تحقيق «نهج البلاغة» واقتراح منهج جديد
دأبت المحافل العلمية في تكريم ذكريات الأدباء والمفكرين على تقديم بحوث تدور حول موضع من الموضوعات التي اهتموا بها وتعرضوا اليها، بهدف اغنائها وتعميق دراستها. والبحث التالي هو في الاصل كلمة اعدت للالقاء في اربعينية العالم والاديب السيد عبد الزهراء الخطيب مؤلـف كتاب «مصادر نهـج البلاغـة وأسانيده»:
اهتم المسلمون بجمع القرآن الكريم في حياة رسول الله (ص) والخلفاء الراشدين، ثم انهم جمعوا احاديث النبي (ص) في الفترة ذاتها(2). ومر زمن قبل ان تظهر لهم عناية بجمع كلام أمير المؤمنين، وحصل اكثر ذلك في ايام العباسيين. ويذكر المحقق السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب في كتابه «مصادر نهج البلاغة وأسانيده»(3).
استناداً إلى القمي في «سفينة البحار» ان الحارث الاعور، وهو من خلّص صحابة الامام علي (ع) كان يدون خطب الامام ساعة القائها. وقد توفي الحارث سنة 65هـ، كما ان الاصبغ بن نباتة المجاشعي الذي كان من شرطة الخميس وله صحبة مع علي، روى للناس عهده إلى مالك الاشتر ووصيته لمحمد بن الحنفية. وهناك غيرهما من
2- قيل ان عبدالله بن عمرو بن العاص «ت 65» جمع من احاديث الرسول «ص» صحيفة سماها بـ «الصادقة» ضمّت الف حديث، كتبها في حياة الرسول «ص» وباذن منه، راجع: علي حسين الجابري: الفكر السلفي عند الشيعة الاثنا عشرية، ص 63. وقارن هذا بما ذكره ابن سعد في طبقاته عن الزهري، قال: اراد عمر ان يكتب السنن فاستخار الله شهراً، ثم اصبح وقد عزم له، فقال: ذكرت قوماً كتبوا كتاباً فأقبلوا عليه وتركوا كتاب الله «نقلناه عن مصطفى عبدالرزاق: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، مطبعة لجنة التأليف والنشر، القاهرة، ط3، 1966، ص 194، مما يثبت ان التدوين الرسمي للحديث لم يتم في عهد الخليفتين الاول والثاني «رض» ولا يمنع هذا من وجود محاولات فردية.
3- السيد عبدالزهراء الحسيني الخطيب: مصادر نهج البلاغة وأسانيده، دار الاضواء، بيروت، ط3، 1985، ج1، ص 49. ويورد الكليني «ت» في «أصول الكافي» خطبة للامام علي «ع» يقول انها منقولة من كتاب الحارث الاعور «ج1، ص 242»، ومعنى هذا ان الكتاب معروف في زمنه، وربما اشار إليه مباشرة أو بالواسطة.
الرواة، حتى ان الجاحظ (ت255هـ) قال: ان خطب علي بن ابي طالب كانت مدونة محفوظة مشهورة، وانتقى منها «مائة كلمة لامير المؤمنين علي بن ابي طالب». وقد كانت هذه الرسالة الموجزة دافعاً للامدي من علماء القرن الخامس الهجري ومتأخر عن الرضي) في تأليف كتابه «غرر الحكم ودرر الكلم»(1)، فقد اغضبه ايجاز الجاحظ في نقله مع سعة اطلاعه، فقال: «فقلت: يا لله وللعجب من هذا الرجل وهو علاّمة زمانه، ووحيد اقرانه مع تقدمه في العلم، وتسنمه ذروة الفهم، وقربه من الصدر الاول، وضربه في الفضل بالقدح الافضل والقصد الاجزل، كيف عشى عن البدر المنير، ورضي من الكثير باليسير». ونستفيد من هذا كله ان هناك اتصالاً في الرواية عنه (ع) والتصنيف في كلامه الشريف.(2)
والتأليفات في هذا الباب كثيرة، ذكر اغلبها، ان لم يكن اتى عليها السيد الخطيب في كتابه. على ان الكتاب الجامع الذي تميز بالشمول، فضم الخطب والرسائل والوصايا والحكم والامثال، هو كتاب «نهج البلاغة». وقد اصبح الكتاب مذ جمعه السيد الشريف الرضي (ت406هـ) موضع بحث ودراسة، انفرد من بينها بالشهرة شرح ابن أبي الحديد المعتزلي (ت656هـ). وقد وضعه بتكليف من الوزير الشيعي ابي طالب محمد بن احمد بن محمد العلقمي. ولم يذكر المؤلف في المقدمة عنوان الكتاب واكتفى بالاشارة إلى انّه الشرح الذي طلبه منه ابن العلقمي وانّه كان يبغي وضع شرح موجز «فرأى ان هذه النغبة لا تشفي اواما ولا تزيد الحائم الا حياما، فتنكب ذلك المسلك ورفض ذلك المنهج وبسط القول في شرحه بسطاً اشتمل على الغريب والمعاني وعلم البيان وما عساه يشتبه ويشكل من الاعراب والتصريف واورد في كل موضع ما يطابقه من النظائر والاشباه نثراً ونظماً وذكر ما يتضمنه من السير والوقائع والاحداث فصلاً فصلاً واشار إلى ما ينطوي عليه من دقائق علم التوحيد والعدل اشارة خفيفة ولوّح إلى ما يستدعي الشرح ذكره من الانساب والامثال والنكت تلويحات لطيفة ورصعه من المواعظ الزهدية والزواجر الدينية والحكم النفيسة والاداب الخلقية المناسبة لفقره والمشاكلة لدرره والمنتظمة مع معانيه في سمط والمتسقة مع جواهره في لط، بما يهزأ بشنوف النّضار، ويخجل قطع الرّوض غبّ القطار. واوضح ما يومي إليه من المسائل الفقهية وبرهن على ان كثيراً من فصوله داخل في باب المعجزات المحمدية لاشتمالها على الاخبار الغيبية وخروجها عن وسع الطبيعة
1- غرر الحكم ودرر الكلم للشيخ ناصح الدين عبدالواحد بن محمد الآمدي، صدر في بيروت بجزئين عن «دار الأعلمي» وبتقديم للشيخ حسين الاعلمي لا يتجاوز الصفحة والنصف ولا تفي المقدمة بشيء من منية الطلب ولهفة الراغب ولا تشتمل الطبعة على أي جهد في التحقيق وانما اكتفى بنقل النص وضبط شكله فحسب، وهذه مأساة التراث الادبي الامامي. انظر مثلاً كشكول البهائي تجد انّه لم يحقق على الاطلاق، بالرغم من المقدمات التي كتبت لطبعاته المختلفة، وما تزال النصوص الشعرية الفارسية فيه غير معرّبة. وكذا الامر مع كشكول الشيخ يوسف البحراني، و«زهر» السيد نعمة الله الجزائري الذي اصبح لا يطلب إلاّ لأجل غرض واحد مفهوم للجميع، في حال ان هذه الكتب الثلاثة تفيدنا بمعلومات قيمة عن اوضاع العلماء الفكرية والاجتماعية في العصر الصفوي. واما كتاب «أعيان الشيعة» في طبعته الجديدة فهو لا يشتمل على الفهارس العلمية وليس هناك جهد يذكر في تحقيقه.
2- اطلعت اثناء اعدادي لهذا البحث على رسالة موجزة اعتنى بنقلها إلى الحرف اللاتيني مستشرق بولندي، ونشرها مع تقديم موجز عام 1968 اي بعد صدور كتاب «مصادر نهج البلاغة وأسانيده» بعام، والرسالة بعنوان «ماية كلمة في حكم مختلفة من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: برسم خزانة المقام الشريف السلطان المالك الملك الاشرف قانصوه الغوري عزّ نصره» وتحت كل حكمة تعليق أو شرح باللغة التركية، والغوري هو السلطان الملك الاشرف قانصوه بن عبدالله الجركسي، ملك مصر والشام وتوفي عام 922هـ.
البشرية. وبيّن من مقامات العارفين التي يرمز إليها في كلامه مالا يعقله الا العالمون ولا يدركه الا الروحانيون المقربون وكشف عن مقاصده عليه السلام في لفظة يرسلها ومعضلة يكني عنها وغاضمة يعرّض بها وخفايا يحجم بذكرها وهنات تجيش في صدره فينفث بها نفث المصدور ومرمضات مؤلمات يشكوها فيستريح بشكواها استراحة المكروب، فخرج هذا الكتاب كاملاً في فنه، واحداً بين ابناء جنسه، ممتعاً بمحاسنه، جليلة فوائده، شريفة مقاصده، عظيماً شأنه، عالية منزلته ومكانته، ولا عجب ان يتقرب بسيد الكتب إلى سيد الملوك»(1).
واخترت هذا النص على طوله لأنّه خير تقييم للكتاب من خير عالم باموره وقضاياه، ولانه تقييم ضمني لموضوعه، الا وهو كتاب «نهج البلاغة»، وشهادة بحق صاحبه امير المؤمنين علي(ع) وبيان ان علمه يخرج «عن وسع الطبيعة البشرية». ولم يتقدم على ابن ابي الحديد في شرحه، من حيث الزمن، الا القطب الراوندي وهو من علماء الامامية وقد اخذ عليه ابن ابي الحديد انّه «.. لم يكن من رجال هذا الكتاب لاقتصاره مدة عمره على الاشتغال بعلم الفقه وحده، وأنّى للفقيه ان يشرح هذه الفنون المتنوعة ويخوض هذه العلوم المتشعبة».
وما يهمنا هنا، هو ان ابن ابي الحديد لم يشك بانه يشرح كلام امير المؤمنين علي (ع) ولم تختلط عليه نسبة الكتاب، كما سيشك غيره من المغرضين. وهناك واقعة بسيطة في ثنايا الكتاب تؤيد هذا المعنى، فالمعروف ان اعنف خطبة في النهج جميعه، هي الخطبة الشقشقية، وستكون بلية الشريف الرضي انّه اوردها في الكتاب لان الامام عليه السلام يتكلم فيها عن سلب الخلافة منه، وهي التي تبدأ بقوله: «اما والله لقد تقمصها ابن ابي قحافة، وانّه ليعلم ان محلي منها محل القطب من الرّحى، ينحدر عني السيل، ولا يرقي إليّ الطير» وتتصاعد بشكل درامي مثير حتى تنتهي بالكلمة الفاصلة قبل ان تسدل الستارة «اما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ان لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها ولألفيتم دنياكم هذه ازهد عندي من عفطة عنز». وفي هذه اللحظة يدخل رجل من أهل السواد ليغيّر المشهد بكامله «فناوله كتاباً فاقبل ينظر فيه، قال له ابن عباس رضي الله عنهما: يا امير المؤمنين لو اطردت خطبتك من حيث أفضيت، فقال: هيهات يا ابن عباس تلك شقشقة هدرت ثم قرّت، قال ابن عباس: فوالله ما اسفت على كلام قط كأسفي على هذا الكلام ان لا يكون امير المؤمنين عليه السلام بلغ منه حيث اراد»(2).