اعتاد المهاجر أن يلتقط صور الحب .. أنّا كانت وكيف كانت .
المهاجر حاله كحال الفنانين والرسامين الذين تستهويهم عيون المحبين حينما تلمع فيها وجوه من يحبون ..
اليوم .. في مدينتي الحبيبة _ كربلاء _ راعني منظراً مختلفاً عن الحب ..
ولم يكن من محمد إلا أن يقف صاغراً أمام هذه الصورة التي يسطرها عاشقون الحسين عليه السلام ..
أي لهفةٍ تلك تدفعهم إلى محبوبهم ؟؟!!!
وأيّ لهيبٍ هذا الذي أذاب القلوب ..
لم يكن من المهاجر إلا أن يصمت في حضرة الجمال تلك .. ولكن ..
الرسامون يلجأون أحياناً إلى لوحاتهم ليريحوا أنفسهم ليس إلاّ ..
وسطرتُ تلك السطور التي جاءت مندفعة وعلى عجالة .. أعتذر منكم لارتباكها ..
وقفت أنظر إلى المجاميع التي تحث السير إلى كربلاء .. وكأنها تريدُ أن تسبق الزمن ، فلهفتهم للقاء كربلاء باديةً على وجوههم المتعبة ومشهد كربلاء كأنه لا يزالُ معلّقاً في السماء يريدون اللحاق به ، وكأنّ عطشَ الحسين لا زال يطوّقُ الفرات الذي طفحَتْ ضِفافُه دماً ، ولاذتْ مياهُهُ إلى قيعانهِ هرباً لأنّ شبحَ العطاشا لا زال عالقاً بشطآنهِ التي كانت شاهدةً على جريمة العصر الكبرى .
وراعني من هذه المجاميع صورةَ شيخٍ مُثقلِ الخُطى يتابعُ سيره بأنينٍ يُخفيه تارةً ويُظهرُهُ تارةً أخرى ، تتناثرُ ذكرياتُه على الثرى ولكنه سرعان ما يلملمها لتدورَ في فلكِ كربلاء .
يمشي ويتمّم الخُطى لاحقاً بالشباب الذين خلّفوه وراءهم ، يحثُّ الخُطى حتى يشاركهم عنفوانهم الحسيني فهم يرفعون الأيادي عاليةً ويضربون الصدور يريدون أن يوقضوا هذه الصدور لتشاركهم أحزانهم على الحسين .
أمّا صاحبنا الشيخ فيرددُ من خلفهم القصائد والأهازيج بصوتٍ خاوي القُوى يحاولُ أن يشدّ من يده كي تطولَ صدره ليفعل كما يفعلون ولكنّه لم يستطع لأنّ تعبَ السنين أخذ منه كلّ مأخذ .
بدأت خطواتهُ تتقهقر شيئاً فشيئاً وأصبح مدى المسافة يتّسع ما بينه وبين الشباب الذين لم يكونوا راغبين بمجيئه معهم خوفاً عليه ولكي لا يؤخّرهم عن الوصول إلى كربلاء .
سوف نتابع المسير مع هذا الشيخ إلى كربلاء ..
وهوى الشيخ إلى الأرض وبينما يداه تمسّان الثرى أحسّ ببرودةٍ تندسّ بين أضلاعة وتنسابُ إلى قدميه المتورمتان والتي أصبحتا كجذوةٍ تتسعّر في جسمه النحيف .
وما لبث إلا قليلاً حتى أخذ يوهم نفسه أنه لا زال قوياً وأنه قادر على السير إلى كربلاء مشياً كما كان يفعل أيام شبابه .
فأخذ يجولُ بنظره في كل الأتجاهات فلم يجد في الطريق أحداً يعينه على النهوض ، فتشابكت قواهُ واستعان بالأرض للنهوض ولكنه أحسّ أنه لو قام لتساقط قطعاً على الأرض من شدّة التعب ثم استقرّ واقفاً على قدميه .
ورمق السماء بطرفه وتمنى لو أنّ يداً من وراء الغيب تمتدُّ لتأخذه إلى كربلاء أحسّ حينها بالعجز عن إكمال سيره
إلى كربلاء فاتجه صوب قبر الحسين عليه السلام وتذكر صور كربلاء المؤلمة وأخذ ينعى بلهجته الجنوبية :
يحسين رجّعنه الزمن للغاضريه
يحسين أيتام اوغرايب هاشمية
وصرخات الضعينه
يا خويه انسبينه
أيتام اوغرايب هاشمية
أجهش بعدها بالبكاء على مصيبة أبي عبدالله وعلى حال السبايا من بعده وتفجّرت أحاسيسه حزناً وروّت دموعه خدّه المغبر وخال نفسه دوحاً يطوف على قبر الحسين ليرى الشمر جالساً على صدره الشريف حيث لم تكفهِ نزفُ دماء أبي عبدالله ولم تكفهِ السهام التي مزّقت جسده الشريف ، لم يكتفِ بهذا كله فأخذت يده تمتد لنحر الحسين .. لنحر الحسين .. لنحر الحسين ..
سلامٌ على يومك الزاهرُ بالتضحيات
سلامٌ على غدك المرتجى
سلامٌ على المُهجِ الطاهرات
التي تسيلُ دماً هادرا
آمنتُ بك لا من وحيِ العقيدةِ وحدَها ولكن بما قطّعوهُ من الأشلاءِ
آمنتُ بك إيمانَ الحبيبِ بحبه لمّا رأى جسداً مُرمى على البطحاءِ
آمنتُ بك إيمانَ النهارِ بشمسهِ يا من بكى عليه كلّ رائي
آمنتُ بك إيمان الدماءِ بحقها يا من بكاهُ آدمُ ونعتْه حوّاء