السيدة زينب حفيدة الرسول (صلى الله عليه وآله) هي أول سيدة في دنيا الإسلام صنعت التاريخ، وأقامت صروح الحق والعدل، ونسفت قلاع الظلم والجور، وسجّلت في مواقفها المشرّفة شرفاً للإسلام وعزاً للمسلمين على امتداد التاريخ.
لقد أقامت سيدة النساء (بعد أمها) صروح النهضة الفكرية، ونشرت الوعي الديني في وقت تلبّدت فيه أفكار الجماهير وتخدّرت وخفي عليها الواقع، وذلك من جرّاء ما تنشره وسائل الحكم الأموي من أن الأمويين أعلام الإسلام وحماة الدين وقادة المتقين، فأفشلت مخططاتهم وأبطلت وسائل إعلامهم، وأبرزت بصورة إيجابية واقعهم الملوّث بالجرائم والموبقات وانتهاك حقوق الإنسان، كما دلّلت على خيانتهم وعدم شرعية حكمهم، وأنّهم سرقوا الحكم من أهله، وتسلّطوا على رقاب المسلمين بغير رضا ومشورة منهم. لقد أعلنت ذلك كلّه بخطبها الثورية الرائعة التي وضعت فيها النقاط على الحروف، وسلّطت الأضواء على جميع مخططاتهم السياسية وجرّدتها من جميع المقومات الشرعية وتجدست في حفيدة الرسول (صلى الله عليه وآله) جميع الصفات الكريمة والنزعات الشريفة، فكانت أروع مثلٍ للشرف والعفاف والكرامة ولكل ما تعتزّ به المرأة وتسمو به في دنيا الإسلام.
لقد ورثت العقيلة من جدّها الرسول (صلى الله عليه وآله) ومن أبيها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) جميع ما امتازوا به من المثل الكريمة، والذي كان من أبرزها الإيمان العميق بالله تعالى، فقد ضارعتهما العقيلة في هذه الظاهرة، وقد روى المؤرخون عن إيمانها صوراً مذهلة كان منها أنها صلّت ليلة الحادي عشر من محرم، وهي أقسى ليلة في تاريخ الإسلام، صلاة الشكر لله تعالى على هذه الكارثة الكبرى التي حلّت بهم والتي فيها خدمة للإسلام ورفع لكلمة التوحيد.
وكان من عظيم إيمانها وإنابتها إلى الله تعالى أنها في اليوم العاشر من المحرم وقفت على جثمان أخيها، وقد مزّقته سيوف الكفر ومثّلت به العصابة المجرمة، فقالت كلمتها الخالدة التي دارت مع الفلك وارتسمت فيه قائلةً: (اللهمّ تقبّل هذا القربان، وأثبه على عمله...).
تزول الدول وتفنى الحضارات وهذا الإيمان أحقّ بالبقاء وأجدر بالخلود من هذا الكوكب الذي نعيش عليه.
وأقسى كارثة مدمّرة أبتلي بها العالم الإسلامي في جميع مراحل تأريخه إقصاء أهل بيت النبوة ومعدن الرحمة عن المسرح السياسي، وتسليم قيادة الأمة ومقدّراتها إلى غيرهم، فقد اندفع قادة الانقلاب بعد وفاة القيادة المتمثلة بالنبي، بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) - فيما أجمع عليه المؤرخون - رافعين عقيرتهم قائلين: (لا تجتمع النبوة والخلافة في بيتٍ واحدٍ...).
ولم يحفلوا بوصايا النبي (صلى الله عليه وآله) في حقّ أهل بيته من أنهم سفن نجاة الأمة وأعلام هدايتها وباب حطتها، وقال فيهم: (لا تتقدموهم فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم).
وقرنهم بمحكم التنزيل فقال مكرراً: (إنّي تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله حبل ممدودٌ من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما...).
إن الإمعان والتدبّر في الوثائق السياسية التي ذكرها المؤرخون بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) تبدو فيها بصورة واضحة حقيقة المؤامرة ودوافعها التي دبرت ضد أهل البيت، والتي كان من أظهرها الحسد لعترة النبي (صلى الله عليه وآله) على ما منحهم الله من الفضل وما خصّهم من المنزلة والكرامة، مضافاً إلى التهالك على السلطة والاستيلاء على مقدّرات الدولة، وتُلقي هذه الدراسة الأضواء على ذلك بصورة أمينة وبعيدة عن المؤثرات التقليدية.
وحُرمت الأمة بجميع شرائحها من الانتهال من نمير علوم أهل البيت الذين هم خزنة علم النبي (صلى الله عليه وآله) وسدنة حكمته، فكان سيد العترة وعملاق الفكر الإسلامي الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بمعزلٍ تامٍ عن الحياة السياسية والعملية طيلة حكم الصحابة، ولما آل إليه الأمر وتقلّد زمام الحكم ثارت عليه الرأسمالية القرشية التي ناجزت الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، كما ثار عليه الطامعون والمنحرفون عن نهج الحقّ، فجرّعوه الغصص والآلام وشغلوه حتى عن نفسه، ومُني العالم الإسلامي بخسارة عظمى، فلم يفسح المجال لهذا الإمام الملهم العظيم أن ينشر علومه بين الناس. ومن المؤسف حقاً أن الأئمّة من بعده واجهوا المصير الذي لاقاه جدّهم الإمام أمير المؤمنين؛ فقد عمد الأمويون والعباسيون إلى حجبهم عن الأوساط الشعبية حتى لا تعرف قدراتهم العلمية، وكلّ هذه الضربات القاسية التي عانتها الأمّة من جراء فصل القيادة العامة عن أهل البيت (عليهم السلام)