يروى عن الإمام أبي عبد الله الصادق ، قال: كان عيسى بن مريم ، يقول لأصحابه: يا بني آدم، اهربوا من الدنيا إلى الله، وأخرجوا قلوبكم عنها، فإنكم لا تصلحون لها ولا تصلح لكم، ولا تبقون فيها ولا تبقى لكم، هي الخدَّاعة الفجَّاعة، المغرور مَنْ اغتر بها، المغبون مَنْ اطمأن إليها، الهالك مَنْ أحبها وأرادها، فتوبوا إلى بارئكم، واتقوا ربكم، واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا. ()
فالمسيح , كان دائم التجوال ولم يكن لديه بيت يأوي إليه ويستريح فيه, ولم يكن له زوجة تعيش إلى جانبه وتعينه على مكاره العيش ويأوي إلى جانبها في الهجيرة، ويستريح في الليل من عناء النهار.
في يوم من الأيام أمطرت السماء مطراً شديداً، وتحت أمطار السماء لا يوجد لعيسى ملجأ سوى اللجوء إلى مغارة في جبل مجاور، فاتجه نحوها.. ولما همَّ بالدخول إليها وإذا بأسد ضاري قد افترش المغارة معترضاً طريق الداخلين إليها، وتأثر عيسى وتوجه إلى الله سبحانه وتعالى قائلاً: إلهي لقد جعلت لكل أحد مأوى، (الناس عندهم مأوى، الوحوش لديهم مأوى)، وهذا الوحش مفترشاً الطريق، إلا ابن مريم؟ فأوحى إليه الله جل جلاله: يا عيسى، مأواك في كنفي يوم القيامة, (مأواك وأنعم به من مأوى، يوم لا ظل إلا ظله, في هذه الدنيا لم تكن لك زوجة), وإني مزوجك في الجنة زواجاً يحضره جميع الخلائق من الأولين والآخرين، وتستمر الحفلات أربعة آلاف عام, هذا هو مأواك !! ()
فعيسى , هكذا كان وضعه, وهكذا كانت حياته, إلى أن رفعه الله إليه في يوم من الأيام.
والعلامة المجلسي (رحمة الله عليه), ينقل هذه القضية()، ويقول: كان عيسى في يوم من الأيام يمشي مع حوارييه في الصحراء، فوصلوا قرب مدينة الحواريين، فرأوا هنالك كنزاً خارج المدينة، فقالوا لعيسى: نحن نأخذ هذا الكنز, قال لهم: خذوا هذا الكنز، ولكن أنا أذهب إلى داخل المدينة، ففيها كنز آخر، كنزي هناك أذهب وآتي به.
دخل المدينة وذهب إلى خربة فدخلها فرأى فيها عجوزاً وابنها, وكان زوجها متوفى، فجلس عيسى مع الابن فرآه يحمل في داخله هماً - وهناك بعض الأفراد عندما تجلس معهم وتنطلق بالحديث سترى أنهم يحملون في داخلهم هماً وحزناً وألماً, ولكنهم لا يظهرون ذلك وستكشف في حركاتهم وسكناتهم هماً وحزناً، طبعاً إن ذلك قد نهى عنه الشرع، فالمؤمن دائماً يجب أن يكون مبتسماً، ولو أن هموم الجبال على قلبك، ولكن عندما تدخل في بيتك أدخل بوجه ضاحك، لا تحمل أهلك وعائلتك همومك, دعهم بمنأى عن همومك ومشاكلك، لا تحمل أصدقائك همومك, إذا كان عندك هم ادفنه في قلبك, المؤمن حزنه في قلبه وبشره في وجهه () هذه طبيعة المؤمن، المؤمن حزين دائماً, خائف دائماً, ﭽ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﭼ ()
وهذا الشاب مستبشر دائماً وله حزن ظاهر, خاطبه عيسى: قل لي أنت ما لديك؟
قال: في الواقع أنا أذهب إلى الصحراء وآتي بالشوك والحطب وأبيعه وأعيش أنا وأمي.
في يوم من الأيام مررت على قصر الملك فرأيت بنت الملك, ومن ذلك اليوم بدأت هذه الرؤيا تؤرقني، وأنا أريد الزواج ببنت الملك ولا يوجد عندي طريق، وهذا الهم ليس له علاج إلا الموت!
فقال له عيسى : أنا أدبِّر لك القضية, أذهب غداً إلى الملك واخطب ابنته وقل له كم مهرها وأنا سآتي لك بالمهر.
وذهب الرجل إلى الملك و دخل عليه بأدب واحترام وخطب ابنته, فأجابه الملك بالقبول، فشرط عليه بكمية كبيرة من المجوهرات بشكل غير معقول.
فرجع إلى عيسى , فما كان من عيسى إلا أن أشار إلى الحجارة فتحولت إلى مجوهرات!! فليس ذلك بعيداً, مَنْ الذي حوَّلها؟ عيسى بأمر الله حولها, الله عز وجل خلقها، فما المانع, من أن الله يعطي القدرة لأحد أوليائه، ولا يحتاج لأن يكون نبياً، حتى ولي من أولياء الله يستطيع أن يفعل ذلك.. وفي الحديث القدسي: عبدي أطعني أجعلك مثلي،أو مثلي()
أخذ المجوهرات وذهب بها إلى الملك، فلما رآها طلب المزيد، فذهب وجاء بالمزيد منها، فتعجب الملك واختلى بالشاب وسأله ما هو السر الذي عنده ومن أين جاء بهذه المجوهرات الكثيرة؟ فشرح الشاب للملك وعرفه بالزائر الذي زاره وأن عليه سيماء الصالحين, وهو الذي توسط له في هذا الموضوع.
فقال له الملك: أدع لي ذلك الرجل، فجاء إليه عيسى وتكلم معه, وقال له الملك: ما عندي مانع من تزويج ابنتي لهذا الشاب، فزوجه وجعله ولياً لعهده, ثم جلس معه في اليوم الثاني فرآه شاباً عاقلاً ناضجاً يمكن أن يدير المملكة من بعده.
في اليوم الثالث توفي الملك فصار الشاب ملكاً، فجاءه عيسى لكي يودِّعه فقال له الملك الحطاب: أنت لك فضل كبير عليَّ، ولكن ليلة البارحة بدأ يؤرقني شيء جديد, فخطر في بالي، إنك الذي تملك هذه القدرة الكبيرة من التصرف في الكون، لماذا لا تكون أنت الملك؟ لماذا تختار عيشة التشرد وحياة الحرمان؟ فقال له عيسى : في الواقع إن العارف بالله وبالدار الآخرة، والعارف بهذه الدنيا لا ينظر إليها ويهتم بها.
ففي الأحاديث: إن الله لم يخلق خلقا أبغض إليه من الدنيا، و إنه لم ينظر إليها منذ خلقها.()
فالله لم ينظر إلى الدنيا من ابتداء خلقها إلى انتهائها لأنها لا تساوي عند الله مقدار جناح بعوضة، فالذي يعرف الله ويعرف تلك الدار ويعرف هذه الدار لا يهتم بهذه الدار، فيقول لنا عيسى: في الأنس بالله، والقرب إلى الله، وما أعده الله لنا في تلك الدار غنىً عن هذه الدار.
فقال الملك الشاب: إذاً فالقضية بهذه الكيفية! فأنا معك أيضاً.
وفي منتصف الليل ترك كل شيء! إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق, لأن الإنسان يخسر كل شيء، ولا يحصل على أي شيء، هذه هي الدنيا! !
ترك كل شيء وذهب مع عيسى، فجاء به إلى حوارييه، وقال لهم هذا هو الكنز الذي وعدتكم به, هذا هو الكنز.
الحقيقة، إن الإنسان يجب أن يعلم، يجب أن ينتبه قبل أن يفتح عينيه، حيث لا ينفعه الندم، كل هذه الأشياء لن تنفعنا بمقدار بعوضة, عندما نغمض عيوننا، أقرب المقربين إلينا لن ينفعنا، وكل شيء يتحول إلى عدو لنا، لأن ﭽﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﭼ ()
الأخلاء أعداء الإنسان، فما دام الإنسان في هذه الحياة يجب أن ينتبه ويستكثر من تلك الكمالات التي هي الواجبة الحقيقية.
قال أمير المؤمنين : يا نوف، طوبى للزاهدين في الدنيا و الراغبين في الآخرة، أولئك الذين اتخذوا الأرض بساطا، و ترابها فراشا، و ماءها طيبا.
يروى عن أحوال السيد الجد , أنه وعندما كان في أيام شبابه في سامراء، كان أصدقاؤه يذهبون في أيام الجمعة للترفيه، فكانوا يضغطون عليه للخروج معهم فكان يرفض ويقول لهم عندي شغل، وكان له ابن عمة فشك في أمره، إن هذا السيد أمره مريب لماذا لا يأتي معنا؟ لا بد أن له شيئاً خلف الستار؟
وفي إحدى الجُمَع خرجوا للترفيه، فاختبأ ابن عمته لمراقبته، فرآه قد لبس عباءته على رأسه حتى لا يعرفه أحد، وكان الكثير من المقدسين في النجف وكربلاء يعملون ذلك, يضعون عباءاتهم على عمائمهم حتى لا يعرفهم أحد.
فتعقب السيد في طرق ملتوية فازداد شكه به وصار يقول: أين يذهب هذا؟ فرآه قد دخل مقبرة ونام بين قبرين وجعل يقول ( حتى إذا جاء أحدهم الموت قال ربِ ارجعُونِ* لعلي أعملُ صالحاً فيما تركت ))
هذا الكلام موجه لنا، لجميعنا.. نحن عندما نموت نقول: ((ربِ ارجعُونِ))
ثم يبكي السيد ويقول: قد أرجعناك، فقم واستأنف العمل!
نحن الآن ما دمنا في هذه النشأة يجب أن نغتنم الفرصة، قبل أن تقول: ((ربِ ارجعُونِ)) فيقول (كلا إنها كلمةٌ هُو قائِلُها))
نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينبهنا من نومة الغافلين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.