيضاً: ما حدّث به مدرك بن زياد أنّه قال : كنّا في حيطان ابنعباس، فجاء ابن عبّاس وحسن وحسين فطافوا في تلك البساتين ثم جلسوا على ضفاف بعضالسواقي ، فقال الحسن : يا مدرك! هل عندك غذاء؟ فقلت له : نعم، ثم انطلقت فجئتهبخبز وشيء من الملح مع طاقتين من بقل، فأكل منه، وقال : يا مدرك! ما أطيب هذا؟ ،وجيء بعد ذلك بالطعام وكان في منتهى الحُسن، فالتفت (عليه السلام) الى مدرك وأمرهبأن يجمع الغلمان ويقدّم لهم الطعام، فدعاهم مدرك فأكلوا منه ولم يأكل الإمام منهشيئاً، فقال له مدرك : لماذا لا تأكل منه؟ فقال(عليه السلام) : «إنّ ذاك الطعامأحبّ عندي»[20].
* * *
--------------------------------------------------------------------------------
[1] اضطراب السليم من لسعة العقرب .
[2] راجع الأمالي للصدوق : 150 ، وبحار الأنوار : 43 / 331 .
[3] المناقب : 3 / 180، والبحار : 43 / 339 .
[4] بحار الأنوار: 43 / 339 ، وأخبار إصبهان : 1 / 44 .
[5] المناقب : 3 / 180 ، وبحار الأنوار : 43 / 339 .
[6] المصدر السابق .
[7] مهج الدعوات : 144.
[8] راجع البداية والنهاية : 8 / 42 ، طبعة دار إحياء التراث العربي 1408 هـ .
[9] حياة الإمام الحسن : 1 / 326 .
[10] بحار الأنوار : 43 / 352 .
[11] العوالم (الإمام الحسن) : 121 نقلاً عن المناقب : 3 / 184 .
[12] حياة الإمام الحسن : 1 / 316 ـ 317 عن أنساب الأشراف: 1 / 319 ، والطبقات الكبرى: 1 / 23 .
[13] راجع البداية والنهاية : 8 / 38 .
[14] النساء (4) : 86 .
[15] المناقب لابن شهر آشوب : 2 / 23 ، وحياة الإمام الحسن : 1 / 322 عنالخوارزمي.
[16] نور الأبصار : 135 ـ 136 .
[17] المصدر السابق : 325 ، وحياة الإمام الحسن: 1 / 325 .
[18] عوالم العلوم ( الإمام الحسن ) : 123 عن المناقب : 3 / 187 .
[19] حياة الإمام الحسن : 1 / 313 عن الصبان على هامش نور الأبصار : 196 .
[20] مختصر تاريخ دمشق : 7 / 21 ، طبعة دار الفكر .